تذمر «أبو أحمد» من موعظة ألقاها أحد الدعاة يحيل فيها السبب الرئيس لسيول جدة إلى ذنوب ومعاصي العباد، خصوصا أن أبا أحمد قد تعرض لخسائر فداحة مادية ومعنوية . يقول أبو أحمد «لست وحدي من تضرر فهناك المئات بل الآلاف من العوائل الجداوية ممن تعرضوا للضرر ماديا ومعنويا، بل إن بعضهم قد فقد بعض أبنائه وبناته ولا أعتقد أن هناك شيئا يعوض فقد الأولاد أو الزوجة والأقارب». ويواصل حديثه متسائلا «هل من المعقول أننا المذنبون الوحيدون في السعودية كي يحملنا الدعاة وخطباء المساجد سبب هذا السيول ؟!». وأضاف «لماذا التحامل علينا رغم أن فينا الصالحين ؟! كما أن الأمطار إحدى الكوارث الطبيعية التي لها مسبباتها الطبيعية من جهة والبشرية من جهة أخرى؟!» وقال «التقصير والإهمال والفساد الذي حرم جدة من وجود حقيقي لمشاريع تصريف السيول على الأرض رغم ما رصد له من ميزانيات كبيرة كان أحد أهم الأسباب فلماذا نتهم بالذنوب والمعاصي ونهمل كافة الأسباب الأخرى». تساؤلات وحديث أبو أحمد هي نفسها تساؤلات كل مواطن في جدة تضرر من السيول وجرحته أحاديث بعض الدعاة والخطباء بتحميلهم وحدهم سبب هذه الكارثة دون الالتفات للأسباب الأخرى الجوهرية والرئيسة في الكارثة. هذه المشكلة تتكرر عند حصول أي كارثة كونية على غرار ما حصل في زلازل العيص وكارثة جدة العام الماضي وتجددها هذا العام. فالمشكلة الحقيقية يحدثها بعض العلماء والدعاة بتحميل الناس سبب هذه الكوارث بإحالتها للذنوب والمعاصي وإهمال الأسباب الأخرى دون مراعاة أحوال الناس النفسية ومعاناتهم المادية والمعنوية. «عكاظ» طرحت قضية الخطاب الديني وتعامله مع الكوارث البيئية مناقشة الموضوع مع كبار العلماء والخطباء والفقهاء والدعاة، وتساءلت: هل كان الخطاب ملائما للتعامل مع الناس المتضررين من الكوارث؟ وهل كان منصفا ومتوزانا ووسطيا أم تعرض بعضه للشطط ولم يراع أحوال الناس؟ في سياق التحقيق التالي: بداية، رفض أستاذ الدراسات العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور صالح السدلان أن يكون الخطاب الديني للعلماء عند حصول الكوارث محصورا في سبب واحد هو الذنوب والمعاصي للعباد، مرجعا ذلك إلى أن هناك أسبابا عديدة لهذه الكوارث. وبين السدلان المنهج الشرعي في التعامل مع الكوارث بقوله «الأصل أن ما أصاب العباد هو بتقدير الله كونا، إضافة إلى تقصير العباد بالذنوب والمعاصي، قال تعالى «وما أصابتكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير». وأضاف السدلان «هناك أسباب أخرى لهذه الكوارث قدرها الله كالتقصير في تنفيذ المشاريع التي تساهم في تصريف مياه الأمطار وتكفل سلامة المدن من الغرق». ولفت السدلان إلى أن هذه السيول تكون لتذكير العباد بنعم الله، كما تكون ابتلاء وامتحانا لهم على صبرهم على المصائب، قال تعالى «ونبلوكم بالخير والشر فتنة»، مشيرا إلى أن هناك آيات وعظات كثيرة تحملها هذه الكوارث ولا يمكن حصرها في سبب وحيد، قال تعالى «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق». وقال السدلان «من رأى أن هذه الكوارث بسبب الذنوب والمعاصي فكلامه صحيح لكنه لا يكون هو السبب الوحيد، فهناك أسباب أخرى لمثل هذه الكوارث يجب أن تذكر لما فيه مصلحة البلاد والعباد، فيلفت النظر إلى تقصير بعض المسؤولين في أداء مهماتهم والمطالبة بأداء حقوق العباد ومحاسبة المقصرين وعدم التساهل معهم». وخلص السدلان إلى أن حصر الأسباب في أمر واحد لا ينبغي، فالتقصير بالذنوب والمعاصي سبب، وهناك أسباب أخرى كتقصير المسؤول في أداء مهماته يجب أن تذكر بخطاب وسطي معتدل. زاوية القدر والشرع وفي رؤية مختلفة لما طرحه السدلان، رأى مستشار مدير جامعة الإمام الأستاذ المشارك في المعهد العالي للقضاء أستاذ كرسي الأمير محمد بن فهد لدعم المبادرات الشبابية الدكتور إبراهيم قاسم الميمن أنه «في ظل حصول الأزمات والكوارث يجب أن يكون النظر إليها من زاوية القدر والشرع، ويكون هناك خطاب لمن ابتلوا بها، وخطاب لإخوانهم الذين يعيشون لحظة حصولها عليهم» . وأضاف الميمن «أما بالنسبة لمن ابتلوا بها وقدرها الله عليهم فالخطاب لهم أن يستشعروا معاني الرحمة، وعظيم القدرة، وما تضمنته أفعال الله وأقداره من الحكم، وأن هذه المصيبة لولا لطف الله لكانت أعظم، ويعتبروا بمن كان مصابهم أعظم، لأن من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته، ثم ليحمدوا الله عز وجل على كل حال، وهذا من حيث النظر إلى أقدار الله، فتكون هذه الأقدار مواطن سرور لهم، لعلمهم أن ما ينتظرهم عند الله أعظم وأجل من الأجور العظيمة، والحسنات إن احتسبوا ذلك، وأن ما فاتهم من أمور الدنيا ونقص الأموال والأنفس ما هو إلا ابتلاء من الله ليزيدهم درجة ورفعة فيصبروا عليها ويحتسبوا ما فاتهم». وبين الدكتور إبراهيم أن ناحية الشرع للخطاب يجب أن تتضمن جزئيات عديدة منها مراجعة أنفسهم، وأن تكون هذه النازلة موجبة لهم للرجوع إلى الله، وتجنب سخطه، ومدافعة قضائه الكوني بما جعله الله سببا لرفع البلاء ودفعه من الاستغفار والتوبة إلى الله، فقد يكون ما وقع بسبب الذنوب. وأوضح الميمن أن الخطاب الموجه لمن يعيش هذه النازلة من خلال الخبر يكون بتحميلهم مسؤوليتهم من خلال أن يشعروا بمصاب المتضررين ومواساتهم، تجسيدا لقوله صلى الله عليه وسلم «كالجسد الواحد»، وقوله: «كالبنيان يشد بعضه بعضا». وطالب الميمن العلماء والدعاة بضرورة الابتعاد عن الشماتة، وإظهار المشاعر السلبية تجاههم، سيما وقت النازلة. الخطأ البين مشددا على أنه «من الخطأ البين استخدام الوعظ الديني الذي ينحو منحى تطبيق النص عليها، والجزم بأن ما حصل هو بسبب ذنوب ارتكبوها، لأننا مع إدراكنا أن من الذنوب ما هو سبب للعقوبات إلا أن ذلك يقيد بقيود تطبيقها على واقعة تحكم ونظرة تشاؤم، واتهام للمجتمع، وتزكية للنفس، وسوء ظن بالله، ثم تزامن ذلك مع حصول المكاره يشعر بالتشفي». وأكد الميمن على «أن ارتباط العقوبة بالذنوب أحد الاحتمالات، وتبنى على وجود مقتضياتها التي جزء منها في علم الله سبحانه، ويزيد الأمر وضوحا حينما نعلم أن من حكم الله في الابتلاء تمييز أهل الإيمان من غيرهم، ورفعة الدرجات وتكفير السيئات، والإنذار بعقوبات انعقدت أسبابها، والتخويف، وكلها دلت عليها النصوص من القرآن والسنة». وخلص الميمن إلى أن الجزم بأن ما حصل عقوبة مخالفة واضحة لهذه النصوص، وهو نوع من التدخل في قضاء الله وحكمه وحكمته. وطالب الميمن بمراعاة المقتضيات الشرعية التي توجب على كل مسلم أن يحفظ لسانه، وأن يراعي المشاعر النفسية وأن يعلم مناسبات الشرع، ورعايته للحكمة في اختيار الحديث، فقد يحسن الحديث عن ربط الذنوب بالعقوبات في مناسبة التحذير والوعظ قبل حصول مكروه، ولا يحسن في مناسبة أخرى. وأضاف «الناصح لدينه المتبصر في أحواله لا يصدر في أقواله وأحكامه عن ردود أفعال، أو يستخدم المسائل الشرعية للانتقام أو التشفي، وتطبيق هذا الحديث التأصيلي على ما حل بإخواننا في محافظة جدة». وشدد الميمن على مسألة عقدية بالغة الأهمية تكمن في أن من عقيدة المؤمن التي لا يتم إيمانه إلا بها الإيمان بالقضاء والقدر، والتسليم بأمر الله، والرضى عن أقداره المؤلمة، فما من أمر يصيب المسلم والمسلمة، بل ما من أمر يحدث في الكون إلا وقد علمه ربنا سبحانه، وكتبه في اللوح المحفوظ، مشيرا إلى أن من حكمه في تقدير الابتلاء أن يعلي الدرجات ويكفر السيئات، وتحصل الأوبة والتوبة والإنابة والرجوع إلى الله بسبب هذه الكوارث. ثلاثة أقسام ولاحظ رئيس لجنة تقييم الأئمة والخطباء في فرع وزارة الشؤون الإسلامية الدكتور عزام الشويعر أن الخطاب الديني الذي تعامل مع كارثة جدة وغيرها من الكوارث البيئية لا يبتعد عن أقسام ثلاثة؛ أولها يحصر سبب الكارثة بالذنوب والمعاصي، والقسم الثاني يضع حمل المسؤولية كاملا على عاتق المسؤولين في القصور بمعالجة الأخطاء والفساد والتقصير، والقسم الثالث يبين أن هذه الكوارث هي بلاء من الله ويجب على العباد الصبر والاستغفار. وشدد الشويعر على أنه يجب على الخطيب والداعية والعالم ذكر كل الأسباب دون تخصيص سبب واحد، داعيا إلى ضرورة مراعاة أحوال المتضررين بتوجيه خطيب خاص بهم، فلكل مقام مقال مصادقا على حديث الميمن. ولاحظ الشويعر وجود بعض القصور لدى العلماء سواء في المساجد أو عبر وسائل الإعلام في الحديث عن معالجة السلبيات التي تظهر عند الناس عند حلول الكوارث والمصائب كالجزع والهلع والتطير والتشاؤم من الأيام بسبب وقوع الكوارث فيها على غرار تشاؤم بعض أهالي جدة من يوم الأربعاء. داعيا العلماء والدعاة وخطباء المساجد إلى أهمية معالجة السلبيات بحث الناس على الصبر والاستغفار ومواساة المتضررين ومراعاة أحوالهم والتخفيف عليهم ومناصحتهم وتوجييهم بالشكل الصحيح والأمثل. تهمة قديمة واختلف عضو هيئة التدريس في جامعة الطائف الدكتور فهد الجهني مع الآراء المطروحة، مشيرا إلى أن هناك تغيرا واضحا في تعامل الخطاب الديني مع الكوارث والأزمات مستدلا على ذلك بما ذكره المفتي في خطبته الأخيرة من مناقشة جادة لأسباب الكارثة والتصريح بأن التلاعب في تنفيذ المشاريع وفقد الأمانة؛ هو أس هذه الأسباب!. وأضاف الجهني «بل ذهب سماحته لتجريم هذا العمل واعتبار أكل المال من خلال التلاعب في المقاولات من أكل أموال الناس بالباطل!!». واستشهد الجهني أيضا بخطبة الحرم المكي التي طالب فيها الخطيب بمحاسبة المقصرين والمتسببين، إضافة إلى ذلك معظم خطباء الجمعة في جدة وغيرها تجد الطرح نفسه تقريبا. ولاحظ الجهني أن هناك بعض الأسئلة أو الانتقادات الجاهزة التي يلقيها السائلون مع تجدد بعض المناسبات المعينة، فتجد أن هذه الأسئلة تطرح كما طرحت من قيل دون النظر والتأمل في تغير الأفكار أو تطورها! وأضاف «من ذلك ما يرد مع كل حدث كارثي كما حدث في كارثة جدة وغيرها من الكوارث التي يقدرها الله على خلقه، فتجد أن السؤال المكرر والمتكرر هو: «أن بعض الدعاة والخطباء يكلون أسباب هذا الأمر للذنوب والمعاصي، دون التنبه إلى التغير الذي قد يكون قد حدث في الطروحات والأفكار وطريقة التناول والتحليل!». وتابع «من ذلك ما نلمسه من تغيير في طريقة التناول والتحليل للكارثة التي حدثت قبل آيام»، واعتبر الجهني أن هذه الشواهد لا بد أن تكون في الاعتبار عند طرح مثل هذه التساؤلات، مشددا على أن إغفالها قد يشعر برغبة في تجازوها والتعامي عنها. قصور الخطاب واعتبرت الكاتبة الدكتور ليلى الأحدب كلام الجهني مبالغا فيه، حيث أكدت وجود فئة من العلماء والدعاة يقصرون خطابهم الديني في التعامل مع الكوارث والأزمات في مسألة الذنوب والمعاصي دون اعتدال في الطرح. وقسمت الأحدب تعامل العلماء مع الكوارث ومنها سيول جدة إلى ثلاثة أقسام، أولها خطاب الوسط: فمن العلماء والدعاة من وقف موقفا عادلا وأنه ليس من الصواب تفسير السيول على أنها نوع من عقاب الله تعالى دائما. وأضافت «أما الخطاب الثاني فكان الخطاب الدعوي الذي لم يتناول الكارثة بشكل واقعي، حيث نحا بعض الدعاة منحى بعيدا ليفيد من الكارثة في الخطاب الدعوي، كما ذهب إليه البعض عندما تساءلوا أن الناس تتساءل عمن يوقف سيول جدة، ولكن من يوقف سيول الذنوب والمعاصي. وبينت الأحدب أن الخطاب الثالث فسر الكارثة على أنها حصلت بسبب الذنوب والمعاصي، وأن ما حدث بأنه عقوبة من الله تعالى لسكان مدينة جدة، وأن مثل هذا البلاء لا يقع إلا بسبب الذنوب والمعاصي والآثام التي يرتكبها أهل هذه المدينة، وأنه لولا كبائر ترتكب وحرمات انتهكت ما ابتلى الله تعالى سكانها، ولحفظهم مما حل بهم. ورأت الأحدب أن مثل هذا الخطاب الأخير يغلب عليه السطحية والتسرع في إصدار ما يعد نوعا من الإفتاء أو التحدث باسم الدين، كما أنه يكسوه توظيف الدين في غير محله، دون إدراك للعواقب والمآلات التي تصحبه، والذي ربما يكون في الوقت ذاته منطلقا من دافع الحماسة والدفاع عن الدين، وتوظيف الحدث في إعادة الناس إلى دينهم، والإفادة مما حدث لدعوة الناس إلى التوبة إلى الله تعالى. وبينت الأحدب أن العلماء قد ذكروا «أن المصائب تكون على وجهين تارة إذا أصيب الإنسان تذكر الأجر واحتسب هذه المصيبة على الله، فيكون فيها فائدتان: تكفير الذنوب، وزيادة الحسنات، وتارة يغفل عن هذا فيضيق صدره، ويغفل عن نية الاحتساب والأجر على الله فيكون في ذلك تكفير لسيئاته، إذن هو رابح على كل حال في هذه المصائب التي تأتيه، فإما أن يربح تكفير السيئات، وحط الذنوب دون أن يحصل له أجر؛ لأنه لم ينو شيئا ولم يصبر ولم يحتسب الأجر، وإما أن يربح شيئين كما تقدم». الكوارث في التاريخ ولفتت الأحدب في مقالة منشورة إلى أن الكوارث قد وقعت عبر التاريخ فهي واقعة في سنن الله تعالى في كونه وعلى خلقه، مسلمهم وكافرهم، فتلك سنة الله تعالى في خلقه، مضيفة «ليس بلازم في ما يقع من ابتلاءات عامة أن يكون سببها انتشار الفواحش والكبائر، فقد وقعت محن عظمى في التاريخ بالمسلمين وغيرهم، وعلى رأس تلك المحن حصار الرسول والمسلمين في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، وفيهم أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم وأكابر الصحابة الذين هم أفضل قرون الأمة على الإطلاق، وما لاقاه المسلمون الأوائل من شدة العذاب وصنوف الابتلاءات، ولم يخطر على قلب مسلم أن هذا كان سببا لمعاص وآثام، بل هي سنة التدافع بين الحق والباطل. وأشارت الأحدب إلى وقوع سيول كثيرة في تاريخ المسلمين وغيرهم، ومن تلك السيول ما كان دخل الكعبة وصدع جدرانها، وكان من أمر قريش أن أعادت بناء البيت مرة أخرى، مبينة أن السيول التي كانت في الإسلام منها السيل الذي يقال عنه سيل أم نهشل، وكان في إمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، «حيث أقبل من أعلى مكة حتى دخل المسجد الحرام، وكان سيل الجحاف في خلافة عبدالملك بن مروان سنة 80، وإنما سمي سيل الجحاف لأنه جاء وهم بالأبطح فجحفهم وأهلكهم وهم غارون قد نزلوا في الوادي واضطربوا الأبنية ولم يكن من المطر إلا شيء يسير إنما كان رشاشا، ودخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة وهدم الدور الشوارع على الوادي ومات في الهدم خلق كثير وفر الناس منه في الجبال والشعاب وخرج العواتق من الخدور». واعتبرت الأحدب من خطأ تفسير مثل هذه الابتلاءات بالمعاصي والذنوب اتهام سكان المدينة وحدهم بهذا، مع أن أهلها مسلمون، وفيهم من نحسبه على تقوى من الله ورضوان، وأن الكبائر والفواحش ترتكب في كثير من دول العالم العربي والإسلامي والعالم الغربي، فلو كان المقياس هو الذنوب والآثام لكان غير أهل جدة ممن عرفوا بالفجور والدعارة وأكل الربا والإفساد في الأرض أولى منهم بهذا. وشددت على إن مثل هذا الخطاب يعد دعامة للمقصرين من المسؤولين الذين لم يقوموا بواجبهم تجاه البنية التحية لمدينة جدة، وما كان يجب عليهم القيام به، خاصة أنها مدينة ساحلية، والمشكلة الكبرى أننا نجعل المقصرين يفلتون من الحساب باسم الدين وأن هذا قضاء وقدر، وأنه بسبب الذنوب والمعاصي، وعلى من يريد أن يحفظ نفسه من تلك الكوارث أن يكون واحدا من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. اختبار للناس ووقف عضو مجلس الشورى الدكتور حاتم العوني الشريف، موقفا وسطيا بين رأي الجهني ورأي الأحدب عندما رفض وصف كل الخطاب الديني الذي يتعامل مع الكوارث والأزمات الطبيعية بالخطاب الواحد وقال «الجزم بأن الكارثة وقعت بسبب الذنوب والمعاصي لا يمكن وغير وارد؛ لأن الكارثة لها أسباب كثيرة منها أنها قد تكون كفارة للذنوب ورفعا للدرجات واختبارا للناس على صبرهم على الابتلاء»، واستشهد الشريف بقضية ابتلاء الأنبياء، حيث كانوا أكثر الناس ابتلاء وهذا ليس لكثرة ذنوبهم لكان لرفع درجاتهم. وشدد الشريف على أنه لا يكمن القطع بأن الكوارث الطبيعية التي تحصل بسبب الذنوب والمعاصي؛ لأنه فيه اتهام للناس وتدخل في علم الغيب، مؤكدا على أنه لا يجوز أن يتهم المجتمع كله بالذنوب فهناك الصالح والمؤمن والعاصي والمذنب وإطلاق مثل هذه الأوصاف على المجتمع خطأ كبير. وأوضح عضو مجلس الشورى أن الخطاب الديني المتعامل مع الكوارث ليس على شاكلة واحدة، مشيرا إلى أنه من الظلم القول بأن كل العلماء والدعاة يرجعون سبب الكوارث والأزمات للذنوب والمعاصي، وأضاف الشريف «لا يمكن القول بأن الذنوب هي سبب هذه الكوارث فهل من المعقول أن أهالي جدة وحدهم هم المذنبون والبقية ليسوا كذلك؟! وهل يعقل بأن أهالي العيص الفقراء البسطاء الأقرب للبداوة مذنبون دون غيرهم؟! فالعلماء يعيدون هذه الكوارث لأسباب عديدة، رغم أن البعض قد يقصرها على الذنوب والمعاصي وهذا أمر خاطئ، مطالبا العلماء بترك الغلو لأحد الجانبين والاكتفاء بتذكير الناس بالصبر على الابتلاء والاستغفار والتوبة عن جميع المعاصي، سواء كانت عدم أداء فروض الله وارتكاب معاصيه أو كانت اعتداء على المال والسرقة والاختلاس وعدم أداء الأمانة مما أدى لمثل هذه الأزمات التي شاهدناها في جدة. رفض المفتي العام للمملكة رئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، أن تكون الذنوب والمعاصي وحدها هي السبب الوحيد في حدوث الكوارث والأزمات رغم أنها سبب رئيس ومهم جدا في حدوثها. وقال آل الشيخ ل «عكاظ»: ليست الذنوب والمعاصي هي السبب الوحيد في حدوث الكوارث والأزمات على غرار ما حدث في كارثة جدة، بل قد تكون ابتلاء وامتحانا لعباده ورفعت في درجاتهم وتكفير لسيئاتهم وإظهارا لبعض الفاسدين ممن أهلموا أمانة عملهم ولم يخلصوا في الأعمال المنوطة بهم. وبين المفتي أن كل مصيبة تصيب العباد هي بقضاء الله وقدره قال تعالى (وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير). وشدد المفتي على أن الذنوب المعاصي تعتبر سببا رئيسا ومهما لحلول الكوارث والأزمات قال تعالى (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير). مؤكدا على أن الكوارث لا تعود لسبب وحيد، بل تكون لرفعة درجات المسلمين بابتلائهم أو لكشف المفسدين، ودعا المفتي الناس إلى العودة إلى الله وكثرة الاستغفار والتوبة، معتبرا أن التقوى سبب في خير المؤمن، قال تعالى (ولو أن أهل القرى آمنوا وأتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض). وطالب المفتي العلماء والدعاة وخطباء المساجد بأن يراعوا في خطابهم أحوال الناس ويواسوهم ويذكروهم بالله بطريقة مقبولة بعيدا عن الخطاب المتشنج، مؤكدا في نفس الوقت على أهمية معاقبة المهملين في أعمالهم والمقصيرين بالعقاب الزاجر لهم والرادع لغيرهم. وصادق على كلام المفتي المستشار في الديوان الملكي عضو هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالله بن سليمان المنيع، حينما أكد أن أي كارثة تحدث قد لا يكون سببها الذنوب والمعاصي فلربما أوجده الله لأخذ العظة والعبرة وتخويف العبادة، وهو أمر ينبطق على كل الكوارث الطبيعية فلن نحصر كل كارثة طبيعة أصيب بها قوم بأنها عقاب فقط فالمجتمع فيه الطائع والعاصي والمجاهر والمستتر، وأضاف «نحن بحمد الله مجتمع مسلم يحكم بشرع الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، رغم أن البعض قد يرتكب المعاصي ولكن لا ننظر إلى كل كارثة على أنها عقاب فقط فقد أوجدها الله لحكم عديدة».
كشف ل «عكاظ» مدير عام الأوقاف والمساجد في جدة فهيد البرقي عن التعميم على الأئمة والخطباء والدعاة في المساجد بضرورة مواساة الناس في مصابهم ومراعاة أحوالهم النفسية مع أهمية التركيز على الصبر وما أعده الله للصابرين من أجر عظيم وجزاء كبير، مستندين إلى ما ورد في الكتاب والسنة من الآيات والأحاديث حول ذلك على غرار قوله تعالى «ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين» . مشيرا إلى أن التوجيهات تضمنت معالجة أحوال الناس بدعوتهم إلى التوكل على الله والاستغفار والتوبة والإنابة بالأسلوب الطيب؛ لأن المصاب بماله وبدنه وأهله بحاجة لمن يواسيه؛ فالمنهج النبوي هو الأصل في تعامل الدعاة والخطباء مع الناس عند حصول الكوارث والأزمات. وشدد البرقي على أنهم نبهوا الخطباء بعدم تجريح الناس والادعاء بأن ما يحصل من كوارث كسيول جدة هي بسبب الذنوب والمعاصي، موضحا أنهم سيحاسبوا كل خطيب أو داعية ثبت لديهم جرح الناس ولم يراع أحوالهم، وأرجع مسألة المحاسبة لوجود شكوى من الناس تجاه الإمام والخطيب ، واستدرك «لكنه لم تصلنا أي شكوى حول أي إمام وخطيب». معللا ذلك بقلة الأئمة والخطباء الذين يجرحون الناس بتهمة الذنوب والمعاصي». نفى ل «عكاظ» عدد من خطباء المساجد والدعاة توجه الخطاب الديني نحو حصر سبب الكوارث بالذنوب والمعاصي، مؤكدين أنه قد توجد قلة من العلماء والدعاة من يؤيد هذا الرأي لكن الغالبية العظمى تشدد على أن هناك أسبابا كثيرة وراء هذه الكوراث ومن أبرزها ما حصل في جدة. حيث قال عضو هيئة التدريس في جامعة الملك عبدالعزيز وخطيب أحد المساجد في جدة الدكتور علي بادحدح «لا بد أن ندرك أن هناك سننا ربانية ثابتة في القرآن الكريم ودلالات الحديث، لذلك لا يصح إنكارها وعدم القول بها وهذه سنن ماضية»، واستدرك «لكن ما ينبغي أن يفهم تحت هذا العنوان أمور عدة أن الجزم بتنزيل النصوص الكلية والقواعد على تفصيل وآحاد الأشخاص هذه ليس لأحد أن يحكم بها جزما». مشددا على أن خطباء المساجد راعوا أحوال الناس فهم جزء منهم وواسوهم بالطريقة المناسبة، نافيا وجود عدد كبير من العلماء والخطباء لم يلتزموا بذلك، ولفت بادحدح إلى أن غالبية الخطباء والدعاة ركزوا على القضايا الكلية مثل أهمية محاربة الفساد المالي والإداري وأداء الأمانة لأنها أحد أهم الأسباب فيما حصل في جدة، مشيرا إلى أن الخطاب الدعوي والديني تفوق في علاج القضايا التي أدت لهذه الكوارث بل إنه قدم مبادرات عملية ميدانية تنموية علاجية، واستدل بادحدح على ذلك حينا بين أنه في العام الماضي كان أول من كتب ورقة عمل دعت أهالي جدة إلى التكافل وأبرزت أولويات العمل لتلافي ما حصل. ونفى الداعية مدير فرع لجنة إصلاح ذات البين في جدة عبد اللطيف هاجس الغامدي التهمة عن جميع الدعاة، مطالبا الدعاة وخطباء المساجد بعدم مبادرة اتهام الناس؛ لأن من يقوم بذلك يمارس سوء تزكية لنفسه والمحاسبة لغيره وهو ما لم يكلف به. وبين الغامدي أن الناس بحاجة في ساعات البلاء إلى يد حانية وكلمة رقيقة ولفتة رحيمة وهو أكبر دور للدعاة في حال الأزمات، مشيرا إلى أنهم يسيرون على المنهج النبوي في ذلك. مؤكدا أن دور الدعاة في هذه المرحلة أن يكونوا أكثر رحمة بالمنكوبين وسلوة للمكروبين، داعيا الدعاة بأن لايكونوا جلادين للناس حال ضعفهم خصوصا أن ظهورهم لم تعد تحتمل المزيد من الأثقال، لافتا إلى أن من الضحايا أطفال لا ذنوب لهم وصالحين وأتقياء ذهبت أرواحهم أو أموالهم بغير جناية فعلوها أو ذنب ارتكبوه.
أعلنت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على لسان المتحدث الرسمي لها الدكتور عبد المحسن القفاري أنها ضد الخطاب الذي يحصر سبب كارثة جدة في الذنوب والمعاصي فقط. وقال القفاري «ما حدث في جدة هو قضاء وقدر الله وابتلاء وامتحان لأهالي جدة، وقد ينزل في كل بقاع الأرض، وليس له إلا الصبر والاحتساب ومساعدة الناس ومواساتهم». وأضاف «تألمت شخصيا بسبب تصريحات البعض من الدعاة عندما رأوا أن الذنوب والمعاصي هي وراء الكارثة» ، معتبرا أن الجزم بذلك يعتبر أمرا لا يجوز لأنه يدخل في علم الغيب وهذا تطاول على مراد الله. ولفت القفاري إلى ما قدمته الهيئة في هذه الكارثة عندما انتدبت أكثر من 600 عضو لمساعدة الناس ومواساتهم وتقديم العون والمساعدة لهم وحماية ممتلكاتهم. وأضاف «الهيئة قامت بواجب شرعي ووطني لأنه من المبادئ الأساسية لعمل الهيئة حماية ضرورات الناس؛ ومنها الأرواح والأموال»، مبينا أن مساهمة الهيئة ليست فيها مزايدة ولكنها واجب خصوصا أن أهل جدة هم أهلنا ومساعدتهم واجبة، فجدة هي بوابة الحرمين الشريفين ونحن متضامنون مع أهلها ونرفض الخطاب الذي يدعي أن ما حدث فيها مجرد عذاب حاق بأهلها.