أثارت محاضرة الدكتور عبدالله الغذامي الأخيرة في جامعة الملك سعود والتي بعنوان «الليبرالية الموشومة» جدلاً واسعاً، وقد اكتنف هذا الجدل شيء من الغضب والنفور مما يعده البعض سقوطا متواليا للغذامي؛ ثائر الأمس الذي ينقم على شباب اليوم. ظهرت تفسيرات شتى لموقف الغذامي السلبي من الكتابات الليبرالية، منها ما هو موضوعي ويرمي إلى محاولة الفهم، ومنها ما هو تنفيس عن الغضب والمرارة. ومما له دلالة في هذا السياق أن موقف الغذامي وردود الفعل تجاهه ليست منفصلة عن السجال الأيديولوجي الدائر بين الإسلاميين والليبراليين، وصار الغذامي أشبه بورقة ضغط يرفعها كل فريق ضد الآخر. ولا ينكر أحد، من الفريقين، مكانة وقيمة مفكر كالغذامي في ثقافتنا، إلا أن التعاطي معه هو تعاط سجالي ينصب على حواراته الصحفية ومحاضراته، ويجهل الكثير عن الأطروحات النظرية التي بثها في كتبه وخصوصاً مرحلة «ما بعد النقد الأدبي»، والتي ابتدأها بكتابه «النقد الثقافي». والمفارقة أن الغذامي ذاته مسؤول عن طبيعة هذا التلقي السطحي لفكره. ولا أقصد فحسب إنه يكثر من اللقاءات والحوارات ويفتعل الإثارة والنقد الصاخب، بل أيضاً يمكن تلمس ذلك من ناحية نظرية وعلمية في كتابه «الثقافة التلفزيونية»، ففيه إشارة حاذقة يمكن التقاطها وتفسير موقف الغذامي من خلالها. وقبل أن أبسط هذا التفسير أود أن أعيد بوضوح موقف الغذامي المزدوج كما أفهمه. إن الآراء التي يبثها لنا الغذامي تنقسم تبعاً لأسلوبها ومنهجها إلى نوعين: الآراء البرهانية، والآراء الجدلية. وهذان النوعان مما وقف عندهما أرسطو كثيراً وفصل فيهما تفصيلا، إذ إن البرهانية أكثر منطقية وتماسكاً، وتبدأ بالمقدمات العلمية الموثوقة، بخلاف الجدليات التي تبدأ بالمصادرات والمقدمات الظنية والمتسرعة وتهدف إلى إثارة الجمهور واجتذابه إليها. والآراء النظرية أو البرهانية هي التي ضمنها الغذامي كتبه وبحوثه الأكاديمية ومقالاته الرصينة، ولنقل؛ لننسجم مع سياق كتاب الغذامي سالف الذكر، كتاباته «النخبوية». أما آراؤه الجدلية فهي أغلب حواراته الصحفية ومحاضراته الجماهيرية، أو «الشعبية». وفي هذه الأخيرة نجد مفكراً يبحث عن المعارك، وإن لم يجدها فإنه يفتعلها ويلتذ بها ويرغمنا على متابعتها ويرهقنا بتحمل غثها وثمينها. فلنعد لكتاب الغذامي «الثقافة التلفزيونية» ونتوقف عن إحدى الإشارات اللامعة التي استطاع عن طريقها تحليل الموقف من «الفكر» في عصر العولمة. ففي الكتاب يفرق الغذامي بين ما سماه «ثقافة الكتابة» و«ثقافة الصورة»، وهي الثنائية الجوهرية التي تناسلت عنها ثنائيات أخرى ذات أهمية مماثلة؛ كالنخبة والشعبي، والرمزية والنجومية، والمتفرد والنمطي، ونحوها. ففي عصر سيادة الكتابة كان الكتاب والمؤلف وجمهوره المنتقى هم من يسيطر على ما يسميه هابرماس «الفضاء العام»، وكانوا يعيشون بمعزل تقريبا عن المحيط الشعبي رغم أنهم في النهاية يستهدفونه، وكانت الأفكار والمعارف محصورة في هذا النطاق الضيق. ومع تطور التقنية وظهور التلفاز والسينما أضحت الصورة الوسيلة الفضلى للتعبير ولنقل المعلومة. وهي في متناول الجميع، مما جعل فكرة «النخبة» تنحسر ولم يعد للمؤلف الفرد ذي الطابع الرمزي قيمة تذكر، وهذا هو «موت المؤلف» ولكن تبعاً لمفهوم الغذامي وليس رولان بارت. أي إن المؤلف «الرمز» مات أو انحسر دوره الاجتماعي والمعرفي، وأفسح المجال للمؤلف «النجم»، الذي أصبح مقودا لا قائدا، ويتعامل بمنطق (ما يطلبه المشاهدون)، فالمؤلف هنا لم يعد مستقلا متفردا، بل خاضعا للمواصفات العامة. إن المؤلف يفقد ما يسميه فالتر بنيامين «الهالة aura» والتفرد والحضور، ورغم أن بنيامين كان يناقش وضع «العمل الفني» بحد ذاته لا الفنان، إلا أنه يجتمع مع الغذامي على صعيد واحد، وهو أن التطور التقني جعل العمل الفني وبالتالي المؤلف أو المبدع ملكا مشاعا وقيمة مبتذلة. وبعد كيف نفسر موقف الغذامي المزدوج من خلال هذه الآراء التي هي آراؤه ؟ لدينا الغذامي النخبوي الذي كتب «النقد الثقافي» و«الخطيئة والتكفير» و«الثقافة التلفزيونية»، وهو الغذامي الرمز، ولدينا الغذامي الشعبي أو النجم! والمتلقي في كلتا الحالتين مختلف، حتى ولو كان هو الشخص ذاته. إنه في الحالة الأولى ينصت ويتدبر، وفي الثانية يهتف ويصفق أو يستهجن ويغضب. والغذامي في الحالتين يتنقل من موقف الرمزية إلى موقف النجومية، جيئة وذهاباً. يقود ويقاد. وبما أن الكثيرين لا يتابعون الغذامي في الموقفين بل في أحدهما فإنه لم يحظ بالرضا بل استجلب لنفسه العداوات الكثيرة، وأنف بعضهم من قراءته لأنه لم يستطع بعد الفصل بين الفكر وصاحبه، حتى إن هذا البعض جرد الغذامي من كل ميزة يمتاز بها بعد أن كان في وقت سابق يمتدحه ويروج له، وهناك طبعا من أصبح يستشهد بآرائه بعد أن كان يفسقه ويبدعه وربما يكفره. وهذا هو للأسف الموقف السائد من الغذامي لدى أغلب الليبراليين والإسلاميين الذين دخلوا في صراع معلن معهم. والموقف الإيجابي هو التعاطي مع أطروحات وحوارات الغذامي بناء على إدراك هذه الحقيقة؛ وهي أن هناك طرحاً نخبويا علميا، وطرحاً آخر مختلفا عنه تماماً وهو الطرح السجالي الذي يرتبط بمواقف راهنة سرعان ما تزول وينساها «جمهورها». والجمهور كثيرا ما ينسى. ربما يعترض الغذامي نفسه على تفسيري هذا، ولكنها، في نهاية الأمر، طريقتي في التعامل مع ما يكتبه أو يطرحه في ساحة الفكر والصحافة، فلو لم يكن هناك سوى الغذامي «النجم» الذي يرضخ لمطالب الجمهور العريض وينسجم أو حتى يستسلم لمعايير «ثقافة الصورة» ويتخلى عن الموقف النقدي الصارم والجريء، لما نال مني أدنى اهتمام. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة