طرح د. عبدالله الغذامي مفهوم «النسق الثقافي» بوصفه عنصرًا من عناصر الاتصال أضافه إلى الأنموذج الاتصالي الألسني التقليدي الذي كان طوّره جاكبسون بعد إفادته من نظريات الاتصال الهندسي والإعلامي؛ ليصبح الأنموذج في نظره على هذا الشكل: الشفرة السياق المرسل ................... الرسالة ................. المستقبل قناة الاتصال «العنصر النسقي» وهذا العنصر النسقي هو العنصر السابع الذي أضافه وربط به وظيفة سابعة -في نظره- تقوم بها اللغة؛ وهي ما سماه «الوظيفة النسقية»؛ وذلك حينما يكون التركيز على العنصر النسقي (1). ويأتي رأيه هذا في ضمن ما يُسمى بالنقد الثقافي الذي برز في الغرب في سبعينيات القرن الميلادي المنصرم بوصفه اختصاصًا مستقلًا عن الدراسات الثقافية السابقة التي ترجع في الغرب إلى القرن الثامن عشر (2) . وقد وُجّهتْ ملحوظات عديدة إلى دراسات الغذامي في النقد الثقافي بصفة عامة (3)، كما وُجهتْ ملحوظات أخرى إلى رأيه في «العنصر النسقي» و»الوظيفة النسقية» (3)، وهما المفهومان اللذان أقام عليهما ما سماه مشروعه في النقد الثقافي (4). والمقصود هنا هو مناقشة رأيه فيما سماه «العنصر النسقي» بوصفه عنصرًا من عناصر الاتصال، وفيما سماه «الوظيفة النسقية» التي نسبها إلى هذا العنصر. يرى عبدالنبي اصطيف أن أهم خلل يوجه إلى مشروع الغذامي في الدعوة إلى النقد الثقافي وإحلاله بديلًا جذريًا عن النقد الأدبي يتمثل في أمرين: الأول: إقحامه عنصر النسق الثقافي على أنموذج الاتصال وهو لا يحق له ذلك! متسائلًا في تعجب: «كيف يمكن لناقد أن يضيف عنصرًا جديدًا إلى أنموذج اختطه عالم لغة مقارن خبير بعدد معتبر من اللغات والتقاليد الأدبية والنقدية والثقافية دون أن يفكر في عقابيل هذه الإضافة. هذا إذا كانت الإضافة ممكنة في المقام الأول» (5)، وقائلًا: «إن النماذج النظرية... لا يمكن لنا أن نضيف إليها ما نشاء ونحذف منها ما نشاء» (5). وأن إضافته -يضيف اصطيف: «ينبغي أن تستند إلى مسوغات تنطلق من عملية الاتصال ذاته وليس من مجرد الرغبة في الإضافة. نعم قد تكون الرغبة متفهمة ولكنها بالتأكيد غير مقبولة منهجيا» (5). الثاني: إغفال الغذامي على نحو لا يكاد يصدق لتعريف مفهوم النسق الثقافي، مع أنه مفهوم مركزي في دعوته، ولا سيما أنه ينسب إليه الكثير من المفاهيم الأخرى، مثل «المكبوت النسقي» و»المكون النسقي» و»الحس النسقي» و»الدلالة النسقية» و»المضمر النسقي» و»النمط المتمكن»... إلخ (6)، ويقول: «لا شيء [في كتاب الغذامي عن النقد الثقافي] محددًا وواضحًا ودقيقًا يثلج صدر القارئ الذي عِيل صبره انتظارًا لوعود الغذامي.. وهو ينتظر القيم الدلالية والسمات الاصطلاحية الخاصة بمفهوم النسق..» (6). ويرى أن عمل الغذامي في النقد الثقافي «مقترح متعجل لمفهوم لم يتضح تمام الاتضاح لصاحبه نفسه [!] وبالتالي فإنه من الصعوبة بمكان توضيحه للآخرين وإقناعهم بجدواه، ولا سيما أنه لا يُقدّم من خلال إجراء سليم معافى في البحث والتنقيب» (6). ويرى مؤلفا «دليل الناقد الأدبي» غرابة جمع الغذامي بين التاريخية والأزلية معًا في تعريف الأنساق الثقافية حينما قال: «أنساق تاريخية وراسخة ولها الغلبة دائما»؛ فالتاريخ مقيد والأزل غير ذلك. (7). ويريان ثلاث ملحوظات رئيسة في محاولة الغذامي، هي: الأولى: تعميمه في قراءة الأنساق التي تحدّث عنها، وهي أنساق محصورة في الجانب السلبي وتحول المديح إلى استجداء ونفاق، والفخر إلى تضخم الذات... إلخ. الثانية: محدودية الأمثلة وانحصارها في الأدب والشعر بشكل خاص. الثالثة: غياب المقارنة الثقافية بالأنساق الأخرى التي تخالف النسق الذي يرسمه للشعراء الرسميين المنافقين، كالشعراء الصعاليك والمتصوفة. إضافة إلى غياب الأنساق غير الأدبية، كأنساق الفلسفة والعلوم الإسلامية والتاريخ والجغرافيا والعلوم البحتة، فهل رواد هذه العلوم كانوا نسقيين بنفس الطريقة النسقية المعيبة المنسوبة للمتنبي وأبي تمام؟ أم أن النقد الثقافي ليس سوى نقد أدبي فقط؟ (8). كما يريان محاولة الغذامي تقع في مشكلات أخرى، وهي اعتقاده أن مشكلة النسق الثقافي محصورة في الثقافة العربية، في حين أنها معروفة في الثقافات الأخرى، كالأوروبية وغيرها. وكذلك مشكلة تهميشه للظروف الثقافية التاريخية التي تكتنف العيوب الثقافية التي تحدّث عنها، مما يجعل عمله نقدًا أخلاقيًا إلى حد كبير (8)، وكذلك عدم دقة بعض الأمثلة التي يسوقها (8). وقبل أن أتحدث عن موقفي الخاص أعلق على هذه النقدات التي وجهها هؤلاء النقاد إلى أقوال الغذامي في النسق والنسقية؛ فأقول: إن دعوى الإقحام وأنه لا يُقبل من أحد إضافة عنصر إلى أنموذج الاتصال التقليدي إلا بمسوغات معينة دعوى غير مقنعة؛ فالغذامي قد برّر إضافته بأن النسق الثقافي عنصر أساسي -في نظره- من عناصر الاتصال بين المرسل والمستقبل. واستحضار أنموذج الاتصال لفتة منهجية تُحسب له، وإن كان لم يوفق في الإضافة لما سنذكره لاحقًا. ثم إن جاكبسون نفسه قد نقل أنموذج الاتصال من الهندسة والإعلام وعدّل فيه بما يتواءم مع مجال الألسنية والشعرية (الأدبية). وأما مسألة التعميم وغياب المقارنات بالأنساق الثقافية من الحقول المعرفية الأخرى غير الأدب فهو قد صرح بأن كتاب «النقد الثقافي» خاص بدراسة الخطاب البلاغي قائلًا: «هذا لا يعني بحال أن الخطاب العقلاني العربي والمعاصر تحديدًا قد نجا من النسقية والتشعرن، وهذا مبحث سنخص له دراسة تتوفر عليه في كتاب يلحق هذا الكتاب» (9). أما الملحوظة المتعلقة بغياب مفهوم واضح ومحدد للنسق الثقافي فهي ملحوظة في محلها، وإن حاول الغذامي تقديم تعريف واصف عن طريق بيان وظيفة النسق، لكنه لم ينجح في ذلك كما سنبيّن بعد قليل. أما موقفنا الخاص فنتكلم عنه فيما يلي: إن حديث الغذامي عن النسق المضمر والوظيفة النسقية والنقد الثقافي بصفة عامة عليه مؤاخذات خطيرة غير قضية عدم التعريف المنهجي، وأذكر أهم هذه المؤاخذات فيما يلي: أولًا: لم يعرّف النسق المضمر إلا من خلال حديثه عن وظيفته، وهذا غير كاف؛ فقد حدد الوظيفة النسقية بأنها ما توافر فيه ما يلي: أ نسقان يحدثان معًا وفي آنٍ، في نص واحد أو فيما هو بحكم النص الواحد. ب يكون المضمر منهما نقيضًا ومضادًا للعلني، فإن لم يكن هناك نسق مضمر من تحت العلني فحينئذٍ لا يدخل النص في مجال النقد الثقافي كما نحدد هنا. ج لا بد أن يكون النص جميلًا وأن يستهلك بوصفه جميلًا، بوصف الجمالية من أخطر حيل الثقافة لتمرير أنساقها وإدامتها. د ولابد أن يكون النص جماهيريًا ويحظى بمقروئية عريضة، وذلك لكي نرى ما للأنساق من فعل عمومي ضارب في الذهن الاجتماعي والثقافي. هذه شروط أربعة إذا ما توافرت نكون أمام حالة من حالات الوظيفة النسقية وبالتالي فهي لحظة من لحظات النقد الثقافي» (10). فنراه هنا جعل مناط «النسق الثقافي» هو وجود نسقين متعارضين متناقضين؛ أحدهما معلن والآخر مضمر، والثاني ينسخ الأول، وهذا التوصيف يُوقِع في استحالة عقلية هي ما يسميه المناطقة بالدور؛ إذْ أحال في تعريف المجهول إلى مجهول! ثم لو سلّمنا بكفاية التوصيفين «أ» و»ب» لتعريف النسق لما كان مع هذا تعريفًا منضبطًا مفيدًا بحيث يعيننا على تمييز النسق من غير النسق؛ فما المعيار الذي على ضوئه نجعل المعلن معلنًا والمضمر مضمرًا؟ وما المبرر الذي يسوّغ لنا نسبة صفة النسخ إلى المضمر دون المعلن والمنسوخ إلى المعلن دون المضمر؟ ثانيًا: إن النسق الذي تحدث عنه الغذامي هو بحسب توصيفه وشرحه في الكتاب كله -خاصة الجزء النظري، الفصل الثاني- حالة مرَضية تُصاب بها الثقافة ومن ثم تصاب بها علاقات الاتصال الثقافي، وقد عبر الغذامي نفسه عن هذا المعنى بوصفه لهذه الحالة النسقية بأنها «عيوب» و»جراثيم» و»علل» و»قبْحيّات» و»عوائق حضارية» و»عمًى ثقافي» في مواضع كثيرة من كتابه (11)، والمعضلة تأتي من الجمع بين كون هذا النسق الموصوف عنصرًا أساسيًا من عناصر الاتصال -بحسب رأيه (12)- وكونه علة مضمرة خطيرة وجرثومة ثقافية وعائقًا حضاريًا وعمًى ثقافيا ... إلخ!! وهي معضلة تنخر في صلب النظرية التي يطرحها؛ بل تنقضها من أساسها؛ وذلك لاستحالة أن تكون الحالة المرضية (بل المزمنة في توصيفه) عنصرًا اتصاليًا دائمًا في الثقافة؛ مثلها مثل المرسل والمستقبل والرسالة والسياق والشفرة والقناة!! ذلك بأن هذه العناصر دائمة أزلية في كينونة الاتصال الثقافي، بخلاف «النسق الغذامي»؛ فإنه -بحسب ما يصوره تحليله ونقده- حالة خاصة وطارئة ومرتبطة بظروف فكرية وثقافية معينة؛ هي كما يذكر سيادة نسق واحد، فكيف يُجعَل مع هذا عنصرًا أزليًا (13) يُحشر مع عناصر الاتصال الثقافية الحقيقة بوصف الأزلية؟! هذا مع اعترافه بأنه حالةٌ جرثومية مرضية، فهل الجراثيم والأمراض والعوائق أركان أزلية ودائمة في العلاقات الإنسانية الثقافية؟!! ثالثًا: مؤاخذة ثالثة تضع العديد من الاستفهامات، وتثير العديد من الشكوك حول أساس فكرة النسق والنسقية؛ فالحق أن قارئ كتاب النقد الثقافي وما لحقه من أعمال تطبيقية لفكرة النسق والنسقية والتعارض النسقي والنسخ النسقي وردود الأفعال النسقية، مما ظهر في كتابَيْ «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية» و»الثقافة التلفزيوينة؛ سقوط النخبة وبروز الشعبي» ومقالات صحفية أخرى (14) مما قارب مجموع هذا كله ألف صفحة؛ إن قارئ هذه الأعمال جميعها يبلغ منه العجب مبلغه حين يراها تتأسس على شيء غير محدد نظريا!! ولكن في الوقت نفسه -ومن هنا تثور الريبة- يراها تلاحق مشكلات فكرية ثقافية محسوسة!! هذه الأعمال تتشكى وتتألم من أمراض حقيقية تعاني منها الثقافة العربية، وقد تحدث عنها مفكرون سابقون، مستشرقون وعرب؛ كالشعرية والحَرْفيّة وانفصال الفكر عن العمل (الازدواجية) واختلال التوازن الثقافي وضروب الشلل الاجتماعي ونزعة الكمّيّة والشيئية وغيرها من عشرات الأمراض الفكرية والاجتماعية والسياسية التي عرض لها فيلسوف الثقافة الكبير مالك بن نبي رحمه الله وضمها تحت عناوين مختلفة مثل: «العيوب الكامنة» و»الأفكار الميتة» و»العوامل القتّالة والمميتة» و»فوضى القوى الخفية» و»المحرّكات الخفية» (15) ... إلخ، ولكن أعمال الغذامي تلك، مع تفانيها في الحديث عن هذه الأمراض من خلال الشعر والنثر قديمًا وحديثًا، ومن خلال «حكاية الحداثة» ومن خلال «الثقافة التلفزيونية» تعجز عن كتابة صفحة واحدة؛ بل فقرة واحدة توضح وتكشف علميًا فكرة «النسق المضمر»!! نحن إذًا فيما يبدو بصدد فكرة مقتبسة لا مبتكرة! لأنه من غير المفهوم أن يقود كل هذا الاهتمام والقلق الظاهر إلى ابتكار فكرة ثم يعجز مبتكرها بعد ذلك عن تعريفها وتوضيحها مقارنةً بالكم الكبير الذي كتبه عنها!! ولكن هذه مجرد علامة أولية لا تكفي بمجردها في إثبات شيء أو نفيه. إلا أن الاطلاع المتفحص على أعمال المفكر الثقافي والحضاري مالك بن نبي، وهو رائد الدراسات الحضارية والنقد الثقافي في العالم العربي المعاصر يكشف لنا جانبًا كبيرًا من الغموض في هذه القضية، ويظهر هذا من خلال الملحوظات والمقارنات التالية بين أعمال الغذامي في النقد الثقافي وأعمال مالك بن نبي في نقده للحضارة والثقافة التي تفيد التشابه بل التطابق إلى حدّ الاستنساخ أحيانًا دون أيّ إشارة!! ويتبين ذلك مما يلي: 1 إنه لغريب جدًّا أن يكتب الغذامي كتبًا نظرية وتطبيقية في نقد أنساق الثقافة العربية، والكشف عن أمراضها الخفية وتحليلها دون أن يجد القارئ مع هذا أي إشارة إلى رائد هذا النوع الفلسفي والنقدي في الدراسات الثقافية الحديثة وهو مالك بن نبي!! ومع أن لمالك كتبًا كثيرة في نقد الثقافة العربية وكشف عيوبها الخفية؛ وأحدها يحمل عنوانًا صريحًا في الموضوع وهو كتاب «مشكلة الثقافة»؛ مع ذلك لا نجد ابن نبي من ضمن مراجع الغذامي، وليس لهذا الكتاب ولا لغيره من أعمال هذا الرائد في النقد الثقافي أيّ ذكر أو إشارة في أيٍّ من أعمال الغذامي في نقد الثقافة!! هذا مع أن أفكار ابن نبي في نقد الثقافة العربية وتحليل أمراضها ومشكلاتها حاضرة في كتب الغذامي في نقد الثقافة حضورًا واضحًا جدًّا لمن عرفها!! ولا شك أن الغذامي مطلع جيد على كتب ابن نبي، بل معجب بها ومتأثرٌ لها إلى الحدّ الذي دفعه إلى وصف صاحبها بأنه: المفكر العظيم المتميز ذو المنهج الجديد المتبصر والكاشف عن الحقائق العظمى والدقيقة، وبأنه المفكر الدقيق ذو الرأي المحكم (16). 2 يذكر الغذامي أنه يعتمد في تعريف الثقافة على مفهوم قيرتز في أن الثقافة ليست مجرد حزمة من أنماط السلوك المحسوسة كما هو التصور العام لها، وليست العادات والتقاليد والأعراف؛ وإنما هي آليات الهيمنة من خطط وقوانين وتعليمات، ومهمتها التحكم في السلوك (17) وتوجيه المنظومات المعرفية والوجدانية والمسلكية (18)، في حين أن مالك بن نبي هو صاحب هذا التصور عن الثقافة؛ فقد تكلم وشرح كثيرًا ما خلاصتُه أن الثقافة نظرية في السلوك، وأنها هي التي تحدد العلاقة بين سلوك الفرد وأسلوب الحياة (19). وابن نبي سابق لقيرتز؛ فتاريخ صدور كتاب قيرتز الذي اعتمد عليه الغذامي هو عام 1973م، في حين أن ابن نبي قد شرح نظريته في الثقافة منذ عام 1947 في كتابه «شروط النهضة» (20)، ثم زادها شرحًا وتعميقًا في عام 1959 في كتابه «مشكلة الثقافة» (21)، وغير معقول ألا يكون الغذامي قد اطلع على كلام مالك السابق لقيرتز في هذا التصور المذكور للثقافة؛ فهو قد وصفه بالمفكر العظيم الدقيق ذي المنهج الجديد والمستبصر والكاشف عن الحقائق العظمى، وهذا يؤكد اطلاعه على كتبه، خاصة كتبه الوثيقة الصلة بموضوع كتابه في نقد أنساق الثقافة العربية! 3 إن فكرة «النسق المضمر الخفي» التي أقام عليها الغذامي كل أعماله في نقد الثقافة وجعلها عنصرًا سابعًا في أنموذج الاتصال هي فكرة مالكية خالصة! وكل من يقرأ أعمال مالك بن نبي بتروّ فإنه يجد هذه الفكرة من الأفكار الجوهرية لديه في نقد الثقافة والحضارة، وكذلك الأمر في بقية المفاهيم النظرية التي استعملها الغذامي بجانب مفهوم «النسق المضمر»، مثل: «التعارض أو التناقض النسقي» بين نسقين «ظاهر» و»مضمر»، و»العلل أو الأمراض أو الجراثيم أو العوائق الثقافية»، وأهمية إنشاء «علم علل» خاص بكشف علل الثقافة، والنظر إلى أفكار الثقافة بوصفها «كائنات حية» تؤثر وتتأثر في خفاء، والتركيز على مرض خطير من أمراض الثقافة العربية قديمًا وحديثًا وهو «الشَعْرَنة» (الشِعْريّة لدى مالك بن نبي)، وفكرة «الخدع والحيل الثقافية» التي تتوسل بها الأنساق الخفية المضمرة لتمرير الأفكار والسلوكيات المرضية، وفكرة «شكلية الحداثة» ورجعية أو تخلف مضمونها، إلى غير ذلك من أفكار ومفاهيم أقام الغذامي عليها ما سماه مشروعه في نقد الأنساق الثقافية المضمرة، في حين أننا نجدها لدى مالك بن نبي بألفاظها ومضامينها غالبًا، أو بمضامينها مع تغيير في ألفاظها أحيانًا!! فما تفسير ذلك؟! وعلى كلٍ، وتجنبًا لمزيد من الإطالة أكتفي بعرض مقارنة بين أهم المفاهيم المتعلقة بنقد أنساق الثقافة المضمرة الواردة لدى مالك بن نبي ولدى الغذامي، مع ملاحظة أني أورد المفهوم بين علامتي تنصيص إشارة إلى لفظه كما ورد لدى الرجلين. ولن أذكر أرقام الصفحات اختصارًا، ولأنه لا حاجة إليها في هذا المقام. فمن ذلك: 1 مالك بن نبي: «القوى الخفية»، «المحرك الخفيّ»، «التيار الخفي العميق»، «المعطى المضمر»، «النسق المتلكّئ» .. إلخ. الغذامي: «النسق المضمر»، «المحرك الخفي»، «الخفي المضمر»، «المحرك المضمر»، «المضمر العميق». 2 مالك بن نبي: «أمراض ثقافية»، «عيوب ثقافية جماعية»، «علمانية سطحية» (= مدنية مزيفة، تقدمية جوفاء)، «الشِعْريّة»، «نشاط أعمى»، «الرجل الأعمى»، «عيوب كامنة»، «جراثيم ثقافية»، «جرثومة وراثية»، «فيروس وراثي»، «أورام عقلية»، «الوثن السياسي» (= الزعيم، عبادة الرجل السماوي)، «اللغة الصامتة» (لغة الصراع الفكري) ... إلخ. الغذامي: «العيوب النسقية»، «شكلية الحداثة»، «العائق التحديثي»، «القبحيات»، «جرثومة قديمة»، «العمى الثقافي»، «الشِعْريّة» و»الشَعْرَنة»، «الصنم» (= الفحل)، «اختراع الصمت» (نسقية المعارضة).. إلخ. 3 مالك بن نبي: «علة مزدوجة»، «تعارض داخلي»، «متناقضات ثقافية جذرية»، «علم العلل» (= أثيولوجيا). الغذامي: «تناقضات نسقية»، «أنساق الرفض والمعارضة»، «علم العلل» (لكشف القبحيات). 4 مالك بن نبي: «الأفكار المقنّعة»، «القناع وما وراء القناع»، «أقنعة النخبة»، «خداع الطغيان».. إلخ. الغذامي: «حيل الثقافة»، «أقنعة ووسائل خفية».. إلخ. 5 مالك بن نبي: الأفكار بوصفها «كائنات حية». الغذامي: «الكائنات الشعرية والبلاغية». هذه أمثلة -مختصرة فقط!- من التماثلات والتطابقات بين المفاهيم الخاصة بنقد الأنساق والأمراض الثقافية الواردة في كتب ابن نبي والغذامي، وهي تفرض أسئلة ملحة أمام أصالة الأفكار والمفاهيم النظرية الأساسية التي أقام عليها الغذامي أعماله النظرية والتطبيقية في النقد الثقافي. إن كل ما سبق ذكره من مشكلات ومآخذ منهجية ومعرفية موجهة إلى فكرة «النسق المضمر» و»الوظيفة النسقية «لدى الغذامي تبيّن أن العنصر النسقي الذي أضافه إلى أنموذج الاتصال متوهمًا أنه عنصر اتصالي أساسي في الأنموذج ليس سوى «حالة مرضية» تعرض في العلاقات الثقافية، وتظهر في الأفكار والسلوك، وينعكس ذلك على علاقات اللغة والأدب وسائر أوجه النشاط الثقافي. وقد لاحظ الغذامي هذه الظواهر المرضية في الخطاب الأدبي والفكري العربي مفيدًا إفادة أساسية وكبرى من جهود مالك بن نبي دون أن يشير إلى ذلك أدنى إشارة! وأراد أن يمنح لعمله قيمة منهجية نظرية بجعل هذه الظواهر النسقية (كالشعرية والشكلية والصنمية والمعارضة الضمنية... إلخ) تحت عنصر جامع يشكّل ركنًا أساسيًا من أركان عملية الاتصال! وهو ما دعاه -أخْذًا من ابن نبي: «النسق المضمر»! وقد سبق بيان استحالة أن تكون الحالات المرضية عنصرًا أساسيًا أزليًا دائمًا من عناصر عملية الاتصال الإنساني في صورتها الطبيعية؛ بل الحالة المرضية عرَض طارئ على الحالات الطبيعية كما هو بدهي، تنشأ بعد أنْ لم تكن، وتزول بعد أنْ كانت. والواقع أن هذه الحالات المرضية التي لاحظها الغذامي بواسطة ابن نبي هي حالات واقعية في الثقافات كلها، ومنها الثقافة العربية في جوانبها الفكرية والأدبية وغيرهما، ولكنها علل وأمراض تعْرِض لما أسميه بالعرف الثقافي أو النمط الثقافي الحقيق بأن يكون عنصرًا اتصاليًا طبيعيًا من جملة عناصر الاتصال الثقافي (المرسل والمستقبل والرسالة والسياق والشفرة والقناة)، والحقيق بوصف الأزلية والرسوخ والدوام. وهذا العرف الثقافي بوصفه عنصرًا دائمًا كغيره من بقية العناصر الاتصالية الدائمة يعرض له ظروف ثقافية مختلفة ومتشابكة ومتغيرة تجعله يتقلب ما بين حالات القوة والضعف، الصحة والمرض، الحركة والجمود، المحافظة والتجديد،... إلخ ، في ضمن علاقات جدلية بين عناصر الاتصال الثقافي متنقلةً ما بين التوازن والاختلال، ومنعكسةً هذه الحالات الثقافية كلها على العلاقات اللغوية انعكاسًا صادقًا، وتفصيل هذا كله في عمل نقدي مبني على نظرية في علم اللغة الثقافي، أرجو أن يرى النور قريبًا. هوامش: (1) انظر: النقد الثقافي؛ قراءة في الأنساق الثقافية العربية، الغذامي 66. ويتكرر حديثه عن النسق والوظيفة النسقية من 63 89 دون تحديد منهجي لمفهوم النسق الثقافي! (2) انظر: دليل الناقد الأدبي، ميجان الرويلي وسعد البازعي 306. (3) مثل بحث عبدالنبي اصطيف في «نقد ثقافي أم نقد أدبي» الغذامي وعبدالنبي اصطيف 167 198، وثقافة النقد ونقد الثقافة لعبدالقادر الرباعي، مجلة عالم الفكر، مجلد 33، يناير مارس 2005، ص 243، ودليل الناقد الأدبي (مصدر سابق) 309 311، ومدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن، حفناوي بعلي 52 53، وغيرها من أبحاث ومقالات تنظر في كتاب «نقد ثقافي أم نقد أدبي» 199 201. (4) انظر: النقد الثقافي للغذامي 5 9. (5) نقد ثقافي أم نقد أدبي ؟ 192 194 . (6) السابق 189، 195 198. (7) دليل الناقد الأدبي 310 311. (8) السابق 310 311. (9) النقد الثقافي للغذامي 9. (10) السابق 77 78. (11) انظر مثلًا: النقد الثقافي 59، 80، 83، 84، 87، 89، 268. (12) انظر النقد الثقافي 64. (13) انظر السابق 79. (14) انظر مثلًا: إعلان موت النقد الأدبي؛ النقد الثقافي بديلًا منهجيًا عنه، في ضمن كتاب «نقد ثقافي أم نقد أدبي»، ومقال «النقد الثقافي؛ رؤية منهجية في نقد النسق ونقد الذات» صحيفة الرأي الأردنية 2/11/2001، ومقال «النقد الثقافي ونقد الثقافة» صحيفة الحياة (لندن) 16/5/2001، ومقال «النقد الثقافي؛ رؤية جديدة»، مجلة فصول، عدد 59، ربيع 2002. (15) هذه المفاهيم بنصها من أعمال مالك بن نبي في نقد الثقافة ومشكلات الحضارة. (16) انظر: ثقافة الأسئلة للغذامي 30. (17) انظر: النقد الثقافي 74. (18) الواقع الثقافي للإنسان العربي، للغذامي، في ضمن ندوة مستقبل الثقافة في العالم العربي، 1098. (19) انظر مثلًا: مشكلة الثقافة لابن نبي 73، 43، 49، وميلاد مجتمع له أيضًا 90. (20) انظر شروط النهضة لابن نبي 82 وما بعدها. (21) انظر مشكلة الثقافة لابن نبي 43، 49، 62، 73. (*) محاضر بجامعة الطائف