في عام 1968 قام رجل الاقتصاد الإيطالي أورليو بيشي، والعالم الأسكتلندي ألكسندر كنج، والملياردير الأمريكي ديفيد روكفيلر بتأسيس منظمة نادي روما، التي تقدم نفسها كمركز أبحاث غير حكومي، وغير ربحي، يهتم بمستقبل البشرية، ويدرس المخاطر والتحديات التي تهدد موارد البيئة والطاقة. يؤمن هذا المركز بأن أكبر خطر يهدد الإنسان، هو الإنسان نفسه، فالتحديات الرئيسة التي تحيط بنا تكمن في النمو السكاني المفرط، وتزايد أعداد البشر إلى درجة تفوق حجم الطاقة والموارد الغذائية والمائية الموجودة على كوكب الأرض، مما سيؤدي في النهاية إلى خطر يحيق بالجنس البشري حين يتناقص الغذاء مع مرور الزمن في مقابل تضخم السكان، كما ستتراجع الصناعة نتيجة لنضوب الموارد المعدنية في باطن الأرض. إذن الحل الأمثل – حسب رؤية النادي- في وضع الإجراءات والتشريعات التي من شأنها أن تكبح جماح التضخم السكاني، وتعيد التوازن بين نمو السكان والموارد الغذائية، ومن أمثلة ذلك قوانين الحد من النسل، وتشجيع موانع الحمل، وتشريع الإجهاض، وتقنين أعداد المواليد ونحوها. هذه المنظمة تضم من بين أفرادها رؤساء دول حاليين وسابقين، وبيروقراطيين تابعين للأمم المتحدة، وسياسيين رفيعي المستوى، ودبلوماسيين، وعلماء، واقتصاديين، وقادة أعمال من جميع أنحاء العالم، كما أنها تحظى بدعم كبار العائلات الثرية وعلى رأسها عائلة روكفيلر الأمريكية الشهيرة، لذلك جذبت هذه المنظمة أنظار المؤلفين المولعين بفكرة المؤامرة، وحكومات العالم الخفية، ودهاليز الماسونية، فأصبح اسمها يرد في هذا النوع من المؤلفات ك«إحدى المنظمات التي تسيطر على العالم، وأن لها دورا في تأجيج الفوضى، والنزاعات المسلحة، والحروب الأهلية في دول العالم الثالث من أجل التقليل القسري لأعداد سكان كوكب الأرض»، وكتب صحفي شيوعي سوري مقالاً بعنوان (المالتوسية الجديدة في الشرق الأوسط)، قال فيه: «إن أحداث الربيع العربي وصعود جماعات التطرف والإرهاب وعلى رأسها «داعش»، وانتشارها في سورية والعراق وليبيا، ولبنان، وحمام الدم والتناحر والاقتتال الذي يجري في الشرق الأوسط هي أحد مخططات هذا النادي الذي يطمح عبر مشاريعه الكبرى إلى تقليل أعداد البشر، وتطبيق ذلك على دول العالم الثالث». منذ عام 1972 بدأ يتردد اسم نادي روما كمنظمة علمية عالمية مرموقة، خصوصاً حين أصدر تقريره الأول الذي جاء بعنوان (القيود على النمو) The Limits to Growth؛ إذ اقترح التقرير أن النمو الاقتصادي لا يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى بسبب استنفاد الموارد، وقد زادت أزمة النفط عام 1973 من القلق العام بشأن هذه المشكلة. أصبح هذا التقرير كأحد أهم المصادر في علم اقتصاديات السكان، وأدرج ضمن النظريات في هذ الحقل تحت مسمى (نموذج نادي روما)، وقد طبع منه 30 مليون نسخة، وترجم لأكثر من 30 لغة، مما يجعل منه الكتاب البيئي الأكثر مبيعاً في التاريخ. يتناول تقرير نادي روما «المأزق البشري» في دراسة تهتم بالعلاقة بين النمو السكاني والبيئة، مفادها أن النمو السكاني في بيئة محددة ينجم عنه حجم سكاني يتجاوز الطاقة الاستيعابية النهائية للبيئة عاجلاً أم آجلا بطرق متعددة، ويقيم التقرير عماد دراسته على العلاقة بين السكان والموارد الناضبة، «فإذا كان الغذاء يتزايد ولكن بنسب متناقصة فإن الموارد الناضبة تعد قيداً أكثر تحديداً ذلك أنها لا تتزايد، بل هي تتناقص بالاستخدام، وتؤول إلى الزوال في النهاية، وأن العلاج الأكثر نجاعة في هذا الحال هو إبطاء النمو السكاني». تنبأ التقرير بأن النفط الأحفوري سينتهي في حدود 2022، وتشير بعض المصادر أن نادي روما يقترح بأن عدد السكان العادل في العالم يجب أن يكون في حدود 3 مليارات عام 2020. يُصنف نادي روما بأنه أحد تجليات «المالتوسية الجديدة»، وهي اتجاه اقتصادي منقح وملطف من أفكار العالم الإنجليزي توماس مالتوس، (ت1834)، الذي أثر بشكل كبير في تطور الدراسات السكانية حتى أصبح واحداً من مشاهير علم السكان، ومن مؤلفاته الشهيرة (بحث في مبدأ السكان) وصاغ فيه نظريته التي أثارت ضجة كبيرة، حيث ورد فيها «أن الرجل الذي ليس له من يعيله، والذي لا يستطيع أن يجد له عملاً في المجتمع لن يجد له نصيباً من الغذاء على أرضه، إذن فهو عضو زائد على وليمة الطبيعة حيث لا صحن له من بين الصحون، لذلك فإن الطبيعة تأمره بمغادرة الزمن». خرج مالتوس في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي عاش فيها وترافقت مع الثورة الصناعية وارتفاع أعداد السكان، وتراجع المحاصيل الغذائية، الأمر الذي قاده إلى بلورة سؤال شغل باله كثيراً، هو: ما مدى تأثير النمو السكاني على رفاهية السكان؟ إن جوهر المعضلة عند مالتوس يكمن في التناقض بين قدرة السكان على التزايد وقدرة الأرض على إنتاج الغذاء، فطالما أن زيادة السكان هي عملية بيولوجية كما يرى ولا علاقة لها بالنظم الاجتماعية السائدة، وبما أن الغريزة الجنسية التي تحكم ميل كل من الجنسين إلى الآخر سوف تظل في المستقبل على حالها تقريباً، فإن قدرة السكان على التكاثر ستبقى خاضعة في نموها لمتوالية هندسية، ومن ثمّ فإن أعداد السكان ستتضاعف كل ربع قرن وستستمر بالزيادة إلى ما لا نهاية ما لم يعرقل هذا النمو موانع معينة. هذا التزايد في أعداد السكان لن يواكبه تزايد مماثل في الموارد الغذائية، لأن قدرة الأرض على إنتاج الغذاء محدودة للغاية؛ وذلك بالنظر إلى قانون الغلة المتناقصة الذي يجعل من إنتاج الموارد الزراعية ينمو وفق متوالية حسابية ممّا يعني أن الفجوة بين عدد السكان والموارد الغذائية ستزداد اتساعا، وفي مثل هذا الوضع الذي يختل فيه التوازن بين عدد السكان وموارد العيش، فإن النتيجة الحتمية في ذلك ستكون الزيادة في مآسي البشرية وآلامها وتعقد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، كالجوع والبطالة والفقر وسوء أحوال الصحة العامة وانتشار الرذيلة وفساد الأخلاق. ولإبعاد خطر النتائج السيئة لزيادة السكان، أو للتغلب على التناقض بين نمو السكان ونمو الموارد الغذائية ومن ثم تحقيق التوازن بينهما، أكد مالتوس ضرورة الموانع التي تكبح نمو السكان وتُنقص أعدادهم، وهي على نوعين: «الموانع الأخلاقية» و«الموانع الإيجابية». تقوم الأولى على إرادة الإنسان في منع الشر (التكاثر) قبل وقوعه، وذلك بتعقل الإنسان وتبصره وبعد نظره، مثل العفة والزهد والرهبنة وإرجاء سن الزواج، - أو ما يوصف في عصرنا بموانع وعوازل الحمل-، غير أن هذه الموانع حسب رأيه لا تكفي وحدها لموازنة أعداد السكان مع الموارد؛ لأن كثيراً من الأفراد لا يملكون النظرة الثاقبة والبصيرة النافذة، خاصة الطبقات الدنيا والفقراء، لعدم وصولهم إلى تلك الدرجة من العلم والثقافة، فهم يمثلون بؤرة مدرة للإنجاب، وبيئة خصبة للتكاثر المضر بتوازن الكوكب، لذلك يرى مالتوس أنه لابد من تدخل العوامل الخارجية الطبيعية التي يسميها الموانع الإيجابية، مثل الفقر المدقع والأمراض والأوبئة والعمل في المهن الضارة بالصحة والقحط والمجاعات والحروب وغير ذلك، مما يمكن القول عنه كل عوامل البؤس التي تزيد نسب الوفيات وتنقص أعداد السكان! (انظر: رمزي زكي، «المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة»، سلسلة عالم المعرفة). دعا مالتوس صراحة إلى دعم زيادة معدل الوفيات بين الفقراء، معتبراً أن جميع الأطفال الذين يولدون فوق الحاجة عليهم أن يموتوا. وكان يدعو إلى حشر الفقراء في بيوت ضيقة قذرة، وتسكينهم بالقرب من البحيرات والمستنقعات الملوثة، وإرهاقهم في الأعمال الخطرة والمصانع الشاقة، ويطالب الأطباء بعدم معالجة الأمراض، حتى يساهم ذلك في تفشي الأوبئة ويؤدي ذلك إلى تناقص أعدادهم، فهو يشجع الكوابح التي تسهم في تقليل أعداد السكان، ويسميها الكوابح الطبيعية الإيجابية، فكل كارثة طبيعية تسهم في تقليل أعداد البشر هي إيجابية بالنسبة لمالتوس؛ لأن الطبيعة تقوم برد فعل لإعادة الأمور لنصابها، وحفظ التوازن بين عدد السكان وموارد الأرض. أدت نظرية مالتوس إلى حدوث كوارث إنسانية، واتخذت مبرراً للإبادة الجماعية لبعض الأعراق والفئات الاجتماعية. وأُجبر أبناء بعض العرقيات المضطهدة، مثل السود والهنود في أمريكا على إجراء تعقيم قسري (إحداث حالة عقم دائمة)، وربما من تجليات هذه النظرية، تجربة التنمية السوفيتية التي تسببت في مجاعات هائلة عام 1933 نتج عنها إبادة أعداد كبيرة من البشر بحجة اعتصار التراكم المطلوب للتنمية والتقدم الصناعي. بالطبع تعرضت أفكار مالتوس لانتقادات كثيرة، ووصفت مخاوفها بأنها خرافة، فهي لم تأخذ في الحسبان التطور التكنولوجي وقدرة العلم على التقدم ومواكبة التحديات وزيادة الإنتاج. * باحث وكاتب سعودي