لست أول من يضع هذا السؤال ولن أكون الأخير، فسلّة التحولات التي أصبح ينوء بحملها الإنسان العربي البسيط غدت تستوعب كل الخيارات والتساؤلات والمفاجآت، فنحن أمام لحظة زمنية يصعب فيها التكهن، لا بالأشياء غير المتوقعة، بل يصعب التكهن بالأشياء المتوقعة! كأن سلّة التحولات العربية غير مكتظة بفواكه وأتربة وديدان الربيع العربي حتى نحشر فيها تحولات الموقف من زيارة القدس والمسجد الأقصى. ظلّت زيارة القدس، منذ السادات، تهمة لا تغتفر بحسبانها تطبيعاً مع العدو الصهيوني وإقراراً بوجوده وولايته على القدسوفلسطين بعامة. الآن، نحن أمام لغة أخرى غير تخوينية لزوار القدس، بل هي لغة تحفيزية للذهاب إلى القدس وزيارة المسجد الأقصى، فما الذي تغيّر؟! هل تغير مفهوم التطبيع، أم تغيرت الوقائع على الأرض، أم تغيرت أجندة الإنسان العربي بحيث أصبح يمزج الرومانسية بالواقعية .. والطوباوية بالبراغماتية؟ هل نشوة الربيع العربي أم انضمام فلسطين إلى اليونسكو وما قد يلي في الأممالمتحدة هو الدافع لهذه المبادرة، حتى أن د. وصفي الكيلاني وضع مؤخراََ كتاباََ صغيراََ عنونه «لماذا يجب أن نزور المسجد الأقصى المبارك؟». الدعوة إلى زيارة القدس تنطلق الآن من زعامات سياسية (الرئيس الفلسطيني) وقيادات دينية (مفتي فلسطين ومفتي مصر) ومن مكونات ومدونات شعبية، لكن تعارضها بالمقابل زعامات سياسية (حماس) وقيادات دينية (القرضاوي) ومكونات شعبية محافظة. حجة الطرف المعارض أن زيارة القدس خطوة تمهيدية لإلغاء المقاطعة مع العدو الصهيوني وأن فتح باب السفارة الإسرائيلية لأخذ تأشيرة لزيارة القدس هو فتح لأبواب التطبيع مع الدولة المحتلة، واعتراف وقبول باحتلالها للمقدسات، ما يعني ارتخاء راية الجهاد! ولا يخفى بالطبع صعوبة الخوض والحسم في قضية يتداخل فيها الديني بالسياسي! لا يغفل الطرفان المتنازعان عن أن هناك طرفاً ثالثاً شريكاً في المسألة، فالسلطات الإسرائيلية لن تفتح أبواب القدس على مصاريعها لفلول العرب الزائرين والحجاج القاصدين زيارة بيت المقدس. لكنهم يرجئون الالتفات إلى موقف الطرف الثالث لحين حسم الموقف بين الأخوين المتشاكسين، ثم لاحقاً سيحصلون على مبتغاهم أو يقيمون الحجة على الطرف الثالث «المحتل/ الديموقراطي» أمام العالم. هذا الجدال المتشابك لا يحسمه قرار معزول من السياسي ولا فتوى منطوية من الديني، فزيارة القدس هي بامتياز من مسائل السياسة الشرعية. وإذا استحضرنا التساؤل الذي استجلبه بعض المناقشين حول موقف علماء وعامة المسلمين من زيارة القدس والمسجد الأقصى يوم كانت تحت الهيمنة الصليبية آنذاك، وقد كان العالم الإسلامي حينها يتوافر على علماء عمالقة هم مرجعيات لمشائخ اليوم، فسنحتاج أيضاً إلى المؤرخ الذي يصف لنا الحالة والموقف حينذاك. أما الآن، فسيطول الجدل ويحتد بين دعاة زيارة القدس والمثبطين لها، لكن إسرائيل الماكرة دوماً، لن تنتظر حتى يحدد العرب والمسلمون موقفهم، بل ستستعد لكل السيناريوات المحتملة. السيناريو الإسرائيلي المضاد، وهو الأمثل والأنعم والأقل خسائر بشرية ومادية عليها، هو إشعال صراع عربي / عربي على القدس، وقد بدأت شرارة هذا الصراع تلوح في الأفق. وهو ما ستتناوله المقالة القادمة بإذن الله. حمى الله القدس، من أعدائها .. ومن أهلها! * كاتب سعودي