أي مشروع يراد له الانتشار يحتاج الى رافعة اعلامية قوية، تعبر به الفضاءات لتنشره في كل مكان. فأي فكرة من دون رسول ستظل تراوح مكانها، والإعلام اليوم هو رسول الأفكار بترسانته المتعددة من فضائيات وإنترنت وصحف وكتب. والأمة اليوم بحاجة الى الكثير من المشاريع التي تنطلق بها نحو آفاق النهضة المنشودة في مختلف المجالات، ونخص بالذكر هنا المشاريع التي تهتم بتجديد الخطاب الديني وإعادة طرح الإسلام في صورته الناصعة كما جاء الى الأرض على يد سيد المرسلين، الإسلام كقوة محركة ورسالة دافعة الى عمارة الكون وقيادة البشرية الى سبل السلام. هذا المشروع بدوره يتطلب رافعة اعلامية قوية، كما يتطلب مضموناً اعلامياً (خطاباً) يتناسب مع حاجة الأمة في تلك اللحظة التاريخية الحرجة من مسيرتها. وقبل أن نستعرض تطوير البعد النهضوي لخطاب الوسطية، فإننا بحاجة ماسة أولاً الى التعرف الى مرادنا من النهضة، كي نتمكن من اعتبارها بعداً في خطاب الوسطية. ان النهضة التي نعنيها ونريد لها أن تنعكس في خطاب الوسطية المقبل تتسم بأربع خصائص: الهوية: حيث تعتز الأمم الناهضة بهويتها التي تصبغ كامل مشروعها. اختزان المعرفة: الأمم الناهضة تسعى الى اختزان المعرفة وليس فقط الى استيرادها، بحيث يكون المجتمع قادراً على الإضافة اليها والمساهمة في تطور البشرية. العمران: النهضة تتجلى كذلك في طفرة في العمران والنظم تعكس صورة الأمة الجديدة. جيش قوي، قادر على حماية هذه المكتسبات. وتسري النهضة في الأمم كتيار جارف، يناهض التخلف ويستأصله، هذا التيار تغذيه ثلاثة روافد: عالم الأفكار: إذ نعتبرها ثورة في عالم الأفكار تحدث تحولاً كبيراً في طريقة النظر الى العالم وفي ما نريده من العالم، وما نريده له. وفي النظر الى الذات (الهوية والتراث والرسالة والغاية)، تطرح أطروحات جديدة وفعالة قادرة على اختراق الواقع وتغييره. عالم العلاقات: إذ تتطلب ثورة كذلك في عالم العلاقات، كالعلاقات بين مؤسسات المجتمع المختلة، وبين طوائفه وأعراقه، الخ. عالم المشاريع: من خلال إحداث تراكم في المشاريع الفعالة التي تقود الأمة الى النهضة. هذه هي النهضة التي نريد، وسنتناول في هذه الورقة المختصرة كيف يمكن أن تنعكس في خطاب الوسطية من خلال أربعة محاور: التحديات التي تواجه النهضة. سمات مضمون الخطاب المجابه لتلك التحديات. الى من يوجه الخطاب؟ سمات لغة الخطاب. تحديات النهضة تواجه طريق النهضة مجموعة من التحديات، هذه التحديات تقف عقبة كأداء في طريق الروافد الجارية التي تمد الأمم بماء الحياة، رافد الأفكار ورافد العلاقات ورافد المشاريع. وسنستعرض أبرز العقبات التي تتطلب تحطيماً في تلك الروافد: عالم الأفكار: هناك منظومة من الأفكار القاتلة التي سكنت عقل أمتنا على مدار التاريخ، ورثناها جيلاً عن جيل، بل صرنا ندافع عنها ونتمسك بها بقوة، من أمثلة هذه الأفكار: الفهم المربك للعقائد: مثل الخلط بين التوكل والتواكل، والزهد وامتلاك الدنيا، وأثر الالتزام بشعائر الإسلام في تحقيق الانتصار بين المبالغة والتهوين، وقضية الحب في الله والبغض في الله، والولاء والبراء وصوره عند الشباب. العلاقة بالعلم: فالمسلمون في عصور التخلف شاع بينهم أن أشرف العلوم هي علوم الشريعة فحسب، وحوربت النزعة العقلية التي هي جوهر تسخير عالم الشهود، فشدَّ المسلمون رحالهم بعيداً من ساحة الحياة. وكانت لهذه القطيعة مع العلم آثار تدميرية كبيرة أودت بالعقل المسلم، وأخلّت بعلاقته بالعلم وبالتالي بسنن التسخير وسنن التدبير. فقدان الأمل: فعموم الأمة فقد الأمل في امكانية إحراز تقدم يذكر، وكل الأمل معقود على معجزة تحدُث تطبِّق موعود الله سبحانه وتعالى بانتصار المؤمنين، هذا الخطاب اليائس يتجسد في لغات كثيرة منها ترحيل الفعل على جيل قادم، لينعى جيل حاضر نفسه قائلاً: «الأمل في الأجيال القادمة». عالم العلاقات: ان عالم العلاقات هو انعكاس طبيعي لعالم الأفكار، فالأمة يعتريها التفتت والفرقة بين نسيجها الواحد، وتعتريها الانقسامات الداخلية (العرقية والدينية والطائفية والمذهبية والجهوية)، وهو انقسام يتخاطب بلغة الدماء والتدمير، كل يرى الحق في مصلحته، وكل يتقرب الى الله بإزاحة مخالفيه من الوجود، بل تم تشويه المعاني الكبيرة مثل «ان هذه أمتكم أمة واحدة» ومثل (وتعاونوا على البر والتقوى) لمعانٍ فئوية وطائفية وحزبية وحركية ضيقة، فقتلت رحابة الإسلام لمصلحة ما يعتقد البعض أنها وسيلة إحيائه. عالم المشاريع: كذلك نلاحظ انعكاس عالمي الأفكار والعلاقات على المشاريع. فكثير من المشاريع سمتها: الحزبية: فقلما تجد مشاريع تعكس شكل النهضة المستقبلية المنشودة، فسمة الحزبية لا تزال هي الطاغية. أما المشاريع التي تجمع أطياف الأمة فقلما تجدها. الاحتفالية: إذ تأخذ الطابع الاحتفالي أكثر من الطابع البنّاء والفعال الذي ينقل الأمة خطوة الى الأمام، وانظر الى كم المؤتمرات التي تعقد، والأموال التي تنفق، ثم انظر الى الانجاز الحقيقي من وراء كل هذه الأعمال ستجده دون المطلوب. سمات مضمون الخطاب يأتي خطاب النهضة كإحدى الأذرع المهمة للتصدي لهذه التحديات، مستمداً سماته من روح رسالته، وسنستعرض هنا بعض السمات الأساسية التي تميز خطاب النهضة: احترام التراث لا تقديسه: فالتراث قد يكون مصدر إلهام للأمة، إذ يعكس هويتها وحضارتها، وقد يكون مصدر اعاقة لها عندما تُنتقى منه الأفكار الفاسدة أو التي لا تصلح لهذا العصر. والأمة الإسلامية لديها تراث عظيم يجب أن تستفيد منه بقدر ما عليها أن تحذر منه، فهو كقفص الفاكهة الذي اختلطت فيه الفاكهة الناضجة بالفاسدة، والأمة التي تنتقي الفاسد فقط لاضطراب معاييرها حتماً سيصيبها ما لا تُحمد عقباه. ويأتي خطاب الوسطية ليزيل القداسة الموهومة للتراث، ويعلي فوقه النص والعقل المعاصر، ففهم السلف ليس بالضرورة أفضل من فهمنا، إذ المقارنة في جوهرها فاسدة، قد يكون السلف أفضل من فهموا النص في ضوء ثقافتهم ولغة عصرهم، وحري بنا أن نكون أفضل من يفهم النص في ضوء ثقافتنا ولغة عصرنا. إذ ان فقه الدين ليس فهماً يورثه جيل الى جيل، ولكنه تجدد مستمر يستخرج آفاقاً مخبأة في النصوص، تظهر عياناً كلما تطور العقل والعصر، وهي من معجزات القرآن إذ جعلته صالحاً لكل زمان ومكان، ليس لأنه يستصحب كل الأحكام في كل الأزمنة كقالب جامد، ولكن لأنه يكشف عن اعجاز فقهي في كل عصر يجعل الدين قادراً على التحدي، تحدي العقول التي تخاله نصوصاً جامدة لا حياة فيها. هذا الفرز للتراث سينعكس على كل المجالات من تزكية وسيرة وفقه، لتتم تنقيته من الدخن، مع اعادة الاعتبار الى الأصل (الكتاب والسنّة)، حيث صارت أقوال الفقهاء الأولين حجباً كثيفة تحول بيننا وبين رؤية النص الأصلي واستنباط الأحكام منه. التصدي للأفكار القاتلة: فالأمة تراكم في موروثها الثقافي مجموعة كبيرة من الأفكار القاتلة التي تحول دون تقدمها، ويمكن تقسيم هذه الأفكار الى: أفكار متعلقة بفهم الدين: كالهروب من ساحة الشهود الى ساحة الغيب، ومن ساحة الفعل الى ساحة الأماني، ويظل التصور عن فهم الذات وكيفية التعامل مع الآخر مشوهاً بدرجة من الدرجات. أفكار انقسامية: فأفكار المواطنة والعقد الاجتماعي العادل لم تعرف طريقها الى أمتنا بعد، وتطل علينا بين الحين والآخر الأزمات الطائفية والعرقية والمذهبية في شكل مخيف، وكثير من هذه الأفكار الانقسامية يتنكر في عباءة الدين، لشرعنة الاختلاف والفرقة والاقتتال. التصدي لأنماط التفكير القاتلة: فالأمم تهزم نتيجة فساد تصوراتها وسبل معالجتها لواقعها، ولا يمكن الى أمة أن تقدم نموذجاً حضارياً وهي مسكونة بأفكار متخلفة تقعد عن الفعل، وقد رأينا في استقراء الخطاب القرآني المكي دعوة صريحة الى التصدي لأنماط التفكير القاتلة، فيقول عزّ وجل في ذم التقليد الأعمى: «بل قالوا إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون»، كما عزز القرآن أنماط التفكير الناضجة الدافعة الى التقدم كالتثبت من الأفكار بالحقيقة والبرهان: «قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا»، «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، «قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا». وأمتنا اليوم مسكونة بمجموعة من أنماط التفكير المعوقة عن الفعل، أو التي تتسبب في إحداث اضطراب في الفعل ليصبح إثمه أكبر من نفعه. وللإعلام دور كبير في قصف مثل هذه الأنماط بلا هوادة. كما عليه أن يدعم أنماط التفكير الحية ويعززها في العقل. بعث الأمل: فالقائد هو بائع الأمل، والأمل هو أحد الأسلحة الفعالة التي جعلت شعوباً تشق طريقها الحضاري من خلال معطيات تبدو صفرية، وانظر إن شئت الى تجربة الرسول (صلّى الله عليه وسلم) في مهدها في صحراء العرب، وانظر الى اليابان والصين والهند. وبعث الأمل يتطلب التركيز على الفرص المخبأة في الواقع الذي يبدو قاهراً، والإعراض عن خطاب البكاء والصراخ، فخطاب النهضة لا يقف خلفه ضحايا مقهورون يستدرّون عطف الناس، وانما يقف خلفه أصحاب رؤية وتصور لتغيير الواقع فيبشرون الناس بإمكانية الفعل، وجدوى التحرك الجاد. كما يعزز خطاب النهضة الأمل في النفوس عبر استعراض الجوانب المشرقة للذاكرة التاريخية للأمة، فالهزيمة ليست قدراً للأمة، وشهادة القرآن لها خير دليل: «كنتم خير أمة أخرجت للناس». كذلك يتطلب خطاب بعث الأمل عرض تراكم الانجازات المعاصرة، وتسليط الضوء على كل مبادرة ايجابية تصب في خدمة المشروع، فالفكرة الناجحة تستدعي أخواتها. تحرير الممكنات: فالأمة تضج بالخير، وفرص الفعل فيها كثيرة ومتنوعة، ويلعب الخطاب النهضوي دوراً بارزاً في تحرير الممكنات، والإشارة الى مجالات الفعل الممكنة، وتجييش الطاقات من أجل التفاعل في هذه المجالات. الى من يوجه الخطاب؟ ان خطاب النهضة يستهدف كل الشرائح في المجتمعات، وهو خطاب عالمي يخاطب القوى الفاعلة والمؤثرة في العالم، ويمكن أن نقول إن خطاب النهضة يستهدف: محلياً: القوى الفاعلة في المجتمعات من حكومات وحركات ومؤسسات وجماهير تتطلع الى نهضة مجتمعاتها. عالمياً: القوى العالمية المؤثرة في متخذي القرار، سواء كانت حكومات أم منظمات مجتمع مدني فاعل. أي أنه يستهدف الشرائح المختلفة محلياً وعالمياً، ويجب أن يتفاوت خطابه ويتنوع بما يتناسب مع كل شريحة مستهدفة. كما يجب أن يكون شديد الوضوح في رسالته الى كل شريحة، محدداً ما الذي يريده منها، أو ما الذي يدعوها اليه. سمات لغة الخطاب الإعلامي الجرأة: إذ يقتحم بجرأة القضايا المسكوت عنها والحيوية لتحرير العقول من أسر الأفهام المعطلة لحركة الحياة، فهو خطاب لا يحابي أو يجامل، ولا يخاف في الله لومة لائم، يهتك قداسة الأحكام الفقهية والأفهام التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي جسدت ديناً جديداً يُعبد من دون الله. العلمية: إذ يتحرى المنهج العلمي - بخاصة عند التعامل مع التراث وغربلته - فينسف ما شاع استخدامه مما لا يصح في الحديث، ويقتلع ما شاع من القصص التاريخية المنزوعة السند الصحيح. فالخطاب الإعلامي النهضوي يدعو الى التثبت العلمي من كل ما يستشهد به. التنوع: فالنهضة ليست فكرة نخب، بل رسالة الشعوب قاطبة، ولكي يصل الى الشعوب العربية والإسلامية يجب أن يصاغ في صياغات عدة، تناسب الكبير والصغير، والشاب والفتاة، وهذا يتطلب تبسيطاً وانتقاء للأفكار المركزية في المشروع، ثم البحث عن أفضل الوسائط الإعلامية القادرة على نشر هذه الأفكار، فتصبح النهضة موضوع المسرحيات والأفلام والأغاني... الخ.