الإنسان في هذا العصر بات يلهث، تكاد تتقطع أنفاسه ويختل توازنه وهو يركض لملاحقة "طوفان المعرفة" الهادر مع ثورة الاتصالات وانفجار المعلومات، التي حطمت السدود وكسرت القيود وأزاحت الأسوار الوهمية والحقيقية بين الثقافات، من خلال تدفق في شرايين شبكات "الإنترنت" وسيل دافق يحمل ركاما هائلا من الآراء والاجتهادات والنصوص المتضاربة والأفكار والدعوات التي غمرت مشاعر الإنسان وشكلت ضغطا رهيبا على عقله ومعايير حكمه. وثورة "تكنولوجيا الاتصال" جلبت معها ما هو من طبيعة المجتمعات البشرية من تناقض المصالح واختلاف الآراء وتباين المقاصد وما ترتب على هذا "التناقض" من خلط السياسي بالديني والاجتماعي بالاقتصادي. ومن الطبيعي أن يكون هدف كل المتنافسين هو استدراج الإنسان إلى ما يعرضه كل طرف وأن يكون مسرح المعارك هو وعي وعقل هذا المخلوق "الإنسان" فهو "الأداة" التي يمكن بها تحقيق المكاسب المادية والانتصارات الفكرية وبها تعلن الانتصارات وتسجل الهزائم وبها تصعد حضارات وتسقط أخرى. وعلى نفسيته ومزاجه وسلوكه تجرب المناهج وتفحص الأفكار وتطبق الدعوات لمعرفة مدى صلابة قناعته وسعة إدراكه وأصالة ثقافته وقدرتها على التفاعل مع الواقع. وفي مناخ هذه المعارك "غير المنظورة" تمتحن القناعات وتختبر الثقافات ويقاس مدى تجذرها وأصالتها واتصالها بالإنسان حاملها.. وشبابنا يقعون في هذه الفترة، تحت ضغوط هائلة مركبة، اجتماعية واقتصادية وسياسية ومعرفية وكلها تمس قناعاتهم، تهزها من جذورها، وقد تصل عند بعضهم إلى التشكيك فيما لديهم وتخلخل الأرض من تحت أقدامهم. وهي توظف طبيعة "القلق" والتوتر والاندفاع عند الشباب وتستثمر تطلعهم إلى الحياة من حولهم وتسرب الأفكار والرؤى والقناعات المختلفة المتشابكة، التي يلتحف بعضها برداء العلم ويتمسح بعضها بمناهج البحث العلمي ويرفع البعض الآخر لافتات إنسانية مغرية تخاطب الطبيعة البشرية العاشقة للحرية والعدالة والإنصاف والشفافية. ويلاحظ أن هذه "الضغوط" تنبع من مصادر ودوائر مختلفة، بعضها من خارج خريطة الثقافة المشتركة بين المسلمين وبعضها من دوائر مذهبية، وبعضها من داخل الدائرة الضيقة للمذهب السائد. ومع اختلاف المنطلقات والأهداف التي تحرك كل فرقة فإن "القدر المشترك" هو استثمار قلق الشباب وتململه من التشدد وضيق الأفق والتعسف الذي يتبناه البعض. وبعض المهتمين بالشباب وفكره وحياته ومصادر تلقي معارفه لم يستوعبوا، بالقدر الكافي، التسارع المخيف في تباعد المسافات بين الأجيال وتأثير ذلك على قبول الأفكار ونمط وصولها وأساليب مناقشتها. الشباب اليوم محتاجون إلى من يقترب منهم، يتفهم طبيعة "المعرفة" التي تشغلهم يتفحص أساليبهم في الحوار ومنهجهم في القبول والرفض. لم تعد مدرسة "الإملاء" مغرية ولا مقنعة ولا مؤثرة كما فعلت في الأجيال السابقة يوم كانت تعيش في أجواء ثقافة تتسم "بالثبات" وبطء التغيير، وحتى محطات التجديد كانت تتم في دوائر الخاصة ولا تصل إلى الجمهور إلا بعد أن تكون قد استقرت أما اليوم فإن "التغيير" هو السائد والثبات هو النادر والفكرة الجديدة أو الرأي المختلف يتلقفه الناس في أول ظهوره –حتى قبل أن ينضج لدى أصحابه– ويعايشون تطوره ومعاركه وما يصاحبها من حوارات ونقاشات تترك في أرض المعركة الكثير من علاماته الاستفهام وإشارات الشبهات والشكوك في نفوس البعض. وإذا كان "التشويش" من مصادر "وافدة" سهل الرصد والفرز والتعرف على العيوب ومواطن المعارضة والمخالفة لثقافة المجتمع فإن الآتي من "داخل" دائرة الثقافة "ملتبس" ويخفى على الغالبية حتى من بعض من لهم صلة بمصادر ثقافة المجتمع.. ومن ملامح هذا التيار الداخلي أنه لا يصدم المتلقي بما يوحي أنه ضد موروثه، بل "يستدرجه" بدعوى تنقية التراث من الروايات المكذوبة وتخليصه من المفاهيم المغلوطة المتسربة مع "توجهات" سياسية وغلبة تاريخية في عصور مضت. ومن السهل رصد هذا "التيار" من خلال دأب أفراده على التنقيب في أمهات المراجع التي استقر في وعي الأجيال المتلاحقة من مئات السنين احترامها وصحتها وتقديرها، يبحثون عن الروايات الشاذة والمواقف الشاردة والاجتهادات الفردية ليجعلوا منها دليلا قاطعا ينسف مصداقية تلك المراجع.. ترى أتباعهم يجمعون القصاصات والمقالات والتصريحات والدراسات "الموجهة" التي تغوص في أمهات كتب الحديث والتفاسير ليلتقطوا منها رواية أو رأيا لأحد علماء المسلمين ليجعلوه هو الأصل ويرموا بعرض الحائط رأي الجمهور والقول الذي يمثل "تيار" الأغلبية. هذا التيار، بمنهجه الانتقائي وأسلوب معالجته لقضايا التراث، هل يمكن أن نسميه بتيار الروايات الشاذة؟ ثم ما هي "المصداقية" العلمية التي يستحقها حتى تكون له مكانة في مجتمع يريد العيش في عصره دون التخلي عن مبادئه وقيمه وثقافته؟ هل من العقل –الذي يرفعون لافتة الانتصار له– أن "تتواطأ" أجيال متتالية من العلماء والمفكرين والباحثين في أنحاء العالم الإسلامي، على التدليس وحجب الحقائق وتجاهل الروايات الراجحة ليبرزها ويظهرها –حاطب ليل– أفاق على حين غفلة منزعجا من تطبيقات خاطئة، ونماذج من التدين المغشوش والتعصب الممقوت ليجعل منها سببا و"دليلاً" على أن ما يعتمد عليه من تراث الأمة لا بد أن يكون مدخولا أو مغشوشا أو مكذوبا؟. هذا لا يتفق مع العقل ولا مع البحث العلمي الجاد ولا يستحق أن يصرف العقلاء عما لديهم من صحيح القول والرأي.. لكن، للأسف، يبدو أن هذا التيار يجد من يتلقف نتاجه ويروج له بين الشباب باعتباره رمزا لحرية الرأي ومشروعية إعادة النظر في كل ما لدينا. نعم من حق الإنسان إعمال عقله لفهم النصوص وتدبر مقاصدها بعد أن يصطحب من المعارف ما يمكنه من ذلك. إنني من أنصار الحرية المؤمنين بثمراتها وإيجابيتها على الدين وأهله وأضيق بالكبت والقهر الفكري وما يورثه من أمراض النفاق والتزمت وإماتة العقل لكنني مقتنع بأن تيار "الروايات الشاذة" المنقب في الموروث لا يؤسس علما ولا ينقي تراثا ولا يبني هوية بل يورث "فراغا" يجعل الإنسان أسهل إغواء وأهون استدراجا.