أية ديموقراطية تتسبب في إعاقة التنمية فهي بحاجة لإعادة نظر، وفي العالم الثالث تحولت الديموقراطيات إلى مجرد خدعة سياسية واضحة استطاعت أن تلعبها الأحزاب المستبدة بالسلطة منذ يومين بثت قناة الجزيرة برنامجا عن الاقتصاد في الكويت. تناول البرنامج قضايا التنمية والمشروعات الاقتصادية المتوالية وواقع التنمية وظروفها. العبارة الأبرز التي حملها التقرير كانت ما يلي: الواقع البرلماني في الكويت والخلافات المستمرة داخله تسببت في تعطيل التنمية والاقتصاد. سوف ينبري لك الآن من يصف هذا الكلام بأنه عبارة عن تخويف من الديموقراطية، وأنه مجرد شماعة تتخذها الحكومات لتساوم بها الناس على الديموقراطية والحرية، لكن الواقع لا يقول ذلك على الإطلاق، فالواقع السياسي البرلماني بطبيعة الحال له تأثيره الواسع على عملية التنمية التي هي التحدي الأبرز. هل الديموقراطية عنوان معلق في الهواء يمكن لأي مجتمع ولأية ثقافة أن تنتزعه من مكانه وأن تقوم بارتدائه كما تُرتدى الثياب؟ أم إنها مرتبطة بالسياقات الاجتماعية والثقافية لكل دولة؟ بالتأكيد نحن ندرك أن ديموقراطية بريطانيا مختلفة بشكل كبير عن ديموقراطية الولاياتالمتحدة، لسبب يسير هو أنه تم تكييف العمل الديموقراطي وفق ما يقتضيه الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي لكل دولة. إذ اتجهنا لقراءة التجربة اليابانية سنجد أن حزبا واحدا استأثر بالسلطة واحتكرها منفردا لمدة تزيد عن أربعين عاما، وبالرغم من وجود انتخابات لما يعرف بمجلس المستشارين، وانتخابات لمجلس النواب، إلا أن الممارسة الديموقراطية اليابانية تتم وفقا للتراث الثقافي والتقاليد الثقافية اليابانية، وقد كتب جون ورونوف ذات مرة متسائلا: (هل اليابان نموذج خاص للديموقراطية؟ أم إنها نظام برلماني على الطريقة الغربية مبني على فصل السلطات؟ أم إنها دولة فاشية ديكتاتورية أم إنها نظام رأسمالي استغلالي؟.. يبدو أنها كل ذلك) إذن فنحن أمام نماذج تؤكد بكل وضوح أن الديموقراطية مجرد وسيلة لتحقيق جملة من الأهداف التي تدور حول الحقوق والحرية والعدالة والتنمية والازدهار الاقتصادي، وبالتالي تختلف الديموقراطية في الدرس الحضاري الإنساني عنها في الواقع التطبيقي لمختلف دول العالم، وهو ما يمكننا من القول إن أية ديموقراطية تتسبب في إعاقة التنمية فهي بحاجة لإعادة نظر، وفي العالم الثالث تحولت الديموقراطيات إلى مجرد خدعة سياسية واضحة استطاعت أن تلعبها الأحزاب المستبدة بالسلطة كما كان الوضع عليه في مصر ما قبل الثورة، وكذلك في اليمن. لكن هل الديموقراطية تعتبر شرطا لنيل مختلف المكاسب الإنسانية والحضارية والتنموية؟ إنها وبالنظر إلى الواقع العالمي تعد إلى الآن الطريقة الأنسب، لكنها ليست الأصلح دائما، ولا هي بالقالب الثابت دائما، وهكذا هي الأدوات أصلا، يتم تكييفها وفق ما يقتضيه الواقع. يتكىء العالم العربي على موروث ثقافي يكتظ بالكثير من العلل والأزمات، وهي الأكثر تأثيرا في مسار الواقع وتشكيله، دعك من الحديث عن أجيال جديدة مختلفة. إنها مختلفة ربما في سلوكها ومظهرها وليس في رؤيتها وتفكيرها، والأدلة على ذلك واسعة جدا، بمعنى أن تلك الخلفيات الثقافية هي التي تمتلك التأثير الأبرز في تحولات النماء السياسي، وحتى حين توجد تجربة ديموقراطية مبكرة كما هو الحال في الكويت لا يتم الحفاظ عليها، وسرعان ما تتحول لتنتج واقعا سلبيا على أكثر من صعيد. والجميع الآن يدرك أن الكويت كان بإمكانها أن تكون أفضل واقعا مما هي عليه الآن. الثقافة العربية في مجملها ثقافة تميل إلى كثير من التسلط، وليس سوى المال والازدهار الاقتصادي هو الذي استطاع أن يغير بشكل نسبي في طباع كثير من أبنائها، مما يعني أن التنمية وحدها هي التي يجب أن تكون أولا، لكن ذلك لا يمنع من العمل على إيجاد مشروع حقيقي يؤمن أن التنمية ليست في العمران بل في الإنسان أيضا، من خلال إدراكه لحقوقه وتفعيل المشاركة المجتمعية في صنع القرار، والعمل على بث تلك الروح في الواقع الاجتماعي بكل شرائحه. إن الخيار الديموقراطي لا مضمون له حين لا يكون مستندا على واقع ثقافي قادر على توجيهه بالطريقة الأمثل، وبالتالي تصبح تنمية الإنسان أول خطوة ليكون ديموقراطيا حقيقيا.