الشروق المصرية حين نريد أن نمارس القمع وتكميم الأفواه تصبح الشريعة هى الحل. من هذه الزاوية فإن الإضراب عن العمل يعد حراما لأنه مفسدة تعطل مصالح الخلق والإضراب عن الطعام منهى عنه شرعا بنص الحديث لا ضرر ولا ضرار. والتظاهر يصبح إفسادا فى الأرض والمعارضة تعد إثما ينتهك الأمر بطاعة ولى الأمر. والنقد دعوة إلى الفتنة والمخالفون خوارج. أما تأييد أحكام الاعدام فيستند فى مرجعيته إلى فكرة «الحرابة»..إلخ يحدث ذلك عندنا وعند بعض الأشقاء. الملف يفتحه الحكم الذى صدر عن المحكمة الإدارية العليا أخيرا (فى 18/4/2015) بخصوص إضراب بعض العاملين فى إحدى الوحدات المحلية بمحافظة المنوفية عن العمل. ذلك أنه ضمن حيثياته إشارة إلى أن الإضراب حرام «لأن الشريعة لا تجيز توقف عمال المرافق العامة عن تقديم الخدمة التى تقدمها إلى الجمهور».. وهى «لا تبيح هذا المسلك لا بما فيه إضرار بالناس فحسب، بل لأنه يعد تمردا على السلطة الرئاسية فطاعة الرئيس واجبة». وقررت المحكمة بعد إيراد حيثياتها إدانة المتهمين بالإضراب، فحكمت بإنهاء خدمة ثلاثة وإحالتهم إلى التقاعد ومجازاة 14 متهما بتأجيل ترقية كل منهم لمدة سنتين. الحكم يستدعى عندى ثلاث ملاحظات هى: * إنه وأمثاله مما سبقت الاشارة إليه من قبيل الاحكام التى تعمد إلى الانتقاء والتأويل الذى يوظف لخدمة أهداف سياسية. وفى الحالة المصرية مثلا فإنه فى الوقت الذى أصبح فيه مصطلح الشريعة مثيرا لدرجات مختلفة من الاستياء والنفور بسبب التعبئة الإعلامية المضادة التى عبرت عن الصراع السياسى الذى تشهده البلاد. فإننا نفاجأ بالزج بمرجعية الشريعة فى الاحكام القضائية التى يراد بها معاقبة الخصوم والمعارضين. الأمر الذى وضعنا أمام مشهد لا يخلو من مفارقة فى ظله أصبحت الشريعة منبوذة فى الاعلام ومستهجنة فى بعض دوائر المثقفين. لكنها مرغوبة فى أحكام القضاء التى تخدم السياسية وتؤيد خطواتها. وكانت النتيجة اننا لم نعد نرى فى الاحكام الشرعية والمصطلحات ذات المرجعية الدينية سوى انها من ادوات قمع المعارضين والتنكيل بهم. وتلك ابلغ اساءة للشريعة فى حقيقة الأمر. الذى لا يقل سوءا عن ذلك أن التأويلات التى تستدعى القضايا المنظورة أغلبها إن لم يكن كلها مشوب بالفساد ومردود عليه، فالإضراب عن العمل حتى إذا ادى إلى تعطيل بعض المصالح لبعض الوقت ليس بالضرورة مفسدة خالصة، لأنه قد يكون الدافع إليه هو رفع ظلم بالموظفين لم يكن هناك سبيل آخر لرده. * إنه فى عام 1986 دعا قادة وعمال السكة الحديد إلى اضراب عام عن العمل حتى تستجيب الحكومة لمطالبهم، مما ادى إلى توقف خطوط السكة الحديد آنذاك. وقد تم القبض على اربعين شخصا منهم وقدموا إلى محكمة الجنايات، حيث نسبت اليهم النيابة ثلاث تهم هى: تعمد تعطيل سير قطارات السكة الحديد الاضرار بمصالح الدولة وتكبيد السكة الحديد خسائر قدرت بنحو 300 ألف جنيه استعمال العنف والتهديد مع موظفين عموميين آخرين لمنعهم من أداء عملهم. وقتذاك اثارت القصة الرأى العام وتقدم نحو 25 من أبرز المحامين المصريين للدفاع عن حق العمال فى الاضراب. وفى شهر ابريل (أيضا) من عام 1987 اصدر المستشار محمد أمين الرافعى رئيس محكمة جنايات امن الدولة العليا حكما تاريخيا أيد فيه حق العمال فى الاضراب، ومن أهم ما استند اليه القاضى الجليل الذى ينتمى إلى عصر الشوامخ ان مصر وقعت على الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى تلزم الدول الموقعة بأمور عدة بينها كفالة الحق فى الاضراب. وبهذا التوقيع بعد التصديق عليه صارت الاتفاقية جزءا من التشريع المصرى واجب التطبيق «تضمن دستورا 2012 و2014 نصا صريحا يعتبر الاضراب حقا ينظمه القانون». الحكم لم يأخذ المستشار الرافعى بكلام أحد شهود الإثبات لأن أقواله تمت بضغط من أحد ضباط المباحث الذى هدده بتشريد أولاده. وذكر أن المحكمة استقر فى وجدانها أن ذلك الإضراب ما كان يحدث من تلك الفئة من العمال وقد كانت مثالا للالتزام والتضحية إلا بعدما أحست بالتفرقة فى المعاناة والمعاملة عن كاهل فئات الشعب حتى لا يستفحل الداء ويعز الدواء. وبنى القاضى على ذلك أن التهم المسندة إلى المتهمين جميعا تخاذلت فى أساسها القانونى والواقعى وتفرقت لذلك أركانها، الأمر الذى يرتب براءة المتهمين جميعا مما نسب إليهم (16/4/1987). خلاصة ----------- * خلاصة الملاحظة الثالثة أن اللجوء إلى تأويلات بذاتها للاتكاء عليها وإضفاء مرجعية شرعية على الأحكام والقرارات التى تبرر القمع وتصادر الحريات العامة يسلط الضوء على تهافت الإدعاء بمخاطر تدخل الدين فى السياسة؛ لأن المشكلة الحقيقية عكسية تماما. أعنى أن جوهر المشكلة يكمن فى سعى السياسيين إلى توظيف الدين لخدمة أهدافهم وليس العكس؛ لأن المتدينين حين يعبرون عن آراء سياسية فى كلامهم فإن ذلك قد لا يقدم ولا يؤخر. وقد لا يتجاوز أثره إحداث بعض الأصداء فى الفضاء العام. لكن السياسيين حين يستخدمون ورقة الدين فإنهم يملكون سلطانا يمكنهم من فرض ما يريدون على الناس. ولأن الفصل بين الدين والسياسة متعذر من الناحية العملية ولأننا لا نستطيع أن نمنع المتدينين من الكلام فى السياسة شأنهم فى ذلك شأن غيرهم من المواطنين العاديين، فإن المطلب الأكثر معقولية وجدوى هو أن نطالب السياسيين بأن يرفعوا أيديهم عن الدين ويكفوا عن التلاعب بأحكامه والله أعلم.