مازال هناك متسع من الكلام، شيء ما يمطر بكل الكلمات التي يمكن أن تتأنق لتأتي دفعة واحدة، تتدافع كسيل حمام متتابع نحو النهر.. بكل تلك البقعة من الضياء وجدتني أكتب نحو القمر.. نحو السماء التي مدت يديها يوما لتأخذ بيدي نحو قلبها، تأخذني طفلة وتغني لي أغنيات المساء.. هناك أغفوا حتى أمتلئ من كل تلك الأحلام الشهية التي كم غيرتني.. ومنها أعود امرأة تشبه امرأة أخرى أعرفها هي أنا أو ربما هي أنثى السراب التي ذات مرة رأت أن أوراق صغيرة ترسم روحها كطائر مر من مدن تأتيها بسحر الكلام، تعيد فيها ترتيب وجوه عبرت من هنا.. تأخذهم معها نحو الشرفة.. ترفع ستار الخوف ليمارسوا كل الطيش والتوق والفرح دون أن يقول لهم أحد «من أنتم؟؟».. هنا.. في أقصى درجات البوح من «شمال القلب» أرتب لقاء يشبهني.. يأتي بشخصيتين ليلتقيا معي فوق الغيم ودون أن يعرف أحدهما بموعد اللقاء هذا ... لنعيش في أعمق نقطة من الحياة ولندخل تلك اللعبة الشفافة.. هذا الحوار حقيقي ولكنه خارج سطوة المكان.. خارج خارطة المدن.. وإن شاء لنا أن نتأمله فلن نجده سوى الحقيقة الوحيدة في جملة مايمكن أن نعيشه من أكاذيب.. لقائي هذه المرة بالشاعرة والناقدة الكويتية « سعدية المفرح « والشاعرة الإماراتية « شيخه المطيري «.. ومن أمستردام سأفتح كل البحار من وحي عيون امرأتين ثالثهم « قلبي والشمال « .. شيخة أثناء تقديمها لبرنامج ثقافة بلا حدود عبر إذاعة الشارقة سعدية المفرح ( كانت الغيوم تلف سماء أمستردام في ذلك اليوم الذي خرجت في جولة مختلفة في سوق «bloemen « لبيع الزهور.. حملت معي سلة من قش ذهبية كما أعتدت حينما أحب أن أشتري بعض الزهور من تلك المحلات أو» الأكشاك « إذا جاز لي التعبير والتي كانت تنتشر في المكان بشكل عفوي وفي ذات الوقت بشكل متناسق وجميل.. لم يكن يشع من ذلك المكان سوى ألوان زهور الزنبق والنرجس.. اقترب من بعض الزهور لأمد أصبعي نحو خدود زهرة « النرجس « كعاشق يجرب أن يلمس رسالة تركتها حبيبته في مقعد الحديقة ومضت ويخشى أن يلتقطها فتستيقظ الطيور النائمة بداخلها وتهرب .. أرفع الزهرة لأنفي.. أحاول أن أشمها حتى تتسرب إلى روحي.. أغمض عيني.. أسحب الهواء لصدري ثم أخرجه من فمي كمن يجرب أن يزرع تلك الزهور في حقول قلبه.. أتوجه بالسؤال للبائعة « هل يمكن أن تناوليني بعضا من هذا النوع ؟.. أمد يدي نحو زهور أخرى « ثم أنظر لها مبتسمة « وهذا أيضا لو سمحتي .. صوت أنثوي قريب مني يعلق ويقول « هل تنوين شراء كل الزهور ياعبير دفعة واحدة « ؟؟ ألتفت إلى الخلف لأرى الشاعرة المختلفة « سعدية مفرح « برفقتها الشاعرة الجميلة « شيخه المطيري « والتي تضحك وتضرب أنفي مداعبة بزهرة بيضاء كانت تحملها بيدها ثم تعلق « بل تنوي أن تأخذ معها سوق « bloemen « بأكمله ! نعم تغيرت.. ولكن قلبي مازال بخير مالم أعبث بأوجاعه لا تؤلمني الندوب الصغيرة إلا إذا تذكرت من تسبب بها هناك من عانقني حين بكيت وعلمني أن أتصالح مع ذرات الكون نعم.. مازلت أسيرة ذلك الموقف الذي رماني عند الألم ولم ينته بعد لا أنس وفاة أمي وهي ساجدة في عصر رمضان ** نتبادل التحية بحرارة.. اشتري زهوري المنتقاة لنقرر جميعا أن نمشي نحو لغة الورد ومعه .. ** تنظر « شيخه « إلى « سعدية « بعد أن تغمز بإحدى عينيها إليها كمن يخطط لدعابة .. شيخه : لم يخبرنا أحد - يا سعدية - بأنه حينما نزور سوق « الزهور « في أمستردام علينا أن نرتدي الثوب الأبيض والقبعة الحمراء حتى نجذب الورد إلينا سعدية مداعبة : علينا أن نكتفي باللباس الأسود.. فهو الأكثر حدادا .. ** أبتسم.. ثم أشد طرفي قبعتي الحمراء إلى الخلف وأقول .. عبير : قررت أن أرتدي هذا الثوب الأبيض المصحوب بهذه الأربطة الخلفية المقلمة.. وأن أرتدي هذه القبعة الحمراء حتى أدخل إلى سوق الزهور وأنا أشعر بأنني واحدة منهم.. تتعالى ضحكاتي.. ثم أقول « بل ربما أحب أن أتأنق للحياة كلما شعرت بأنني على موعد مع ما يعبر عنها « أنها الزهور.. الزهور تعني الحياة .. ** أقف قليلا.. أنظر إلى ثوبي بحزن.. ثم أرفع رأسي لأنظر إليهما وأقول « كلما تأنقت للحياة . وارتديت قبعة حمراء وثوبا أبيض حتى أغريها للوقوع في عشقي أجدها تفلت مني، وتهرب ثم تعاود النظر إلي بنصف نظرة لتغريني بالعودة إليها مجددا والثقة بها من جديد.. الحياة تمسك بأيدينا فإذا ما تمسكنا بها تفلت أيدينا لنقع في خيباتها مجددا .. سعدية : أنا في حالة لقاء دائم مع الحياة، وخصوصا في سنواتي الأخيرة، وبالتالي فلا استعدادات خاصة مسبقة لدي. ربما الابتسامة هي جل ما أملك في سبيل التأنق وأظن أنها تكفي. قد تصد عني الحياة أحيانا لكنني لا أهتم لذلك ولا أتوقف عنده كثيرا. لا أزعل من الحياة وأحاول أن أقبل منها كل ما تعطيني إياه. باختصار؛ لقد تصالحت معها أخيرا ولست مستعدة الآن للتفريط بهذا الصلح الذي أراحني على الصعيد الشخصي اليومي ولكنه ضاعف قلقي على صعيد الكتابة. وهذا ما احتاج إليه الآن على الأقل. شيخه : أما أنا فقد أعتدت كل صباح أن أعدني بأن غداً سيكون الأجمل والأجمل جداً.. لا أنسى أبداً وقبل أن تفتح الحياة عينيها أن أكحل ما تبقى من عيني بأمل الحب والسعادة وأن أنتقي لجسد عاش معي كل عمري وعرف أسراري، عانقني حين ضحكت وحين بكيت علمني أن نتصالح مع ذرات الكون، علم عيني أن تحب كل ما ترى وأن لا ترى إلا ما تحب , واجهني حين فكرت بالهرب مني ووقف في وجهي وأقنعني بأن أبقى , أدرك أن أصابعي تخجل من العزف على وتر الحياة فجعل الحياة تتدفق لتحرك الأصابع الخجلى . هذا الجسد أختار له قلبي ليرتديه كل صباح , أختار له فرحاً يتمازج مع معصميه , أنتقي له سلاماً يصاحب قدميه . ** تضع يديها علي يدي، يشع من عينيها ضياء الأمل . ثم تكمل: « لن تكون الحياة كما نريد وهذا يقين , نختلف أحياناً ونتفق , نحاول أن نتصالح فننجح مرة ونخفق مرة . الحياة تحبنا ومن حقنا أن نتفاهم معها . ولا أجمل من فنجان قهوة صباحي في مقهى قلبي نتحاور فيه ونرتشف بعض أمنيته لنبدو أجمل . ** نكمل المشي.. ونحن ننظر إلى أحواض الزهور .. عبير : ربما ذلك صحيح.. ويلزمنا لقطع هذا الطريق الطويل أن نكون كائنات تلتهم أحلامها لتحتفظ بها في العمق.. كلما زارنا الحزن أخرجنا شيئا من تلك الأحلام لنتناول منها جرعة مسكن حتى لا نموت ألما.. ثم نكمل الطريق.. أذكر بأنني كثيرا ما ألتهمت الطريق قبل أن يفتح فمه ليلتهمني.. ربما أسقط !! ولكنني دائما كنت متيقنة بأن ثمة أقدار جميلة ستأتي لتهبني طريقا جديدا . ولا أعرف.. هل مازلت في نفس الطريق .. سعدية : أنا ما زلت في الطريق، وما زلت في هدنة مع هذا الطريق منذ أن عقدت معه اتفاقية على العيش بسلام وأنا في منتصف الثلاثينيات من عمري. قبل ذلك كنت أظن أن الطريق قد التهمني فعلا وانتهى الأمر، وأن الحياة قد لفظتني وإن كنت ما زلت على قيدها فذلك لأنني استمرأت العيش كعالة عليها، لكنني عندما وصلت سن الخامسة والثالثين تقريبا اكتشفت الحياة من جديد وأعدت كل حساباتي معها وبأثر رجعي. تعلمت كيف أبتسم أو ربما كيف أشعر بالفرح وأنا أبتسم وصدقت نفسي بعد ذلك حتى أصبح الأمر جزء مني. كان الطريق أمامي ما زال طويلا ولكنني شعرت عندها أنه أقصر مما هو على الطبيعة ومما كنت أظن. سقطت مرات كثيرة وتعثرت مرات أكثر وفي معظم تلك المرات كنت أظن أنها المرة الأخيرة لأنها النهاية. لكن سرعان ما كنت أنهض من جديد أحيانا لوحدي واعتمادا على نفسي فقط، وأحيانا بمساعدة آخرين حولي. أنهض بهم وأستنهضهم. الحياة أجمل بهذا الشكل، والعثرات أقل قسوة. ** شيخه ترفع يديها عاليا مستدركة: « أطويل طريقنا أم يطول ؟؟ ** تتقدمنا إلى الأمام قليلا ثم تعلق : لي مع الطرق حكاية حب لا أود أن تنتهي وهناك حيث امتداد بصر القلب يرتسم الحلم . علمني الطريق أنه لا يلتهم هو يحتوي فقط هو يحاول أن يرينا اللافتات الحقيقية لمدن الواقع . وأن يبصرنا بالسرعة المطلوبة لذلك . كلنا لنا عثرات أنا والطريق . ولكننا تعلمنا ونحن نسير معاً أن نتأمل شكل العثرات أن نفككها ونعرف مكوناتها وأن نعيد تدويرها مع إضافة بعض الألوان حتى نستطيع استيعابها وتخطيها . أنا والطريق للحلم نلتهم بعضنا لنلتحم بحثاً عن حقيقتنا . ** تتعالى ضحكات بعض الفتيات اللواتي أخذن ينثرن بعض أوراق الزهور على رأس إحداهن بدعابة.. ننظر إليهن ..يسرقنا للحظة ذلك المشهد من الطيش الحميم .. هناك من ظننت أني سأنتهي بعد غيابه ولكني مازلت على قيد الأمل أنا تلك المرأة التي لم تغير الأيام من معدنها الحقيقي أحيانا أشعر أن مافعلته في الحياة «مجرد تسخين» عبير : حينما كنت صغيرة.. كنت بارعة في عد أصدقائي على أصابع يدي كان الأصدقاء بعدد الأصابع العشرة.. وفي كل عام يمضي من عمري يتناقص العدد، حتى لم يعد لي سوى إصبع واحد فقط.... فإذا ما أفرغت كل هواجسي أجده مازال يتيماً في يدي ... اليوم أستطيع أن أجزم بأن « الصداقة عملة الأوفياء النادرة «، لم نعد قادرين على تمييز الصديق الحقيقي . أهو رفيق المحنة . أم رفيق الفرح والنجاح ؟ لا أعرف.. ولكن المعادن أصبحت تصدأ كثيرا وسريعا . سعدية : أنا محظوظة جدا بأصدقائي. ليسوا كثر . لم يكونوا كذلك لا في السابق ولا الآن. لعلهم أقل بكثير من أصابع يدي. رحل بعضهم ذلك الرحيل الذي لا عودة منه فاكتشفت أن من رحل بهذا الشكل الأبدي سيبقى في وجداني إلى الأبد ذلك أن رحيله القسري قد خلصني من أي هاجس باحتمال رحيله بإرادته وإرادتي. شيخه : حين أفرغ ذاكرتي تتساقط أسماء كثيرة للأصدقاء . تتكوم حولي يتكاثر فيها الضحك ثم يربكها الشوق . في لحظة ذاكرة كان صديقي الأول شق في جدار رسم خيالي لصديق ظننته مختبأً هناك يستمع إلي يدرك ما أسررت عن الجميع إلا عنه . ماذا لدى طفلة الأعوام الأربعة من أسرار لذيذة ! شيخة في القطار مدينة - مدينة براغ سعدية توقع كتابها الأخير كانت مرحلة الروضة منصة أولى للحياة ونافذة للصداقة هنا حيث نبحث عن صديقة تشاركني حيز الجلوس والدروس . كنت أملؤ حقيبتي كل عام بأسماء جديدة وأصدقاء جدد حتى تعيد الأيام ترتيبهم . لا يهمني كم الأسماء حولي ولكن يهمني جداً كم القلوب التي تنبض حولي ومعي . ولا أحب أن أرهق صديقة بعتابها ولومها لغيابها وانشغالها . الحياة مليئة بالمحطات المزدحمة . ويجب أن ندرك تماماً أن بعض الأصدقاء يحتاج أن يكون أكثر سرعة منا حتى لا يفوته القطار . وليس لدي قائمة سوداء للأصدقاء لأن الصديق الحقيقي لا يمكن أن يصبح شيئاً مزعجاً يوماً ما . لكن هناك من هم في قائمة الناس الأقل تعاملاً هكذا فقط تقول لمن أساء لك : أنت أسأت لي وأنا سامحتك . الصداقة ليست مجموعة من الناس تخرج معهم وتأكل معهم وتضحك معهم , الصداقة حاجة في وقت الحاجة الملحة . ترهقني أحياناً فكرة البحث عن صديقات الطفولة فأبحث كثيراً من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وأبتسم حين لا أجد شيئاً فيكفيني أن أشرب مع أسمائهم وذكرياتهم شاي الأيام الحلوة . وليوفقهم الله أينما كانوا . ** نقترب من بعض المقاعد المخصصة للجلوس . أضع سلة الزهور ثم أغني بصوت لا يكاد يسمع « تا تا.. تاتا.. أنا الأفراح والأرباح والفايض ورأس المال ... أنا الأفكار والأسرار وأدفن في الفضا سري.. بعيد هناك وما ينشاف وأن شافوه ماينطال.. أعيش بيني وبيني وكل الناس ماتدري.. ... فمان الله ياشخصن مع عمره خذا عمري ) ** تضحك « سعدية « ثم تعلق : عبير.. داخله الجو بقوة .. ** أجلس.. أضع قبعتي على الطاولة.. أعود بجسدي إلى الخلف.. أمد أصبعي كمن ألتقط فكرة.. ثم أقول لسعدية : ممممم.. طيب.... أخبريني يا سعدية.. ماهي أرباحك وما الفائض منك.. وهل أنت رأس المال ؟ سعدية : لم تنته الرحلة ولا العمر بعد لأجلس كي أنظر في حسابات الربح والخسارة وأرصد ما لي وما علي. لا أظنني على أية حال قادرة على إجراء حسابات معقدة كهذه وربما لا أملك الحق فيها لأنني لن أكون عادلة ولا موضوعية. ** تسحب المقعد إليها.. تجلس.. تشبك أصابع يديها ببعض على الطاولة.. ثم تقول: « ثم أنني بالمناسبة لا أحب الحسابات أصلا. أنا مؤمنة تماما بفكرة الله العدل وبالتالي علي أن أتقبل كل معطيات هذه الفكرة في حياتي. تعلمت ألا أقارن نفسي بأحد، وألا أقارن ما لدي بما لديه مثلا، وهذه مهارة مريحة ومفيدة جدا. ** أرمي إليها بنظرة تحمل شيئا من المكر وأسأل : عبير : لمن تقولي « فمان الله ياشخصن مع عمره خذا عمري « ؟ سعدية : لن أقولها لأحد لأنها غير منطقية ولن أكون صادقة لو قلتها. نعم. هناك من كنت أظن أنني لن أستطيع على مفارقتهم أبدا وأنني سأنتهي بمجرد غيابهم عني، لكنهم غابوا وها أنا ما زلت على قيد الأمل أمارس ما تبقى لي من هذه الحياة وأفكر فيهم وأعيش معهم في الأفكار والكلمات والأصوات وبكل ما تركوه ورحلوا. كانوا كرماء معي لأنهم رحلوا وتركوا وراءهم لي كل هذا. ** ألتقط « غصن زهرة « وأوجهه إلى الفضاء.. إلى شيخه : عبير : وماذا عنك يا شيخه ؟ ** شيخه كمن سيشي بسر .. أربح نفسي ورضاها برضا الله – سبحانه وتعالى – ورضا الوالدين ومن أحب من خلال تصالحي مع نفسي ومن حولي . واليقين بأن الحياة مسابقة نحاول أن نكسب منها أشياء والأهم أن لا نخسر شيئاً . شيخة في مؤتمر الأدب التركماني في البلقان ** ألوح بغصن الزهرة أمامها بدعابة : عبير : وما الفائض منك ؟ ** تسند خدها الأيسر على باطن يدها في حيرة .. شيخه : الفائض مني.. سؤال صعب ؟؟ تضحك ثم تكمل .. ولكن الفائض مني مشاعري الكثيرة التي تحرك ما يتبقى مني بعد كل معركة . عبير : ومن هو رأس المال ؟ شيخه : أنا رأس مال شيخة والذي أتمنى أن أستثمره لخدمة الدين والوطن والإنسانية والثقافة والمجتمع . ** أوجه الغصن إلى قلبها وأقول : عبير : لمن تقولي « فمان الله ياشخص خذا عمري « ؟ ** شيخة بعد أن يرتفع صوتها ضاحكا .. لا أبوح بهذه العبارة لأحد بل أبتلعها وأصمت فلو بحت بها لأخذ عمري بحق . ولظن أن له حقاً بعمري وهذا لن يكون أبداً . ** سعدية وهي تخرج من حقيبتها قارورة ماء .. عبير ناجحة جدا في إطلاق الأسئلة الشائكة ... هذه هي مهمتها الأولى في الحياة .. سعدية وهي تلقي إحدى قصائدها عبير : ربما.. ولكن حتى النجاح له ثمن.. ! كلما نجحنا في الحياة.. كلما اتسعت دائرة صراعاتنا مع الآخرين . فهناك من لا يحب أن تكبر.. وهناك من يرغب أن تقف بجواره في طابور الإخفاق والفشل، في حين قلة من يخلع لك القبعة ليقول لك « كنت رائعاً « ... إنها حكاية الحروب السوداء - ياصديقتي -.. التي تحاول أن تسرقك معها . سعدية : لم أنجح ذلك النجاح الكبير والشاهق وما زلت في محاولاتي الدؤوب كي أستمر في الحياة وأحقق أحلامي. ما زال أمامي الكثير كي أحقق هذه الأحلام أو بعضها، ولست مستعدة للانشغال بمن ينشغلون بي على هذا النحو. شيخه : هذه الصراعات موجودة في أي مجال , ومن الضروري أن لا توقفنا . وأن تكون حافزاً على الاستمرار في تقديم ما يليق بنا وبمجتمعنا وبمن يثق بنا وبما نقدمه . لا أهتم بشحذ الأسلحة حتى لا تعينني على دخول الحرب بل أكثف الغيم حتى أتساقط مطراً أهمي حبا ًعلى الجميع . تعلمنا أن نحتوي المواقف ولا نقف أمامها وقفة محارب مهاجم . تتعبني الحروب ثم ألا تكفينا الحروب والخسائر وأنا لا أريد أن أخسر أحداً .. عبير : وماذا عن مايصلك من البعض مما يقال عنك من الخلف ؟ شيخه : أسمع بعض التعليقات وبعض الإحباطات ولكنها لا تؤثر علي كثيراً لأن الحياة سريعة وهي تنتظرنا . ** أضع غصن الزهرة على الطاولة.. أدحرجه بين أصابعي يمينا وشمالا.. أعلق : عبير : نعم.. ألاحظ بأن الحياة سريعة.. والأيام تهرب ولا يتبق بحوزتنا سوى الذاكرة، تترصدنا لتشعل فينا سنوات كنا فيها نعيش، تشعل بداخلنا الحنين وترمي بنا نحو اليم.. نشتهي أن تعود أيام كم كنا فيها سعداء في لحظة، أو كنا فيها نبكي للحظات ... تلك هي الذكريات.. وذلك هو العمر القديم.. وبرغم كل شيء فهناك دائما ذاكرة الموقف الواحد الذي يملك قلوبنا طيلة العمر، فإما أن يضعنا في موقف الألم أو في موقف الفرح الذي لا ينتهي.. موقف واحد فقط لا ننساه أبدا ندور في فلكه، مأسورين به . سعدية : أنا وفية جدا لذاكرتي، وأخشى على دقائقها بشدة. أحب أن أتذكر كل ما مر بي من مواقف حلوة أو مرة. لكنني اكتشفت أن ذاكرتي نفسها انتقائية. أصبحت أجد صعوبة في تذكر المواقف المؤلمة والمحزنة، وبدلا من ذلك تحتفظ ذاكرتي بمواقف الفرح والانجازات على نحو جيد حتى الآن. طبيعتي النفسية المتفائلة لها دور كبير في انتقائية ذاكرتي كما يبدو. لكن هناك بعض المواقف المحزنة المختزنة في الذاكرة، وعندما أتساءل عن سر بقائها بكامل لحظاتها أكتشف لاحقا أنها بقيت لأنني أضفيت عليها جمالا خاصا بها أو أنها بمرور الوقت انتقلت من رف الذكريات الحزينة إلى رف الذكريات السعيدة، منها مثلا لحظة رحيل أمي عن هذه الحياة وهي في حضني. رأيتها ساجدة في صلاة العصر يوم السابع عشر من رمضان، وعندما لاحظت أنها أطالت السجود على غير المعتاد ناديتها أكثر من مرة فلم ترد علي. داهمني ذلك الشعور الذي ليس له اسم لكنه يتراوح ما بين الخوف والرجاء فرفعتها ووضعت رأسها على صدري..نظرت لي ولأخي الواقف بجانبي نظرتها الأخيرة وفي ما يشبه طيف ابتسامة أغمضت عينيها إلى الأبد. هل هناك موت أجمل من هذا؟ فلم لا تحتفظ به ذاكرتي احتفاء بهذه الشجرة التي أسميها أمي؟. ** أنظر أنا وشيخه إلى عيني - سعدية - التي أصبحت فضاء واسعا في لحظات ذلك البوح.. يسود صمت له صوت الصلاة ودعاء الأمهات.. لا يقطعه سوى صوت شيخه وهي تقول : الأحداث التي مرت بنا شكلت ذكريات كثيرة وأثثت متحفنا بصور وأسماء وأمكنة وأزمنة . تذكرة الدخول لهذا المتحف متاحة في كل وقت نحتاج فقط أن نستجمع قوانا القلبية حتى نستطيع الدخول لتتلقانا لافتة كبرى كتب عليها : « احذر هنا أنت « وهذا ( الأنت ) مليء بالسعادة والحزن , الغضب والرضا , الأمل واليأس وفي كل لوحة استفزاز لهذه الأشياء التي كونتك . شيخة في براغ تحت المطر المواقف لا تموت لأنها مصدر تصرفاتنا القادمة بعد كل ما علمتنا إياه . علينا أن لا نكون أسرى لها وأن نطوعها لتكون مجرد ذاكرة وقف الزمان عليها قليلاً ثم مضى . لا ألغي من ذاكرتي شيئاً بل أحتفظ بكل شيء لأن كل ما مر أنا فكيف لا أحتفظ بي ؟ عبير : في كل صباح.. أتلمس ملامح وجهي، أمرر أناملي على تقاسيم روحي لأتأكد بأنه لم ينقص بي شيء.. وبأنني مازلت تلك المرأة التي أعرفها جيدا، وبأن الليلة الماضية لم تتسلل إلي وبأن النعاس لم يسرق مني الكثير.. كم أخشى أن أتغير.. وأن تغير الأيام من معدني.. أو ربما من قلبي الذي أخبره جيدا.. قلبي الذي لطالما كسر الآنية ثم يعدني بأنه لن يعاود فعل ذلك.. ولكنه يفعل . سعدية : نعم.. تغيرت. بل لعلي تغيرت كثيرا جدا. أحيانا أنظر إلى صوري القديمة وأتذكر الزمن التي التقطت فيها تلك الصور فلا أكاد أعرفني فيها. صحيح أن ملامحي لم تتغير إلا تلك التغيرات المعتادة المرتبطة بتقدم العمر، لكن الصحيح أيضا أن الروح الكامنة وراء تلك الملامح تغيرت بشكل انقلابي. أصبحت أكثر هدوءا مع نفسي وأكثر تقبلا للآخرين. تعودت على الاختلافات بين البشر ولم أعد أشعر بالصدمة كلما واجهت موقفا مسيئا أو لا أخلاقيا من وجهة نظري على سبيل المثال. لم يعد يزعجني النقد مهما كانت قسوته ولم أعد أهتم كثيرا بما يقوله الناس عني. صار مرجعي الأول هو ضميري. أحببت الكتابة الآن أكثر وتعمقت قراءاتي. أما قلبي فهو بخير الآن.. هناك بعض الندوب الصغيرة التي لم يستطع الزمن أن يمحوها ولكنها لم تعد تؤلمني إلا إذا عبثت بها.. وأنا لا أعبث بها إلا إذا تذكرت من تسبب بها! شيخه : في أعماق شيخة تسكن ألف شيخة على اختلاف مراحلها . تلك التي تستعد الآن للذهاب للمدرسة , تلك التي تنتظر أن تعود للبيت لتتناول وجبة اللعب المفضلة , تلك التي لا تحب الواجبات المدرسية وتنهيها بملل , تلك التي تضع في وسط الكتاب المدرسي ديوان شعر . شيخة التي تكتم المواقف التي تراها أمامها وتتمنى أن تكون كالأخريات وليس لها إلا مرآة مضحكة . تستمع بما يقدم لها من عروض . راضية جداً بي وكلما فكرت في أن هذا ينقصني وذاك يكمل أناقتي وأنوثتي رتبت أو حاولت ترتيب مقتنياتي غير الثمينة لأكون كما تخيلت . ولكنني لست هكذا ولا يمكن أن أكون سواي . ** أقطع حديثها بشكل مباغت كقطة تحاول أن تتسلل إلى كومة صوف ملتفة فتدحرجها .. عبير : وماهي آخر أخبار قلبك ؟ **شيخه بعد أن خبأت وجهها خلف يديها : آخر أخبار قلبي : خبر عاجل.. قلبي لا أخبار لديه ** تتعالى ضحكاتنا جميعا.. ثم أقول : عبير : أمنيات كثيرة بداخلي بدأت بالتناقص.. أمنية واحدة فقط مازلت أحتفظ بها، مازلت أنظر إليها بشغف.. التفكير بها مستفز ومحرض وشهي أشتهي أن أكون عاشقة وفي حالة حب دائمة.. العشق يجعل للحياة طعم الثلج ورائحة المطر.. وما أتعس الأحلام التي تموت قبل أن تولد . سعدية : طول هذه التجربة أحيانا أشعر أنني لم أبدأ التجربة بعد وأنني في طور الاستعداد لخوضها، وأن كل ما فعلته في هذه الحياة حتى الآن مجرد «تسخين»، كما يفعل الرياضيون قبل كل مباراة، وأن المباراة الحقيقية لم تبدأ بعد. عموما التسخين أحيانا يمكن أن يكون أجمل من المباراة نفسها. المهم أن أحلامي التي دأبت على القول بأنها تواضعت كثيرا، لم تموت وإن شاء الله لن تموت! شيخه : كل يوم تولد أمنية جديدة وكل لحظة أحلم بشيء جديد.. الأطفال همي الأكبر في الحياة أرجو أن ينام كل طفل كل ليلة سعيداً سعيداً سعيداً.. كل الأحلام التي ماتت قبل أن تولد – وهي كثيرة – ستأتي يوماً وتولد واقعاً يوماً ما إذا آمنا بها جداً . ** الوقت يقترب من الواحدة ظهرا.. ننهض.. نتناول حزمة الزهور.. نسير نحو طريق لا يحرسه سوى أريج الزنبق ولا يغني فيه سوى الأطفال .. ** أنظر لسعدية وشيخه المنشغلتان بترتيب زهورهما.. أحاول أن أطبع صورتهما بداخلي وأهمس دون أن يسمعا ... « كالأمطار أنتما ...جميل هذا النهار « .. نغيب.. ويبقى هناك بوح ... وأترك شيئا من الزهور هنا.. في أقصى زاوية من شمال القلب . سعدية مع البرلماني الكويتي الدكتور عبيد الوسمي سعدية تلقي قصيدة في أحد الأمسيات سعدية في مكتبها الصحفي بجريدة القبس شيخة أثناء توقيعها ديوانها في معرض أبو ظبي للكتاب مايو 2014 شيخة في مطار سويسرا