لا سبيل إلى كبح جماح النفس من الدخول قسرا في دهاليز الشكوك والظنون، إزاء الصمت العالمي المريب تجاه تنظيم «داعش»، الذي أصبح يتصرف بسلطان دولة فاشية لها القدرة على وضع يدها على منابع البترول، والتصرف في عائداته، والتحكم في سعره، والتحرك في مساحة تستوجب القلق لدى من لهم حس ومعرفة وقراءة بصيرة بسلوك مثل هذه الجماعات في دفاتر التاريخ الإنساني. فبخلاف المملكة، لم يكن صوت النذير والتحذير موافيا لحجم هذه الفتنة الدهماء، فدول العالم إما صامتة، غاضة الطرف عما يحدث، أو في أحسن الأحوال مبدية صوتا خجولا تجاه هذه الأزمة التي نستطيع القول بأنها ليست محلية ولا إقليمية، بل عالمية بمفضياتها ومآلاتها لاحقا، وهذا ما أكده خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في حديثه للسفراء. إن الشكوك المترتبة على الصمت المريب تجاه «داعش» وسلوكها الإجرامي، تغذيها جملة مشاهدات، بعضها ماثل على الأرض اليوم، وبعضها يقرأ بالمقايسة والتقدير لأحداث مماثلة في سجل التاريخ، حتى وإن استدعت هذه المقايسة والتقدير الركون إلى «نظرية المؤامرة» في سبيل فك طلاسم هذا الموقف السلبي تجاه «داعش» . فبالنظر إلى المسرح الذي تتحرك فيه «داعش» وتمارس فيه سلطاتها القمعية. يبقى السؤال الحائر: من أين تحصل على السلاح الذي تهدد به الحكومات، ومد عنق الطموح إلى أبعد من ذلك وفق أدبياتها الجانحة نحو تأسيس «خلافة إسلامية»، بما يجعل من الدول الأخرى ومن حولها ليست بمنأى من تسرب الفكرة إليها. وعلى هذا يبقى صمت هذه الدول، عن تحذيرات المملكة المتصلة، وعدم الاستجابة السريعة لدعوات خادم الحرمين الشريفين لتلافي هذا الخطر قبل استفحاله موجبا لرفع علامات التعجب والحيرة، ومتطلبا لإعمال محركات البحث بعمق في مثل هذه الدوافع المريبة. إن هذا الصمت المريب ينداح من الدائرة الجغرافية للحدث ليطال العالم أجمع، ففي الوقت الذي شهدنا فيه المجتمع الدولي يستصرخ كافة أعضائه لأحداث أقل شأنا، وأبسط وقعا من حيث البعد الإنساني حين مقارنتها بما تحدثه «داعش» من جرائم وفظائع إنسانية، نجد ذات المجتمع لم يحرك ساكنا اليوم، ولم يدع إلى نفير عام من أجل القضاء على هذه الفتنة، وما أيسر الهدف لو صحت العزيمة، وخلصت النوايا. إن التصريح الذي أدلت به هيلاري كلينتون، وكشفت فيه عن دور أمريكا في إنشاء ودعم تنظيم القاعدة في السابق، يلقي بظلاله مقروء مع صمتها اليوم حول الدور المحتمل لها في تنظيم «داعش»، فكلا التنظيمين لا يختلفان من حيث الفحش والوسائل المتبعة من أجل تحقيق غاياتهما، كما أنهما يمثلان النموذج الأمثل لتقديم الصورة الشائهة عن الإسلام، بما يعمق من الصورة السلبية عنه في المرآة الغربية، كما أن ذات التنظيم سيعمل على إنفاذ نظرية «الفوضى الخلاقة» التي تنتهجها أمريكا في الشرق الأوسط على نحوٍ مشاهد ومنظور اليوم، فبروز هذا التنظيم من شأنه أن يزيد من سرعة ووتيرة الأحداث، لتبلغ غايتها من الفوضى المرجوة رجاء جعل المنطقة بأسرها بؤرة من الاشتعال في مسرح اللامعقول، بما يخدم ويعزز فرضية من يرى أن منطقة الشرق الأوسط مخزن العالم الثري بموارده لشعوب لا تستحق الحصول عليه. فمن غير الخافي على أي متابع أن يقرأ بوضوح مفضيات «الفوضى الخلاقة» على أرض المعاش اليوم في منطقة الشرق الأوسط، فمن المحيط إلى الخليج تبدو الفوضى ممسكة بخطام الأحداث. ثارت الشعوب فابتدع لها الغرب مسمى «الربيع العربي» فتلقفت الاسم سريعا، وسارت به على أنه البشارة التي ستؤسس في ضوئها الحكم الراشد والديمقراطية النزيهة، فإذا المحصلة فوضى في تونس، ومسرح عبثي في ليبيا، وانشطار في السودان، وأزمة كادت تعصف بمصر، ودمار في سوريا، ومذابح في اليمن، وتبقى بقية الدول رهن الفوضى ما لم تنتبه البصائر، وتنفتح العقول على هذه الفتن التي أشارت إليها قيادة المملكة في بعد نظرها وقراءتها السليمة للواقع اليوم. إن معادلة المصالح المشتركة التي باتت تحكم الدول والحكومات، تقتضي الأخذ في الاعتبار كلمة خادم الحرمين الشريفين أمام سفراء العالم والاستجابة الفورية للدعوة التي أطلقها حفظه الله للقضاء على فتنة «داعش» والإرهاب، فإن الإبطاء في التحرك للقضاء على فتنة «القاعدة» بقيت آثاره حاضرة حتى اليوم، فخطورة هذه الفتن ليس في التكوينات الآنية والتحركات التي تقوم بها، والتي من السهل القضاء عليها على المستوى العسكري، ولكن خطورتها تكون في فكرتها القابلة للارتحال الجغرافي زمانا ومكانا، بما يحتم التعاضد والتنسيق الكامل بين كافة الدول للقضاء عليها، إنها أشبه بالخلايا السرطانية، لا تنفع معها المعالجات الموضعية، ولكنها تستوجب استئصالا جذريا إذا أريد لكافة الجسد أن يسلم من أذاها. وعلى هذا فليس من سبيل إلى تأسيس قاعدة من الحسم والمعالجة إلا بمضافرة الجهود، والتزام مبدأ التعاون لدرء الخطر، وحسم مثل هذه الفتن ووأدها ويأتي العلماء كخط دفاع أول فما قوله حفظه الله للعلماء (فيكم صمت) (وفيكم كسل) إلا وهو يعلم مكانة العلماء في حياة الأمة. على الجميع دولا وشعوبا أن يفهموا رسالة خادم الحرمين الشريفين وأن تكون خارطة طريق لمحاربة الفكر الضال. [email protected]