ساسة بوست تساؤلات جدّية تُثار بالعقل كلما أُمْعن التفكير فيمن يخلعون رداء المبادئ والقّيم، التي طالما نادوا بها وطالبوا بتحقيقها عبّر عقودٍ مضت. رغم المشاركة الليبرالية الجلية في تَكسير زجاج الاستبداد والسلطوية ضمن حراك شعبي حَصَلَ في 2011م، فإن ممثليها أضحوا فيما بعد من أشد مبرري السلطوية، بل والساعين إلى ترسيخها كنظام للحكم، باعتبارها – حسب ظنهم- حلاً أمثل للتصدي لأسلمة الحكم والمجتمع. وبعيدًا عن جدّلية العلمانية أو الليبرالية كمصطلحات واسعة التعريفات، يبقى مُرسخًا في العقول أنها حقيقة فكرية مكتملة الأركان متضمنة لكافة أشكال الحياة سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، وتحكمها حزمة متعددة من الإجراءات والقيم الراسخة التي بدونهما لا تستقيم الأمور. جدير بالملاحظة، أن المشهد العربي مليء بنماذج شتى لأُنَاس كهؤلاء، من الذين تلاشت مبادئهم مع مجرد بدء قصة صعود وهبوط التيارات الإسلامية في عديد من البلدان العربية، فهناك من قالها صراحة بوجوب إبعاد تيارات الإسلاميين عن الممارسة الديمقراطية، وآخرون طالبوا بتأجيلها لحين الاستعداد لها، وهناك من سعوا جاهدين إلى استدعاء العسكريين للفضاء السياسي. وقد يُلقي الكثيرون بالمسئولية على الإسلاميين سواء في نجاح التجربة الديمقراطية التونسية، وذلك لقدرتهم على تطبيق سياسة الاحتواء والإدراك للتحديات، أو تعطيبها في الدولة الليبية لتمنعهم الحوار وعدم تقبلهم نتائج الصناديق وتبنيهم السلاح، أو فشلها في مصر لرفضهم الحوار وإخفاقهم في الاحتواء، وذلك في تَنَاسَي مُلاحظ للطرف الليبرالي من دعاة المدنية والديمقراطية، الذي اتسق ومبادئه وقيمه في التجربة الأولى، وتنصل عنها في التجربتين الثانية والثالثة. فالإنصاف يقول: إنه كما يُلام الإسلاميون، لا سيما الإخوان المسلمين، على فشل التجربة الديمقراطية المصرية، بسبب ضيق الأفق والسذاجة السياسية والابتعاد عن تبني سياسات ضرورية لإنجاح عملية التحول نحو الديمقراطية، يُلام كذلك من صدعوا الأدمغة بالفكرة الليبرالية وآليات تطبيقها؛ إذ تنكروا لمبادئها وقيمها وأداروا ظهورهم لانتهاكات جمة سواء في الدستور أو حقوق الإنسان، والأكثر من ذلك، استدعاؤهم للعسكريين في المجال السياسي (شكل الليبراليون أحد الأضلاع الرئيسة في مشهد خروج 3 يوليو2013م). وما بين ماضٍ يُسجل سعيًا دءوبًا ونضالاً طويلاً لا يمكن نكرانه لتحقيق إجراءات وقيم الديمقراطية، وحاضر يشهد سعيًا مساويًا وجهدًا مكثفًا لنسف إجراءات قد بدأت وقيم ولدت بدماء آلاف الشباب، يمكن تفسير تناقض أو ازدواجية الليبراليين المصريين، وذلك من خلال أمرين، الأول: هو الخوف من إفرازات صناديق الديمقراطية؛ إذ خشي الليبراليون على ما يبدو من مواجهة الإسلاميين مرة أخرى عبر الإجراء الانتخابي، الذي عدّ كاشفًا لأوزانهم الحقيقية في الشارع المصري. وبدلاً من محاولة العلاج بتجميع الصفوف والقفز على الإشكاليات فيما بينهم والقيام بدور المعارضة كما يجب أن تكون، ومن ثمّ الاستعداد لجوالات الديمقراطية المتتالية، جاهروا مبكرًا باستجدائهم العسكريين لتخليصهم من الإسلاميين. علمًا بأن أسطورة صداقة الإسلاميين للصناديق، تكسرت في بلدان عدة، وما إندونيسيا وتونس ببعيدتين، ففي الأولى حظي الإسلاميون بنسبة كبيرة من مقاعد البرلمان بعد إسقاط سوهارتو 1998م، ولكن فيما بعد تراجعت شعبيتهم وأخذت في الهبوط التدريجي، وفي الثانية تقدم حزب نداء تونس ذو التوجهات العلمانية في ثاني انتخابات ديمقراطية أجريت بعد الثورة التونسية على حزب النهضة الإسلامي. فيما يتعلق الأمر الثاني: بما يمكن تسميته ب(نمطية الاعتياد)؛ وهو تمثيل أو تطبيق لوضع أو صورة أو إجراء بشكل اعتيادي تقليدي؛ فقد اعتاد ليبراليو مصر طوال عصر الرئيس الأسبق «مبارك» على المعارضة الناعمة، التي تحفظ لهم ممارساتهم الليبرالية في حدودها الضيقة، وتجعلهم في الوقت نفسه بعدين عن أنياب السلطة، وأمام الآخرين من مخالطيهم والمجتمع مرتاحي الضمير كونهم يعارضون ظاهريًا نظامًا غير ديمقراطي. ويبدو أنه عندما شعرَ الليبراليون بأن ممارساتهم لبعض من مظاهر الليبرالية قد تُمس في ظل حكم الإسلاميين، وأن زهوتهم كنجوم معارضة في المجتمع قد تنزوي، بجانب إدراكهم عدم القدرة على المنافسة الانتخابية. جاء شعارهم مطابقًا لنمطية الاعتياد، وهو (نار العسكر ولا جنة الإخوان)، مما يعكس – حسب اعتقادي- نفوسًا ليبرالية أشبه بنفوس الأقلية في مجتمعات الأكثرية، التي دائمًا في حاجة ماسة إلى حماية الحاكم أو السلطة من مجتمع الأكثرية، وما العسكريين إلا جوّاد الحماية بالنسبة لهم. ولا يغيب عنا هنا، محاولة تكوين جبهة «الإنقاذ الوطني»، التي جاءت كرد فعل للإعلان الدستوري الصادر في 22 نوفمبر 2012م، وأعطت الأمل في إمكانية بناء تحالف ليبرالي بنيوي معارض للسلطة؛ إذ ضمت عددًا كبيرًا من الأحزاب والحركات ذات التوجهات الليبرالية واليسارية، علاوة على شخصيات عامة تتخذ من التوجهات ذاتها مرجعية لها. وقد استطاع بالفعل ذلك التحالف رغم حداثة تكوينه، أن يُسجل حضورًا مؤثرًا في الشارع السياسي المصري، بل والتأثير على مؤسسة الرئاسة بشأن الإعلان الدستوري سالف الذكر، ولكنه للأسف هو ذاته من دفع بالعسكريين للولوج إلى الحياة السياسية، ومن ثمّ أصابته الفرقة والتشرذم والخفوت السياسي. ورغم محاولات البعض لإعادة الزهو السابق للجبهة بتكتل انتخابي في البرلمان المحتمل، فإنه قد يكون من الصعب تحقيق ذلك لغياب القضية الجامعة، وأيضًا لأن التنافسية هي قوام البرلمان، ناهيك عما بداخل الجبهة من تجاذبات عدة بين مكوناته. ويبقى أن هذه العودة النمطية، رغم كونها واضحة المستقبل، فإنها في الحالة المصرية الراهنة مغلفة بالْمَنّ العسكري، الذي لولا تدخله لما تخلص الليبراليون من هواجس الأسلمة، وبالتالي فإن مساحاتهم الضيقة التي اعتادوها؛ ربما تزداد ضيقًا بخاصة لما يتعلق بالحديث عن انتهاكات لحقوق الإنسان وغيرها.