في طرح جريء وهادئ يعيد الدكتور مختار الغوث أستاذ اللغة في جامعة الملك عبد العزيز والباحث في الجوانب الفكرية والعقلية إلى العقل اعتباره بعد أن همشته الثقافة الإسلامية، ويسبر بالاستقراء التاريخي لتراثنا نزعات التوجس من المنهجية العقلية ويحمل تلك النزعات أسباب تخلفنا العلمي والحضاري، كما أبان عن امتدادات تلك النزعات في المدارس الفكرية المعاصرة وتأثير بعض المقولات السائدة على فكر الأمة، فإلى تفاصيل الحوار: النقل قبل العقل نبدأ من اتهامك للثقافة الإسلامية بأنها لم تعط العقل منزلته إلا في حقب قصيرة ومتفاوتة ولم يبرز إلا قلة من العلماء والفقهاء؟ الفقهاء فيما يخص استخراج الأحكام وتنزيلها كانوا يجتهدون، لكن العقل لم يكن هو الذي يتحكم في اجتهاد بعضهم، وكذلك العلماء في بعض العلوم الأخرى، لم يكن للعقل مكان عظيم في ما يقولون. ومن الأمثلة على ذلك تاريخ الإمام الطبري رحمه الله، فقد قال في مقدمته إنه أورد فيه ما روى من الأخبار والآثار؛ لأن التاريخ لا يعرف إلا بالنقل، وتبرأ من عهدة ما رَوى، واكتفى بالقول: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه؛ من أجل أنه لم يعرف له وجها من الصحة، ولا معنى من الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت من قبلنا، وإنما أُتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا". وهو رحمة الله عليه مؤرخ، وأحد من أجل الفقهاء المجتهدين، فكان ينبغي أن يتجاوز عمله النقل المجرد إلى التحقيق والتمحيص. ولو كان يتكئ على العقل في تقبُّل ما يروي لمحصه، فاجتهد في تمحيصه، فقبل ما يقبل العقل، ورفض ما يرفض، وتردد فيما يحتمل الأمرين. المنهج العلمي خلال فترة التاريخ الإسلامي كله لم يأخذ العقل مكانته اللائقة ويستبطن كممارسة معتادة؟ نعم، أرى أن ذلك لم يحدث، وإنما كان يحدث في مدد محددة، من شخصيات بعينها، كالإمام أبي حامد الغزالي، الذي كان يعول كثيراً على العقل، أو دعني أقل: كان يتبع المنهج العلمي؛ لأن العقل قد يفهم على وجه آخر. كان يحكم المنهج العلمي على وجه يكاد يكون فريداً في التراث العربي الإسلامي، وابن خلدون كذلك ظهرت آثار تحكيمه للمنهج العلمي فيما كتب في مقدمته، من انتقاد ما كان يصنع بعض العلماء من رواية كل ما يجدون من غير تمحيص ولا دراسة. هل يعني هذا أنك تدعو إلى إضافة المنهج العلمي العقلي إلى أدوات تمحيص النصوص الأخرى. نعم. هل للمعارك الفكرية التاريخية أثر في ذلك خاصة ما كان بين المعتزلة وأهل الحديث وكذلك بين الحنابلة والأشاعرة والتي كان محور الاختلاف فيها حول استخدام العقل في تفسيرات النصوص خاصة ما يتعلق بالإلهيات؟ حصل ذلك قديماً وحديثاً: فقديماً كان الخلاف بين الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله والمعتزلة، بين ما يراه المعتزلة منهجاً عقليا وما يراه غيرهم منهجا اتباعيا سنيا، يقتصر على ما أُثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف الأمة المزكى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم الخوض فيما سواه، فإنه يسع المتأخر ما وسع المتقدم. فلما خمدت الفتنة، وفكك أبو الحسن الأشعري الاعتزال بمنطقه، ذهبت مشكلة المعتزلة وصارت القضية بين أهل السنة. وفي العصر الحديث بُعثت الحنبلية في صورة قريبة من صورتها القديمة، في التمسك بالمأثور والازورار عن الرأي. شطحات العقل والفلسفة لكن العقل كانت له شطحات وآثار خرج بها عن دوائر الثابت من الدين خاصة في أمور الغيبيات؟ أليس هذا كافياً للنظر بريبة إلى آثار العقل؟ لا ينبغي للغلو أن يصد عن إتيان البيوت من أبوابها؛ فإذا خشينا شطحات العقل فينبغي أن نخشى أيضاً شطحات النقل، أي الجمود الذي يفضي إلى تعطيل العقل الذي جعله الله مناط التكليف، وتعطيل مقاصد الشرع، على وجه ينافي حقيقة الفقه بدين الله. الجمود على كل ما أثر عن الأولين، ممن ليسوا من أهل العصمة، من غير تمحيص ولا فقه، وبغض النظر عن قيمته العلمية. وإذا تطلبنا الحقيقة بالمنهج العلمي الصحيح فسوف نتوسل بالوسيلة في حدودها. وأنا حين أتحدث عن المنهج العلمي، وعدم تحكيمه كما ينبغي لا أعني العلم الشرعي وحده، وإنما أعني العلوم كلها، ومجالات الحياة المختلفة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم". فهذه لا معنى لأن نخشى إعمال العقل فيها. وأحسب أن عدم إعماله فيها من أسباب عدم توجه العلوم الإسلامية وجهة كالتي اتجهتها العلوم في النهضة الأوروبية، إذ كان العقل حرا طليقا في بحث الطبيعة والحياة كلها لا يقيده شيء، على حين قيد العقل الإسلامي بقيود، ليس هنا مجال الحديث عنها، فاقتصر على دراسة العلوم الشرعية وما له صلة بها، وعول في دراستها على الطريقة التي تحدثت عنها. ثم إن أحكام الشرع نوعان: تعبدي، لا مجال للعقل فيه أصلاً، وإذا فكر فيه المفكر فإنما يبحث عن حِكَمه وأسراره، لا ليقيس عليه ويجتهد فيه؛ إذ لا مجال للعقل ولا الاجتهاد فيه. وما أعرف أحداً اجتهد في أن يقيس عدد ركعات صلاة على عدد ركعات صلاة أخرى، لأن المسألة تعبدية لا مجال للعقل فيها. وجانب غير تعبدي، بمعنى أن علله معقولة، وهو الذي ينبغي أن يكون المعول في البحث عن علله والقياس عليها على العقل؛ فالشرع نصوص، بعضها ظني الدلالة، والعقل هو الذي يبين دلالتها، ويبين مراد الله منها. التفكير ونتاجه وماذا عن المراجعات الفكرية لبعض الرموز الإسلامية كالغزالي والتي انتقد فيها الفلسفة القائمة على المنهج العقلي وشنع على الفلاسفة في بعض كتبه. ألا يؤيد ذلك أطروحات المناوئين لاستخدام العقل في التشريع الإسلامي؟ لا أظن ذلك؛ فالإمام الغزالي حين أهوى على الفلسفة أهوى عليها بمنطقها، بمعنى أنه لم يكن يذكر قول الفيلسوف ثم يدفعه بما يخالفه من الكتاب والسنة، وإن كان دافعه في ذلك الدفاع عن الشرع، والاحتجاج له، ودفع ما يخالفه. والفلسفة يمكن أن تفهم على معنيين: التفكير، ونتاج التفكير. فالتفكير بمنهجه العلمي لم يتخل عنه الغزالي في حياته كلها، أما نتاج التفكير فيحق لكل امرئ أن يكون له فيه رأي، وهو الذي نقض الإمام الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة). هل يمكن أن توجد دوائر خاصة بالعقل ودوائر خاصة بالنقل لدرء التعارض بينهما إذا حصل؟ لا أرى أن العقل والنقل الصحيح يمكن أن يتعارضا، لكن الذي يتعارض هو فهومنا نحن. وإذا كان الشرع حقيقة، وما يتوصل إليه العقل حقيقة، فالحقيقة لا تعارض الحقيقة. ويجب أن نميز العقل الذي نعنيه من العقل الذي يعنيه غيرنا، أي العقل الذي يعنيه الملحد والمرء المتحرر من الدين، والعقل الذي يعنيه المسلم المتقيد بالدين؛ فالعقل الذي يعنيه المسلم، في مجال الشرع، وظيفته أن يستنبط الحكم لا أن ينشئه؛ لأن العقل لا يشرع من دون الله، والعقل الذي يعنيه المتحرر من الدين هو عقل مطلق من كل مرجعية دينية؛ والعبرة فيه بما يتوصل إليه. أشرت خلال حديثك إلى المدرسة السلفية المعاصرة والتي هي امتداد للمدرسة الحنبلية التاريخية. هل ترى أنها كذلك رسخت الحساسية المفرطة تجاه العقل؟ نعم؛ لأن المدرسة الحنبلية كان أكثر ما تعنى به النصوص (الكتاب والسنة)، ومحاولة فهمها في حدود الظاهر. ومن حسناتها العودة إلى نصوص الوحي بدلا من الوقوف عند أقوال متأخري العلماء وترداد ما في المتون والحواشي، لكنها قصَّرت في تعلم العلوم العقلية؛ فكانت أشبه بالظاهرية. وصادف ذلك منها حالا فكرية وعلمية واقتصادية معينة في العالم الإسلامي، فكان ما تذهب إليه أقرب إلى قلوب بعض المصلحين الذين سئموا طرائق التعليم القديمة في العالم الإسلامي، فرأوا أن العودة إلى النصوص هي ما يقتضيه الإحياء والنهوض، والبقاء على الطرق التقليدية لا يفضي إلا إلى ما قد أفضى إليه من التخلف. وإن كان المصلحون يختلفون في التفاصيل، بحسب منازعهم الفكرية، وبيئاتهم وخلفياتهم العلمية. النصوص التي ترفع من شأن السلف الصالح وقربهم من الوحي فهماً وسلوكاً يجعل العلماء والمفكرين متهيبين من مراجعة أقوالهم وإعادة قراءتها والبناء عليها فضلاً عن معارضتها ونقضها؟ كيف لنا أن نتجاوز هذا الحرج؟ أظن أن ثمة فهما أدى إلى هذا، وهو فهم غير دقيق، فإن الذين قدموا أقوال الصحابة مثلا على غيرهم رأوا أنهم مظنة أن يكونوا أعلم بملابسات تنزل الوحي، وأعلم بمقاصد الشارع، بسبب معاصرتهم له، فذلك أدعى إلى أن يكونوا أفقه بمراده ممن لم يعاصره وإنما روى نصوصا لم يشهد تنزلها. لكن إذا دونت الملابسات واتضحت، وجمعت النصوص ومحصت، وصح العلم وتوافرت شروط الاجتهاد كان الأولى بالصواب هو الأفقه والأقوى حجة، بغض النظر عن الزمن، فلا عبرة بالزمن في ذاته. ملامح المنهجية العلمية هل نحتاج إلى ثورة فكرية عقلية لمراجعة تراث السلف وأخذ مايصلح؟ الثورة تفهم -عادة- على أنها نسخ لما قبلها واستحداث مطلق لحياة جديدة، وإنما أقول: في تراثنا إيجابيات كثيرة، يمكن أن نطورها حتى نستطيع أن نتلافى السلبيات التي غرق فيها فكرنا، والرجوع إلى المنهج العلمي المحكم لا بد منه. تحدث الشيخ محمد الطاهر بن عاشور –رحمه الله- عن الذين يدعون إلى الاستمساك بأقوال السلف فقال إنهم غفلوا عن أن السلف كان فيهم من الشجاعة مالم يكن فيمن يقلدهم. فلماذا لا نقلدهم في شجاعتهم في فهم الشرع؟ لو أن مجتهداً مطلقاً اجتهد بمثل اجتهادات عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- في العصر الحديث ما قُبل منه ذلك، وإن كان مقلداً له في نهجه، لكنه انتهى إلى نتيجة لم ينته إليها أحد قبله. والعبرة بالمنهج لا بالنتيجة. ما هي أهم ملامح هذه المنهجية العلمية التي تدعو إليها؟ أهمها النقد والتمحيص واستصحاب المقصد الشرعي دائماً في كل الأمور، فلا يمكن أن ننزل نصاً على واقع مغاير للواقع الذي نزل فيه من غير أن نستصحب مقصد الشارع وما أراد تحقيقه من النص. وفي هذا السياق لا بد أن نعرف أن مقصد الشرع هو جلب المصلحة ودرء المفسدة، فإذا نحن طبقنا نصاً شرعياً على واقع معين ثم أتى بنتيجة غير التي يقصدها الشرع فهل نقول إننا فقهنا النص؟ كان مالك بن بني رحمه الله يسمي الأفكار التي تنزع من سياقها "الأفكار القاتلة"، والأفكار التي تخذل أصلها "الأفكار الميتة". والاجتهاد الذي لا يحقق مقصد الشرع يمكن أن يسمى اجتهادا قاتلا واجتهادا ميتا؛ لأنه انتُزع من سياقه، ولأنه خذل أصله، أي مقصده الشرعي. لو أن عمراً رضي الله عنه أعطى المؤلفة قلوبهم، وقسم سواد العراق على الفاتحين كما تقسم الأموال المنقولة لخذل المقصد الشرعي، وهو إعزاز الإسلام في وقت ضعف المسلمين، فأظهر الإسلام ضعيفا وهو قوي. دور التعليم ظهرت بعض المراجعات للتراث بعضها أسرف في التخلي عن أحكام الشريعة والبعض الآخر حاول تطويعه والكل هوجم بالعلمانية والتأثر بالغزو الفكري. كيف يمكن أن نتيح بيئة مشجعة للإبداع والتجديد مع المحافظة على محكمات الشريعة؟ أولاً الهجوم على الفئات المجددة ليس جديداً، فالمرء مفطور على إنكار ما يجهل، كما قال الإمام الغزالي رحمة الله عليه، حتى لو أن جنينا قيل له إن خارج الرحم ما هو أوسع منه، لأنكر. وليس يضع من اجتهاد المجتهد أن يُهجم عليه أو يتهم، وقد قال الإمام الغزالي أيضا لأحد تلاميذه، شكا إليه مما يقال فيه: "استحقر من لا يحسد ولا يقذف، واستصغر من بالكفر أو الضلال لا يعرف"؛ فإنما يكفر ويحسد ذو العقل النشيط الذي يفكر ويبحث عن الحقيقة، والذي يكفره هو الكسل الذي يستنكر ما لم يألف أو يبلغه عقله. هذا إلى أن كل من اجتهد كان عرضة للخطأ. والذي لا يفكر لا يخطئ. والذي يزيل هذا أو يقلل منه كما يبدو لي هو تطوير التعليم، بحيث يتوجه إلى بناء العقول، وأحوج الناس إلى بناء العقول المستنيرة المتميزة طلاب العلم الشرعي. ضعف الإيمان وقوته ترفض "تفسير تخلف المسلمين بضعف الإيمان والبعد عن الله" وهي مقولة درجنا عليها فترة من الزمن ولازلنا، وتقول بأنه "موقف عاطفي سطحي".. أليس صلاح آخر هذه الأمة بما صلح به أولها؟ نعم في رأيي أن سبب تخلفنا هو تخلف المنهج العلمي وفساد الثقافة، وفساد الثقافة جعلنا نفكر تفكيراً نجتر به الموروثات السلبية في حياتنا عامة، وفي المجال العلمي خاصة. وعدم وجود المنهج العلمي أثر من آثار هذه الثقافة التي جعلتنا نحفظ ولا نعي، وجعلت نتاجنا اختصارا لما قد طول، أو شرحا لما قد اختصر، أو نظما لما قد نثر. ولو أننا قارنا عصور الازدهار في التاريخ الإسلامي بعصور التخلف وأسباب كل منهما فلن نجد فيها قوة الإيمان أو ضعفه، في المقام الأول، بل ما اتسم به العقل من النشاط والتوثب والنقد والتمحيص والبحث عن الحقيقة، أو خبو كل ذلك. وخذ مثالاً: العصور المتأخرة قبل مجيء الاستعمار، هل غلب عليها الفسق والبعد عن الله حقيقة؟ وإذا فرضنا أن هنالك فسقاً وبعداً عن الله فلم لم تكن الجماعة التي كانت على تقوى من الله وقرب منه (الطائفة المنصورة) أكثر تقدماً وتحضراً من تلك الغارقة في الفسوق والغفلة؟ لو كانت القضية قضية قرب من الله أو بعد عنه لكان القريب من الله أكثر انفتاحاً وأكثر نتاجاً وأحسن حالاً، لكن الفئتين كانتا متساويتين في مقدار التخلف. نحن نعلم أن منارات مشهورة كالأزهر، والجامع الأموي، وجامع القيروان، وجامع الزيتونة، وجامع القرويين كانت عامرة بالعلماء الربانيين العاملين، ومع ذلك استعمرت بلاد المسلمين كلها، ما اتسم منها بالتخلف الإيماني وما اتسم بالتقدم. ثم: هل العالم المتقدم في جانب المادة أقرب منا إلى الله، وهو يكفر به؟