الديموقراطية الليبرالية أو تنافس الأحزاب السياسية، المفروض أنها الأساس الأيديولوجي لشرعية السلطة السياسية بعد الزوال الفعلي للحكومات الماركسية اللينينية، فماذا تعني الديموقراطية الليبرالية بالضبط؟ الاتحاد بين عمليتين مترابطتين هما التحرر السياسي والتحول نحو الديموقراطية السياسية. حلو الكلام، فماذا عن أرض الواقع؟ لنبدأ بمصطلح التحرر السياسي ونبسطه قليلاً ونقل إنه يتضمن الاعتراف بالحريات السياسية والمدنية، وحمايتها أيضاً، أما المصطلح الآخر وهو التحول نحو الديموقراطية السياسية فحين نبسطه نقول إنه يتضمن التوسع في عملية المشاركة السياسية بحيث تتاح للمواطنين درجة من السيطرة الجماعية و»الحقيقية» على السياسة العامة، وقد يقرأ القارئ ما ذكر للتو ولا يرى فيه شيئاً، لكنه لو دقق لوجد أن الاختلاف بين المصطلحين مهم وجوهري، فلا يعني توافر عناصر التحرر السياسي أننا سنحظى بتوافر عناصر التحول نحو الديموقراطية السياسية، والعكس صحيح، فيمكن مثلاً التخفيف من القمع والاضطهاد السياسي بلا توسع في المشاركة السياسية الشعبية، كالأنظمة التي تقوم بعد الثورات فتعطي بعض السلطات لجماعات كانت مهمشة قبل الثورة، بينما لا تجد هذه الأنظمة الثورية حرجاً في فرض القيود على الحريات السياسية والمدنية كأعمال الاضطهاد ضد جماعات وأفراد تمارسها في حق من تعتبرهم مناهضين للثورة، وأبرز مثال وأقربه هو النموذج المصري الصريح. فهل تكيفت مناطق العالم مع الهياكل الديموقراطية الليبرالية؟ تقريباً... ولنذكر اليابان والهند وأميركا اللاتينية على سبيل المثال والتحفّظ في الأخيرة، لكن ماذا عن الشرق الأوسط؟ طرحت عملية التحول معها إشكاليات عدة ومن أهمها هو ذلك الوجود السابق للمؤسسات العربية الديمقراطية وعلى طريقتها، وليس على الطريقة الديموقراطية الليبرالية، وإن كان هذا لا يمنع من القول إن المنطقة لم تخلُ من هياكل للمشاركة للسياسية، على خلاف الأنظمة العسكرية في دول أميركا اللاتينية في السبعينات مثلاً، أضف إليه أن دولاً مثل الأردن والمغرب وحتى الكويت استطاعت أن تقيم مؤسسات ديموقراطية ليبرالية، لكن مع فرض القيود الصارمة على الصلاحيات والسلطات الممنوحة، وعليه، فالزعم بوجود ديموقراطية عربية إقليمية ينطوي على قدر من الصدقية. نأتي الآن إلى عيوب نماذج الشرق الأوسط الموجودة حالياً في شأن الديموقراطية الليبرالية، فحكاية العلمانية المتطرفة بالنسبة إلى دستور مصطفى كمال أتاتورك في تركيا لا يمكن استيعابها أو هضمها في بيئة مناخها وشعورها العام ديني إسلامي، أما المحاولات الأولى التي قام بها لبنان لتطبيق الديموقراطية الطائفية على نحو يمنح السلطات لجماعات مختلفة، فقد كانت من أسباب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية ولا تزال شعلتها، ناهيك عن القول إن إسرائيل كدولة غير إسلامية وغير شرعية في المنطقة لا تصلح لتكون نموذجاً، وإن كان الفلسطينيون – للمفارقة - ومن طول تعرضهم للاحتلال قد شربوا نظامه وقوانينه وحاولوا تطبيقه في تطوير مؤسساتهم الديمقراطية، والسؤال: لماذا أصبح التحول الديموقراطي قضية أساسية في الشرق الأوسط اليوم؟ هناك عاملان: الأول يتمثل في أبناء الطبقة المتوسطة المتمدّنة والمتعلمة الذي دفع وفي ظل ثقافات الفضاء المفتوح إلى خلق توجه عام ومشترك مؤيد للديموقراطية الليبرالية ومتحمس لها، والعامل الثاني يتلخص في أن العديد من الظروف التي ساهمت، بل دعّمت وجود الأنظمة غير الديموقراطية وأضفت على شرعيتها اللون الوردي، بما في ذلك سياسة ما بعد الاستعمار، والتنافس في مرحلة الحرب الباردة، هذه الظروف أخذ عامل الانبهار بها والاهتمام بحيثياتها يتلاشى مع الوقت ويبرز من بين الثنايا عامل آخر يدعو إلى ضرورة التكيف والتأقلم مع الديموقراطية الليبرالية. ومع أن العديد من التفسيرات المرتبطة بالإسلام تبدو على الأقل متوافقة مع المثل والقيم الديموقراطية، إلا أن النضج السياسي يرى في المقابل أن هناك اتجاهات سياسية إسلامية محافظة يروق لها نموذج المؤسسات التقليدية، فتسعى لفرض قوانين ومبادئ ثقافية مناهضة للديموقراطية وللمنادين بها، فإلى أين سيتجه الصراع؟ لنترك الإجابة للزمن الحكيم. [email protected]