في اعتقادي أن مجتمعنا المحلي منذ أكثر من عقد ونصف من السنين يعيش مرحلة فكرية انتقالية؛ إذ كانت مصادر التلقي في المجتمع قبل ذلك العقد محصورة بالمصادر الرسمية مما ولد لدينا توحدا في الرأي تجاه الأفكار والأشخاص والوقائع – ظاهريا – لكن في ظل ثورة الاتصالات وتعدد مصادر التلقي، تكشف للرأي العام أن ثمة تعددية فكرية حقيقية في المجتمع، فقد تكشف الواقع عن تيارات فكرية تبحث لها عن أرضية، وجمهور. وهذه التيارات تتنوع توجهاتها الفكرية بين الإسلامية والليبرالية وغيرها من التوجهات، كما تضم تلك التيارات بين جنباتها توجهات مختلفة منها المعتدل، ومنها المتطرف؛ وكما هو معتاد فإن التوجهات المتطرفة من تلك التيارات تسرق الأضواء في أطروحاتها، وتثير الرأي العام، وغالبا ما تزداد ضراوة التطرف في أحد التوجهات ردا على تطرف الجهة الفكرية المقابلة، والمراقب لساحتنا الفكرية منذ أشهر إلى اليوم يجد أن الأطروحات المتطرفة في تزايد ما بين فتوى، وبيان، ومقالة في صحيفة أو إنترنت، وتصريح في قناة تلفزيونية، ورواية. وفي خضم هذا الضجيج الفكري لاحظت أمرين؛ أحدهما: أن كل تيار ينادي بمنع متطرفي التيار الآخر من الكتابة أو الظهور التلفزيوني، وقلما يطالب بمثل هذا في التعامل مع متطرفي تياره. والأمر الثاني: أن الردود على المتطرفين في كل تيار تأتي غالبا من التيار الآخر، ويندر الرد عليها من معتدلي التيار، بل تواجه بالتجاهل، أو الشرح والتخريج والتأويل. وحقيقة أنا شخصيا أسَرُّ كثيرا حينما تصدر فتاوى، أو تصريحات، أو بيانات، أو مقالات متطرفة من كل التوجهات الفكرية سواء كانت إسلامية أم ليبرالية أم غيرها من التوجهات؛ وذلك لأربعة أسباب: السبب الأول: أن منع المتطرف من التعبير عن آرائه ومحاصرته يحوله في نظر الجمهور المتابع إلى ضحية القمع الفكري، ويكون في نظرهم مظلوما؛ وقد ثبت سوسيولوجيا أن النفوس تتعاطف كثيرا مع من وقع عليه الظلم، وهذا ما يدفع قطاعا عريضا من الجمهور للإعجاب به، والبحث عن مقولاته، وبهذا تكسب آراؤه أرضية جديدة، وتجد قبولا من قطاعات جديدة من المتابعين، ويتحول إلى رمز للصمود وتحدي الظلم، والتضحية في سبيل المبادئ لدى هؤلاء المتابعين. السبب الثاني: خير وسيلة لتعرية التطرف هو السماح له بالتعبير عن رأيه، وذلك أن المتطرف إذا طرح رؤاه وأفكاره أمام الرأي العام، أصبحت تلك الآراء المتطرفة فوق طاولة التشريح والنقد والتفكيك، وذلك إذا أتيحت الفرصة للآخرين للرد عليه، وتعرية تلك الآراء، وتبيين تهافتها، وإيضاح مكامن الضعف فيها، ونقض أدلتها، مما يصنع رأيا عاما ضدها، ومع تكرار طرح الآراء المتطرفة، وكثرة الردود عليها ونقدها يتعرى فكر التطرف ويتعرى الأشخاص المتطرفون، وتتكون حصانة لدى جمهور المتلقين من الوقوع في براثن التطرف الفكري. السبب الثالث: أن تكرار طرح الآراء المتطرفة أمام الرأي العام وتكرار الردود عليها والحوار حولها والصخب المصاحب لذلك الحوار تساهم في خلق بيئة فكرية نقدية، تقوم على التساؤل، وفحص الآراء، مما يخلق وعيا لدى المتلقي، ويجعله ذا حس نقدي غير قابل للتوظيف في سياق تيار ما من دون وعي، وذلك لأن فكر التطرف إنما ينمو ويزدهر في البيئات الفكرية المغلقة التي تعتمد على التلقين والتسليم المطلق بما يقال، وتقديس الأشخاص، وترميزهم، وتحصينهم ضد النقد والمساءلة، والتي يغيب فيها فكر النقد والمساءلة والحوار. السبب الرابع: كثرة الردود على المتطرفين، وتشريح مقولاتهم، وتعريتهم فكريا أمام الرأي العام، وإظهار حقيقتهم المتطرفة، وتبيين مدى الجهل والمغالطات في أطروحاتهم هو في حقيقته ردع وتخويف لغيرهم من المتطرفين ممن يسعى لترميز نفسه من خلال المزايدة في الطرح الفكري، فكثيرون يمكن أن تستهويهم الأضواء والشهرة يعمدون إلى المزايدة في أطروحاتهم ليتحول إلى رمز فكري لدى تياره، لكن حينما يجد أن هذا الطريق سيكلفه كثيرا، وسيتعرى فكريا لدى الرأي العام فسيؤثر السلامة لا محالة. فلهذه الأسباب أرى أنه لا سبيل لمحاربة التطرف الفكري إلا بالسماح له بالتعبير عن رأيه ثم السماح بنقده وتعريته.