في البدء كان قطارا بعربة واحدة، كانت الرحلة جميلة خفيفة؛ فكل شيء يحدث بسرعة، لا شيء يعلق بالذاكرة، وحده القلب يقود الطريق ببهجة الربيع دون عناء التفكير، مغترا ببهاء الألوان، ملوحا بيده للطيور الفاتنة والفراشات البديعة، حتى سأل مرة: متى سيتوقف القطار ؟ متى سنتوقف للاستراحة؟ كيف تبدو نهاية الرحلة؟ أين سيحط القطار؟ لكن أشجار الطريق كانت تلتهم هذه الأسئلة قبل أن تجد طريقها للهواء. في الطريق السابع نبت بجوار القلب رفيق الدرب «العقل»، كان كثير الكلام والسؤال، كثير الحكم والتفكير، يجلس أحيانا في مقصورة القيادة وقد تمدد بكسل وبيده أعواد خشبية نحيلة، كلما خطرت له فكرة أو سؤال ألقى بها صوب القلب، حين أصيب القلب بالعود الأول تألم بشدة، فأعتذر العقل مبررا حدوث ذلك بالخطأ، لكنه لم يتوقف بدافع التسلية، فكانت أسئلته وأفكاره عيدانا شائكة تنتصف القلب، لم يتمكن القلب من طرده خارج الرحلة؛ فما عاد بمقدوره تحمل الوحشة مرة أخرى، ومع كل خفقة قوية كانت تنتزع الأعواد، ثم ما تلبث أن تتكوم، حينها التصقت عربة أخرى بالقطار فصار أطول، ارتأى القلب أن يتراجع للمقطورة الثانية؛ ابتعادا عن حدة الأعواد وثقل ظل العقل، لكن الطقس كان صيفيا لاهبا، بدت فيه الأشجار جافة والشمس حارقة والظلال طويلة داكنة، ولا طيور محلقة ولا فراشات تتهادى، جمع القلب الأعواد المتناثرة من على أرضية العربة وتوسدها؛ فالنوم قد يقطع نصف الطريق، لكنه لم يفق مع كل العيدان التي أرسلها العقل؛ كان منهكا حتى أنه لم يشعر بوجع الوخزات، وفجأة حدث دوي قوي قام القلب فزعا، طمأنه العقل بأنها العربة الثالثة التي جلبت معها الطقس الشاتي؛ فتجمدت العيدان في منتصف القلب ولم يتمكن من خلعها، كانت تتحرك مكانها تنزف وقد استحال نزعها فبقيت معه مثقلا بحملهات لسعه ببرودتها التي تمتدحتى أعماقه، تكوم على نفسه في العربة الثالثة، متسمرا دون حراك؛ فلم يكن بمقدوره الخفق مع كل هذا البرد، وعيدان العقل كانت تتجمد في طريقها للعربتين الثانية والثالثة قبل أن تصل القلب؛ فأصبحت الممرات شائكة جدا، كان نداء القلب متقطعا يسأل العقل: متى سيذوب الثلج؟ متى سيرحل الشتاء؟ متى سيكون بمقدوري انتزاع أعوادك؟ أجاب العقل بنداء متقطع: ربما حين تلتحم العربة الرابعة، فالغصن المكسور أخبرني أن المواسم قد اختلطت هذه المرة والخريف آخرها، رد القلب: إذن سأتمكن حينها من انتزاع أعوادك اللعينة. ضحك العقل ساخرا: ربما، لكنها قد التصقت بلحمك، إلا إن كنت ستقطع منه وتلقي به من النافذة للطريق الجائع! صمت القلب طويلا، والفكرة الرمادية قد علقت به: قطار طويل يجر ثلاث عربات صدئة،كلما مضى عقد مضى موسم من مواسم الحياة، وقد بقي آخرها هكذا قال الغصن المكسور.