«في الطفل وحده تكمن الحرية»، يكتب الشاعر الألماني هولدرلين. ويتابع قائلاً إن سلطة القانون والقدر لا تثقل عليه، أما «اللون الحربائي» للكبار، فلا يعني غير سلطة العقل والقانون الأخلاقي. هل يقول أدورنو شيئاً آخر غير ذلك في «الجدل السلبي»؟ إن الحرية عند أدورنو ليست ما أنجزناه بل ما يجب أن ننجزه. لأن الحرية في المجتمع الرأسمالي مجرد وهم، وسيلة للسلطة، «أمر حمليّ» في لغة كانط، ومبدأ للسيطرة على الطبيعة والفرد. ينظر أدورنو إلى فلسفة التنوير كاستمرار لسياسة قمع وامتصاص كل غيرية. أسس كانط للحرية في العصور الحديثة، أو للمفهوم الحديث للحرية، ففي المعنَيَيْن، الكوسمولوجي والأخلاقي، يعتبر الحرية فكرة ترنسندنتالية أو وضعاً يسمح بالانطلاق من الذات أو التحرر من «الشروط الزمنية». إن الحرية في المعنى الكانطي ليست مفهوماً تجريبياً، بل هي فكرة للعقل، وهي معطاة مسبقاً عبر العقل. إن القانون، في هذا التصور، ما يصنع الذات، لأن حريّة الذات لا تتحقق إلا داخل القانون الأخلاقي وانطلاقاً منه. يتعلق الأمر هنا بحرية للقانون وليست للذات، ولا تعني الأوتونوميا أو حريّة الإرادة بالنسبة لكانط غير تجاوز للطبيعانية وخطرها أو تجاوز استلابنا من طرف الطبيعة. والطبيعة تعني بالنسبة إليه على الخصوص النزعات الطبيعية لدى الإنسان، أي كلّ ما يصنعه في نظر فيلسوف آخر هو نيتشه. ضد هذه النزعات أو الميول يؤسّس كانط للفعل انطلاقاً من الواجب، في انسجام مع القانون الأخلاقي. لهذا، يمكننا الحديث في هذا السياق عن نوع آخر من الاستلاب، لكنه استلاب مصدره القانون هذه المرة. فالعلاقة البشرية الواقعية غائبة عن هذا المفهوم. إن إعلاء فكرة الحرية الذي يعني التضحية بالعالم الحسّي، هو تضحية بالحرية في نظر أدورنو: «الحرية لا تتحقق إلا شاحبة في البنية الفوقية». لا توجد في رأي أدورنو حريّة إرادة ولكن، فقط إرادة حريّة، مشروطة تاريخياً، إذ فقط على أرض الواقع، وفي ما وراء المفهمة والشطط التجريدي، يمكن الحريّة أن تتحقق. ينتقد أدورنو مطلقية الذات ويدافع عن جدل مفتوح يتحقق في ما وراء فلسفة الوعي التي تلعب فيها الذات دوراً جوهرياً. إن الواقع التجريبي في فلسفة الوعي مجرد انعكاس للذات، إذ الذات وحدها، وكما الحال عند كانط وهوسرل، هي التي تكون هذا الواقع وتلبسه معنى. يتضمن المفهوم المجرد للحريّة عند كانط تهميشاً للغيرية والحسّي. إن الحريّة لا تملك أيادي في هذا السياق، بل لا تملك سوى أيادٍ محضة. لهذا السبب انتقد هيغل كانط، معتبراً أن أخلاقه مشوبة بالتناقض، «فمن أجل أن تحمي الإنسان من العبث بحريته، تريد منعه من الفعل. إن الخالص أو المحض - في فلسفة كانط - وحده الأخلاقي». لكن الحريّة بالنسبة إلى هيغل ليست بمسبق أخلاقي، بل ما يجب تحقيقه، وهي مستقلة عن كل أشكال السلطة وممكنة في «الكفاح من أجل الاعتراف» فقط، كتاريخ أو تقدم في التاريخ. إنها قانونها الخاص، القانون بامتياز كما وصف الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي ذلك. يرى أدورنو أن مركز القانون الأخلاقي الكانطي ذات مطلقة، محضة ولا جسد لها، وهو ما يمثل في نظره اختزالاً للموضوع، للعالم، ولغير الشبيه في الشبيه، أو في الذات التي تكوّن العالم تكويناً أحادي البعد، إمبريالي المعنى. يدعو أدورنو إلى أسبقية للموضوع أو «الآخر». هذه الأسبقية لا تتضمن تراتبية ما، لأن الذات والموضوع في نظره يقفان في علاقاتهما على قدم المساواة. أدورنو ينتقد الفصل الأعمى للأخلاق عن الطبيعة والبشر في «الأخلاق المجردة» لكانط. وينتقد، في توافق مع هيغل، التكوين المونادولوجي للأخلاق والارتفاع بالتفكير إلى مستوى النسق. إنه يرى أن الذات التجريبية وحدها قادرة على أن تتخذ قرار الحرية من عدمه. وربط العقل بالطبيعة، كما بيّن هابرماس، هو رفض الثنائية الكانطية المتمثلة في الحرية الترنسندنتالية من جهة والطبيعة من جهة ثانية. لا تكمن الحرية عند كانط إلا في الأنا النومينالية، ولا تكون الذات حرّة، إلا إذا تماهت إرادتها بالعقل. إن إرادتي الحرّة، في رأي كانط، تابعة للعقل، وهي لذلك تظل مرتبطة بعقل لا شخصي وغريب عن العالم. ولهذا، فإن هذه الإرادة لا تكتسب عبر هذه العلاقة جوهراً واقعياً، ولا تجري في عروقها حياة. بدلاً من ذلك، يرى أدورنو أن الحريّة الأخلاقية لا تتحقق إلا كحريّة معيشة في سياق التاريخ الحياتي للأشخاص. إنه يرفض ربط تجربة الحرية بعالم مجرد، بأنا خارج الطبيعة والتاريخ، لأن الأخلاق عنده مشروطة بالمجتمع الذي نعيش فيه. لذلك فإن نقد الحرية في هذا السياق يتضمن بالضرورة نقداً وتشريحاً للعلاقات الاجتماعية، يقوم على فضح ميكانيزمات السيطرة التي تقدّم نفسها كأساس أو كحامٍ للحرية.