آثار تلقي النظريات والمذاهب والمناهج الغربيّة وتطبيقاتها في المشهد النقدي العربيّ الحديث والمعاصر طائفة كبيرة من ردود الأفعال المؤيدة والمعارضة، ولاسيّما أنَّ مرجعيات النقاد العرب المتبنين لهذه النظريات تفاوتت بين المرجعية الفرانكفونية والمرجعية الأنكلوسكسونية. وهو ما أوجد ذلك الالتباس الذي «أفضى كما يذكر الناقد عبدالله إبراهيم إلى نتيجة خطيرة؛ وهي: أنَّ الثقافة العربيّة الحديثة أصبحت ثقافة مطابقة وليس ثقافة اختلاف، فهي في جملة ممارساتها العامة، واتجاهاتها الرئيسة، تهتدي بمرجعيات متصلة بظروف تاريخيّة مختلفة عن ظروفها، فمرة تتطابق مع مرجعيات ثقافيّة أفرزتها منظومات حضاريّة لها شروطها الخاصة، ومرة تتطابق مع مرجعيات ذاتيّة تجريدية وقارة متصلة بنموذج فكريّ قديم، ترتبط مضامينه بالفروض الفكرية والدينيّة الشائعة آنذاك، وفي هذين الضربين من ضروب المطابقة تندرج الثقافة العربيّة الحديثة في نوع من العلاقة الملتبسة التي يشوبها الإغواء الإيديولوجيّ مع الآخر والماضي، بحيث يصبح حضورهما استعارة جُرِدَت من شروطها التاريخيّة، ووُظِفَت في سياقات مختلفة». وقد كانت هذه العلاقة الملتبسة سبباً في ظهور واشتعال سِجالات نقدية عنيفة امتدّ بعضها لسنواتٍ طوالٍ بين بعض النقاد العرب المحدثين، ممن كان حضور الموجه النقديّ الغربيّ حاضراً بقوة في كتاباتهم في أشكال المماثلة والمقايسة والمطابقة وضروب التمثُّل الأخرى، وبين سواهم من الذين كانت ثقافتهم التقليدية هي السائدة في تلقيهم وقراءاتهم. ويكفي الباحث أن ينظر إلى السِجالات الشرسة التي اندلعت بين طه حسين، العقّاد، محمد مندور، أحمد أمين، أمين الخولي، وزكي مبارك وسواهم كي يدرك الحجم الكبير والحيّز الضخم الذي اتخذته هذه المعارك الأدبيّة والسِجالات النقدية في علاقتها بقضايا الحداثة وإشكاليات المنهج والأنساق الثقافيّة العربيّة المعاصرة. وقد كانت تطبيقات النقد الثقافي عربيّاً ولا تزال مجالاً لسِجالات متواصلة حول شرعية مثل هذا النوع من النقد في محيط يتغلغل فيه النقد الأدبيّ تغلغلاً عميقاً ولاسيّما الدراسات البنيوية. لذا نجد لزاماً علينا قبل الحديث عن سِجالات النقد الثقافي عربياً أن نبين سِجالات النقد الثقافيّ غربياً فيما أثاره من أسئلة عن مرجعياته وحدود اشتغالاته. النقد الثقافي والانفتاح على الحقول يُعد مصطلح النقد الثقافي واحداً من المصطلحات النقدية المنفتحة على حقول معرفية متعددة. ولعلَّ هذا الانفتاح كان سبباً من الأسباب التي أدت إلى تلك الصعوبة الكبيرة التي يواجهها الناقد إزاء هذا المصطلح ومحاولة تحديده وتأطيره نقديّاً. وقد تجاهلت معاجم المصطلحات والنظرية النقدية الغربية هذا المصطلح ولم تُعنَ بتحديده، وتحدثت فقط عن الدراسات الثقافيّة كالذي نجده على سبيل المثال في معجم The Columbia Dictionary of Modern Literary and Cultural criticism. أثار النقد الثقافيّ في النظرية النقدية الغربّية سِجالاً طويلاً لا يزال قائماً إلى اليوم في الجامعات البريطانيّة والأميركيّة بخصوص النقد الثقافيّ: هل هو منهج، نظرية، اتجاه أم نشاط، وبخصوص الدراسات الثقافيّة، وهل هي تأتي بمعنى النقد الثقافي أم أنهما مصطلحان مختلفان؟ وهو ما نجده عند ليتش في كتابه:cultural criticism.Literary.Theory.post structuralism وآرثر أيزابرجر في كتابه «النقد الثقافي: تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسة». يتحدث ليتش عن الدراسات الثقافية والنقد الثقافيّ بوصفهما شيئاً واحداً في الأساس. في حين يذكر أيزابرجر أنَّ النقد الثقافيّ نشاط وليس مجالاً معرفياً خاصاً بذاته، وبمقدور النقد الثقافيّ أن يشمل نظرية الأدب والجمال والنقد وأيضاً التفكير الفلسفيّ، وتحليل الوسائط، والنقد الثقافيّ الشعبيّ وبمقدوره أيضاً أن يفسر نظريات ومجالات علم العلامات، نظرية التحليل النفسيّ، النظرية الماركسيّة، النظرية الاجتماعيّة، الانثروبولوجّية، دراسات الاتصال، وبحث في وسائل الإعلام والوسائل الأخرى المتنوّعة التي تميز المجتمع والثقافة المعاصرة. وفي حين لا تختلف اهتمامات ومجالات الدراسات الثقافيّة في نظر أيزابرجر عن النقد الثقافيّ فهي تشمل وسائل الإعلام، الثقافة الشعبية، الثقافات الدنيا، المسائل الإيديولوجية، الأدب، علم العلامات، المسائل المرتبطة بالجنوسة، الحركات الاجتماعية، والحياة اليومية وموضوعات أخرى متنوّعة. ولكن الفارق كما يذكر أيزابرجر هو أنّ نقاد النقد الثقافيّ يستخدمون المفاهيم التي قدمتها المدارس الفلسفيّة والاجتماعيّة والنفسيّة والسياسيّة في تراكيب وتباديل معينة، ويقومون بتطبيقها على الفنون الراقية والثقافة الشعبيّة بلا تمييز بينهما، من حيث الكيف اعتقادا منهم بأنّ هذا يتسع بمجال المصطلح الذي كان يُطبّق على الفن الراقيّ فقط، ومن ناحية أخرى الاستفادة من إمكانياته بتطبيقها في كشف الطاقات والأنظمة الثقافيّة والإشكاليات الأيديولوجيّة وأساليب الهيمنة، والسيطرة المختزنة في النصوص برمتها الراقية والشعبيّة حتى تتبدى الكيفية التي بها تتشكّل هذه الأبعاد والجوانب والمستويات للوعي الفرديّ والتاريخ الإنسانيّ» الغذّاميّ.. ملكة التحريض وإشاعة الشغب يعد كتاب الناقد السعوديّ عبدالله الغذّاميّ «النقد الثقافيّ: قراءة في الأنساق الثقافيّة العربيّة» الصادر العام 2000 أول محاولة عربيّة تتبنى تطبيق النقد الثقافيّ في نظريته الغربية المنشأ. وقد كان الغذّاميّ معنياً بتأصيل مصطلح النقد الثقافيّ للمتلقي العربيّ، ولذا فقد خصّص فصلاً كاملاً عنوانه: النقد الثقافي/ ذاكرة المصطلح، تطرّق فيه أولاً إلى مقدمة تصديرية تمهيدية تبدأ بسؤال ناقضٍ خطير هو: هل في الأدب شيء آخر غير الأدبيّة..؟ ويعرض الناقد جهوداً كبيرة تحوّلت بالنقد من الأدبيّة إلى مستوى الخطاب في المرحلة المابعد النقدية، حيث التاريخانيّة الجديدة والنقد الثقافيّ متأسسة على نقد ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة وما بعد الكولونياليّة. ونظراً لإغراء النموذج الغذّاميّ فيما أثاره ويثيره من إشكالات في المشهد النقديّ العربيّ فقد اتخذنا نقده الثقافيّ أنموذجاً للخطاب السِجاليّ في النقد العربيّ في مرحلة مابعد البنيوية ومابعد الكولونياليّة. وسنبين من خلاله مقامات السِجال وأشكال حضور الأطراف المشارِكة في التفاعل القوليّ «مواقع المتخاطبين وصيغ التفاعل ووسائطه»، واستراتيجيات الخطاب السِجاليّ الخاص بكتاب وبمشروع الغّذامي . إنّ الغذّاميّ الذي يحرص دائماً على تسويق مشروعاته النقدية التي تقتحم بقوة مجالات الحداثة وما بعدها، حرص بقوة على تسويق مشروع النقد الثقافيّ بوصفه مشروعه الخاص. ويذكر الناقد البحرينيّ محمد البنكيّ في دراسة له عن الغذّاميّ عنوانها «قراءة في نموذج للتسويق الثقافي الغذّاميّ بوصفه مسوِّقاً»، «عن علاقة الغذّامي بالتسويق في متخيّل الوسط الثقافيّ العربيّ» من حيث البدء تعالوا لنتحدث عن الصورة القابعة في متخيّل عددٍ لا بأس به من المثقفين حول الغذّاميّ كمسوِّق جيد. أغلب من كتب عن ملامح الغذّاميّ كمتصل لاحظ عليه صفات من مثل: القدرة على التبشير الحماسيّ بأفكاره، والموهبة في اصطناع الإثارة، والنجاح في إغراء الآخرين بالسِجال حول كتاباته، واستثمار لغة ونغمة المرحلة في طرح ما يريد (..) وعندما نتتبع القنوات التي يعبر منها النقد الثقافيّ إلى القارئ العربيّ في اللحظة الراهنة سيجد ما يلي: سِجاليات متلاحقة في المطبوعات السعودية وعلى الأخص صحيفة الرياض، وإن كان حسناً أن لا ننسى الجزيرة واليمامة والدوريات، ومقالة نصف شهرية في صحيفة الحياة اللندنية، لقاءات صحافية ذات مانشيتات سحرانية في مجلات تهتم بالشعر النبطيّ والمرأة والشؤون الجامعية، والغذّاميّ من أبرع من يمنحون المانشيت بسخاء للصحافيين العرب، وهناك إضافة إلى ذلك محاضرات ذات نفس سِجالي في السعودية، ومشاركة مهرجانية ونقاشية عربية في القاهرة والبحرين وتونس وغيرها . ويتحدث علي الدمينيّ في مقال له بعنوان «الغذّاميّ وغواية الشعار» عن «تميّز عبدالله الغذّاميّ بملكة التحريض وإشاعة مناخ الشغب في وسطنا الثقافي، بما يلقيه فيه من أفكار واجتهادات تحرك مألوفة وتستفز تقليدية عادات تفكيره، وتفاجئ غواية الاختلاف معه حتى أقرب المثقفين إليه». ويواصل الدميني قائلاً «الغذّاميّ لا يتمتع بقدرات الباحث والمتأمل والمجتهد الشجاع وحسب، ولكنه يمتلك الحماسة التبشيرية لأفكاره ومتابعة الدعاية لها والمنافحة عن منطلقاتها». وفي مقالة بعنوان «الغذّاميّ.. فارس النص» يلفت منصور الحازمي قارئه، في معرض الإشارة إلى كتاب «الخطيئة والتكفير» الذي أثار لغطاً وأضرم خلافاً بين الأدباء والمثقفين إلى قوة بيان الغذّاميّ وسعة حيلته، سلاسة أسلوبه، قدرته على الجدل والإقناع، توليد المعاني، ومقارعة الحجة بالحجة، ويعلق الحازمي « وهذا شيء لا يُستهان به، بعد أن فقدنا مثل هذه المواهب منذ أمد طويل» . وسيعرف الغذّاميّ نفسه بأنه «مروِّج نظريات حداثية» في العالم العربيّ، وذلك في كلمته التي ألقاها ارتجالاً تدشيناً للحلقة النقدية النقاشية عنه التي عٌقِدت في البحرين في مايو/ أيار .2001 والغذّاميّ، ذلك الناقد الذكي جداً، يحسن دراسة متطلبات «السوق: النقدية العربية»، وكيف يستطيع أن يجذب المتلقي للترويج عن مشروعاته النقدية «فالموضوعات التي يختارها الغّذاميّ تبعاً لمقام الطرح، تترك الانطباع بأنَّ التفضيلات الثيمية التي يختارها تتناسب بشكل لافتٍ مع مقتضيات المقام ووسط التلقي وقناة التوصيل. فهو في السعودية، حيث تحوّلت بعض ألعاب ورق الكوتشينة إلى ظاهرة ترفيه اجتماعية لافتة، يتحدث عن البلوت. وفي ملتقى مهرجانيّ غاص بالشعراء في تونس يتحدث عن موت النقد الأدبي. وفي حدث آخر مع طلبة اللغة والنقد والنقاد الشباب في البحرين يتحدث عن الخلاف بين الفرق المذهبية في التاريخ الإسلاميّ وإمكان الحوار حول هذا الموضوع. وفي الكويت حيث برزت مجلات السلوفان والرفاهية الشكلية، يتحدث عن الصحافة الخليجيّة والتعليق الرياضي والشعر النبطيّ. وفي صحيفة الحياة ذات الهوى اللبنانيّ يختار أن يطرح تحت إشراف عبده وازن مقالات عن رجعية أدونيس». لقد تعمدنا التقديم لهذا المقام السِجالي وسواه من المقامات الأخرى بإبراز مهارات الغذّامي السِجالية التي يتكئ فيها بصورة رئيس على مهاراته التسويقية ومعرفته باستراتيجية المخاطَب والمتلقي ومعرفته كذلك باستراتيجيات خصومه من المساجلين. ولئن كان من أبرز قواعد المناظرة وشروطها أن تكون بين متكافئين فإنَّ الغذاميّ كان مدركاً لهذا كله وهو يخوض سِجالاته؛ إذ يذكر في حوار تلفازيّ أنَّه لم يرد على كتاب عوض القرنيّ «الحداثة في ميزان الإسلام» وهو كتاب يهاجم الحداثة «لأنّه لا يتوفر على أدوات علمية ومسائل معرفية». وقال «هو جاهل في هذه المسألة لكنه عارف في علم الشريعة لذلك الدخول معه في حوار خطأ علميّ» . يسرد الغذّامي الراوي هذه الحكاية المندرجة ضمن كتابه «حكاية الحداثة في المملكة العربيّة السعودية»: يقول إنّه «أثناء الإعداد لمهرجان الجنادرية 1989 اتصل بي عبدالرحمن السبيت، المشرف على المهرجان، عارضاً علي المشاركة في ندوة الرأي المعارض - كما هو موقفه المعروف - وأقوم أنا بالدفاع، ولقد فرحتُ وقتها بذلك العرض، أولاً لكون الوضع الاجتماعيّ السعوديّ حينها ملتهباً حول الحداثة، مع وجود لبس كبير حول قضاياها وحول أشخاصها ثم إنّ اختيار الشيبانيّ كطرف للحوار كان مغرياً لي خصوصاً، أولاً لكبر سنه وكونه مستشاراً لولي العهد، ثم لعلمه وقدراته الهائلة، ولقناعات الناس به، وتصورهم أنّه مرجع علميّ فلسفيّ، والناس لهذا سيرون فيه رجلاً قوياً يناهض الحداثيين ويكشفهم، وهذا كان سيوفر أرضية علمية للحوار، مع ما يمكن أن تتمتع به الندوة من جذب جماهيريّ لسخونة الموضوع في ذلك الحين، ولما يمكن أن يتوقعه الجمهور من حدة في الطرفين تجعل الحوار نارياً ولافتاً، وتلك كانت وسيلة مثلى لتوصيل الأفكار عبر الجو الحماسيّ المتوتر أصلاً والمشحون بالأفكار الملتبسة». لقد أوردنا هذين المثالين الدالين لعلاقتهما الوثيقة بما نحن بصدده من حديث عن آليات الخطاب السِجاليّ عند الغذّاميّ؛ فقد اعتذر - أي الغذّاميّ - عن مناظرة عوض القرنيّ أو مجرد الرد عليه لانتفاء محددات المناظرة ومعاييرها عند خصمه الذي لا يتوافر على أرضية علمية وأدوات منهجية تمكنه من التحاور والتساجل العلميّ الموضوعيّ، في حين أنَّ الشيبانيّ كان كفؤ الغذّاميّ الذي يمثل الجانب الآخر المناظِر، خصوصاً فيما يتصل بآليات الجذب والاستراتيجيات التسويقية التي يركز عليها الغذّاميّ التركيز كله. - نص البحث الذي شاركت به الناقدة البحرينية ضياء الكعبي في ندوة «الخطاب السِجاليّ» المقامة بكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة سوسة في الفترة من 2 حتى 4 أبريل/ نيسان الجاري.