-مدخل الحمدلله وبعد،، أزمة الإسكان في السعودية ليست مجرد أزمة معيشية فقط، بل صارت لها استتباعات اجتماعية مرعبة، ف(الأسرة) التي هي نواة المجتمع تأثر بناؤها وتكوينها جوهرياً بسبب أزمة الإسكان، فتأخر الزواج وارتفعت معدلات العنوسة لأن الشاب غير قادر على امتلاك مسكن، بل ولا استئجاره، ولهذه الأزمة الإسكانية آثار نفسية واضحة على الشاب الموظف، فتراه يصبح ويمسي ويتنقل بسيارته وعقله يفور بحسرة التفكير في أزمته، تارةً يقول سأقترض، وتارةً يقول سأصبر، وتارةً يقول مؤكد أنها ستنزل العقارات قطعاً فكثير من الناس يقول ذلك، وتارةً يقول لو تشاركنا أنا وفلان، وهكذا تراه محزوناً يقلب الأحلام التي يكتشف فيها كلها خيبة نهاية النفق! فيا غوث الله لهذا المجتمع المكلوم الذي لا يودع أزمة معيشية إلا ويفتح أحضانه لغيرها، من سنوات التقشف بعد ديون أزمة الخليج، ثم كارثة الأسهم، ثم موجة الغلاء، إلى أزمة الإسكان اليوم. وقد طرح عدد من خبراء العقار حلولاً مختلفة ومقترحات متعددة، كما طرح عدد من المهتمين أفكاراً لفتاوى مقترحة كحلول فقهية للأزمة، سأناقش هاهنا –بكيفية خاصة- الفتاوى المقترحة لحل الأزمة، وهي أربعة فتاوى مقترحة (فرض الزكاة على العقار، فرض الرسوم على العقار، تحريم الاحتكار في العقار، مشروعية التسعير العقاري). ومن الواضح طبعاً في الفتاوى الأربع أن الهدف منها هو صناعة الضغط على مالك العقار لزيادة العرض، والذي يؤي لتقليص الفجوة بين العرض والطلب، بما ينتج في النهاية انخفاض الأسعار. أ-الفتوى الأولى: إيجاب الزكاة على العقار. نُشِرت في الصحف، وبكثافة؛ دعوات مختلفة إلى إيجاب الزكاة شرعاً على العقارات، وهذه الدعوات مختلفة متفاوتة في ضبط ذلك، فبعضهم يطلق ويدعو لكون العقار برأسه وعاءً زكوياً، وبعضهم يقيد الزكاة بالعقارات الشاسعة، وبعضهم يقيد زكاة العقار بما هو داخل النطاق العمراني، وبعضهم يقيد زكاة العقار بما غلب على الظن اتخاذه للتجارة، وغير ذلك من القيود، وهي متفاوتة أشد التفاوت، ولا يسوغ رصُّها فوق رف واحد. وفي تقديري أن هذا الرأي فيه إشكالات كبيرة، وخصوصاً الرأي الذي يطلق كون العقار محلاً للزكاة، وهو رأي منتشر في الصحف، ومن أهم هذه الإشكالات: أنه لا يوجد أي قول في الفقه الإسلامي كله، ولا في أي مذهب من المذاهب، لا المشهورة ولا المندثرة، جعل العقار برأسه من الأموال الزكوية، وإنما الأوعية الزكوية –في حصيلة أوسع المذاهب- هي: الحيوانات الزكوية (بهيمة الأنعام، وفي الخيل خلاف) ، والأثمان، وعروض التجارة، والخارج من الأرض (ويدخل فيه الزروع والثمار على خلاف في علتها، والمعادن، والركاز)، والمستغلات، والعسل، والخارج من البحر عند أبي يوسف. هذه تقريباً الأوعية الزكوية في حصيلة أوسع المذاهب، ولم يدر بخلد فقيه واحد طوال خمسة عشر قرناً أن يكون "العقار" برأسه وعاءً زكوياً؟! وسأذكر هاهنا نماذج فقهية لتنصيص الفقهاء على أن العقار ليس وعاءً زكوياً بذاته: قال البابرتي الحنفي (الأموال التي لا تجب في جنسها الزكاة كالعقار)[العناية:7/135]. وقال القرافي المالكي (ويدل على اعتباره إسقاط الزكاة عن العقار)[الذخيرة:3/40]. وقال النووي الشافعي (مما لا زكاة فيه كالعقار)[الروضة:2/198]. وقال ابن قدامة الحنبلي (ما لا تجب فيه الزكاة كالعقار)[الشرح الكبير: 7/213]. فكما يرى القارئ إطباق المذاهب الأربعة لأهل السنة على أن العقار ليس مالاً زكوياً بذاته، وليس وعاءً زكوياً بأصل الوضع الشرعي، وهذه مجرد نماذج وأمثلة فقط، والشواهد كثيرة جداً، وسبب غزارة الشواهد في هذا الموضوع أن الفقهاء يكثرون من الإشارة إلى كون العقار ليس مالاً زكوياً في ثنايا معالجاتهم لمسائل الزكاة، مثل مسألة النماء فيمثلون لغير النامي الذي لا زكاة فيه بالعقار، ومسألة الغنى المانع للزكاة فيناقشون مالو ملك مالاً غير زكوي كالعقار، ونحو هذه المسائل، وكثرة إحالة الفقهاء ل(عدم زكوية العقار) والتمثيل به والقياس عليه يعطي مؤشراً حاسماً على استقرار هذه المسألة عندهم حتى غدت كالأصل المتفق عليه الذي يحال إليه لثبوته، وهذا أعمق دلالةً من مجرد النص عليها في آحاد المسائل، إذ يتعزز اليقين بالمسألة بتوارد التأكيد عليها، كتعزز الخبر بتوارد طرقه، فهذه في الدلالة كهذا في الثبوت. ولذلك تلاحظ أن غالب القواعد الفقهية إنما استمدت من كثرة تعليلات الفروع بها، فالتعليلات ينبوع القواعد، وكلما كثر التعليل بمفهوم معين انتقل بحسب الكثرة من كونه ضابطاً إلى قاعدة عامة إلى قاعدة كبرى من القواعد الخمس، والمراد أن كثرة الإحالة دليل الاستقرار. فمن زعم أن "العقار" برأسه محلٌ للزكاة، ووعاء زكوي بذاته؛ فهذا قول في غاية الشذوذ والنكارة، مخالف للنصوص والفقه الإسلامي بجميع مذاهبه وأقواله، وهذه أخبار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن أحكام الزكاة قد جمعتها دوواين الأحكام المتخصصة كالبيهقي والمنتقى والتقريب والمحرر والبلوغ وغيرها، فمن وجد نصاً صحيحاً أو فيه ضعف، يجعل العقار برأسه محلاً للزكاة فليسعفنا به، وهذه كتب الفقه المقارن والمذهبي فمن وجد قولاً فقهياً، مشهوراً أو مندثراً، يجعل العقار برأسه مالاً زكوياً فليفدنا به مشكوراً. والمراد أنه لم يأتِ بجعل العقار مالاً زكوياً: نص، ولا أثر، ولا قول فقهي، فيما أعلم، فكيف يتحدث بعضهم بإطلاق عن جواز أخذ الزكاة من العقار؟ وهل صارت الزكاة ركن الإسلام الثالث تؤخذ أحكامها بالاستحسانات الذوقية المحضة؟ وهل صارت العبادات التوقيفية يخوض فيها الخائضون هكذا بالآراء المرسلة؟ أهكذا منزلة دين الله في النفوس؟! كيف ينسب هذا الحكم لدين الله وليس في دين الله بينة على ذلك؟ والله يقول (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)[الزمر:60]. بل قال الله جل وعلا لنبيه أشرف الخلق وأصدقهم وأعظمهم أداءً لأمانة البلاغ (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)[الحاقة:46] ولم يخاطب الله نبيه بهذه اللغة إلا لخطورة المقام ولبيان هيبته. وأما الصحيح في المسألة فهو التمييز والتقسيم الذي هو محصل كلام الفقهاء، وهو الذي لا إشكال فيه عندهم، وهو التمييز بين (عقار القنية) و (عقار التجارة)، فعقار القنية الذي يستعمله الإنسان لمصلحته الشخصية عاجلةً أو آجلة فهذا لا زكاة فيه بإجماع أهل الإسلام لا يعرف فيهم مخالف فيما أعلم، وأما عقار التجارة الذي هو كما جاء في حديث سمرة في السنن (مما نعده للبيع)، أي الذي ينوي به صاحبه التجارة وتربص الأسعار وتقليبه للبيع؛ فهذا لا إشكال في وجوب الزكاة فيه عند جماهير الفقهاء، سواء كان العقار متراً أم مدينةً كاملة، على خلاف في بعض تفاصيل العروض كزمن النية ومصدر الملكية، وعلى خلاف مع الظاهرية في أصل زكاة العروض وغيرها، وليس هذا محل تفصيلها، المهم أن المشهور المعروف بين الفقهاء هو وجوب إخراج الزكاة في عقار التجارة. ومن أطلق القول في وجوب زكاة العقار فقد أدخل (عقار القنية) في الزكاة، فخالف إجماع الفقهاء، واختلق من عند نفسه وعاءً زكوياً لم تأت به النصوص صحيحها وضعيفها، وخاض في ركن من أركان الإسلام الخمسة بغير علم، وتقول على الله سبحانه وتعالى في باب تعبدي توقيفي عظيم. وأما من قيد القول بأنه الواجب هو إخراج الزكاة من (عقار التجارة) فقط؛ فهذا لا جديد فيه أصلاً، وهو الذي عليه جماهير الفقهاء، بل هو المفتى به عندنا في بلدنا، فكيف يطالب البعض بإصدار فتوى فيه، فإصدار فتوى بوجوب الزكاة في عقار التجارة من تحصيل الحاصل. وسأنقل نماذج فقهية على تقرير المذاهب الأربعة لكون عقار التجارة تجب فيه الزكاة: قال السمرقندي الحنفي (كل ما كان من أموال التجارة، كائنا ما كان من العروض والعقار وغيرها؛ تجب فيه الزكاة)[تحفة الفقهاء:1/271]. وقال المنوفي المالكي (العروض المراد بها في هذا الباب الرقيق والعقار والرباع والثياب..، وهي إما للقنية ولا زكاة فيها اتفاقا، وإما للتجارة ففيها الزكاة اتفاقا)[كفاية الطالب: 1/482] وقال ابن قدامة الحنبلي (العروض جمع عرض، وهو غير الاثمان من المال على اختلاف أنواعه؛ من الحيوان والعقار والثياب وسائر المال، والزكاة واجبة فيها في قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة)[الشرح الكبير:7/51]. وهكذا فمن المقرر في المذاهب الأربعة أن العقار إذا نوى به صاحبه التجارة وجبت فيه الزكاة، لاباعتباره عقاراً، بل باعتباره عرض تجارة، ولذلك تجب الزكاة فيه عندهم في قيمته لا في عينه، كما يقرره الفقهاء كثيراً، ولهذا آثار ليس هذا محل عرضها. والتمييز بين (عقار القنية) و (عقار التجارة) من التمييزات الأساسية في فقه الزكاة، وهي من التصورات التي يستعملها العلم نصاً أو معنى، ومن ذلك قول العيني (وأراد بالمال مال التجارة، كالنقدين، وعروض التجارة، وعقار التجارة، وغيرها من أموال التجارة،)[البناية:3/366]. وقال الحجاوي (أو كان لعقار التجارة وعبيدها أجرة)[الإقناع:1/277]. وقال الخرشي (غالب ما يراد له العقار القنية)[الشرح الكبير:5/87]. وقال المنوفي عن العروض (وهي إما للقنية ولا زكاة فيها اتفاقا، وإما للتجارة ففيها الزكاة اتفاقا)[كفاية الطالب: 1/482]. وهذا يؤكد أن فكرة (العقارات التجارية) لم تكن غائبة عن الفقهاء الأوائل، حتى أنهم اختلفوا خلافاً مشهوراً في الأرض العشرية التي اجتمع فيها حقان الخارج من الأرض والتجارة، وليس هذا موضع تفصيل خلافهم. وما قرره الفقهاء من التمييز بين عقار القنية المعد للانتفاع الشخصي، العاجل أو الآجل، الكثير أو القليل، وعقار التجارة، الذي أعد للبيع بالنية، وأن عقار التجارة فيه الزكاة، وعقار القنية لا زكاة فيه، هو عين ما قررته اللجنة الدائمة في فتاوى كثيرة، وسأنقل منها هذه المقتطفات: أفتت اللجنة الدائمة بأنه (إذا تملك الشخص العقار بنية التجارة، سواء كان العقار مشتركاً مشاعاً، أو مملوكا له بكامله؛ فإن حكمه حكم عروض التجارة، تجب الزكاة في قيمته)[اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز، مج1، ص9/325]. كما أفتت اللجنة الدائمة بقولها (ما كان من العقارات معروض للبيع فإنها تجب الزكاة فيه، ولو لم يكن لدى المكاتب العقارية) [اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز: مج2، ص8/128]. بينما أخرجت اللجنة عقار القنية من ذلك فأفتت بقولها (وأما العقار فلا زكاة فيه إذا كان لغير التجارة)[اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز، مج1، ص9/305]. فها أنت ترى أن اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز قررت صراحة، وفي مواضع كثيرة؛ بأن عقار التجارة فيه الزكاة، فلا أدري لماذا يطالب البعض بإصدار فتوى في وجوب الزكاة في العقار؟! إن كان يقصد عقار التجارة فالفتوى موجودة وقديمة ومتكررة فالمطالبة بها تحصيل حاصل! وأما إن كان يريد المطالب زيادة على ما قرره الفقهاء بأن تكون الزكاة لا صلة لها بنية التجارة، فتفرض الزكاة على عقار القنية فهذا في غاية الشذوذ والمصادمة للنصوص الشرعية والفقه الإسلامي. وللشيخ المتفنن بكر ابو زيد –تغمده الله بواسع رحمته- رسالة معروفة مطبوعة مفردة اسمها (فتوى جامعة في زكاة العقار) قرر فيها هذين النوعين، وزيادة فروع كثيرة، ومنها قوله (القسم الأول: عقار تجب فيه الزكاة: وهو نوع واحد: وهو العقار المعد للبيع)[فتوى جامعة:7]. ثم ذكر النوع الآخر بقوله (العقار المعد للقنية، كأرض أو دار للسكن، أو للفلاحة، أو مستراحاً؛ فلا زكاة فيه)[فتوى جامعة:25] وفي الرسالة فروع ومسائل لطيفة جداً في صور العقار، مثل مسائل المخططات المتعثرة، وغيرها. ويظن بعض الناس أن موضوع الزكاة يقاس بالكثرة والقلة، وهذا خطأ، الزكاة عبادة توقيفية أموالها منصوصة، وبقية الأموال غير المنصوصة فيها الصدقة والهدية والهبة وغيرها، ولا يجوز لأحد كائناً من كان أن يوجب الزكاة فيها من عند نفسه بلا موجب شرعي. وإذا تأمل طالب العلم مسائل الزكاة أدرك أنه كثيراً من مسائلها لا علاقة لها بالكثرة والقلة، وسأضرب لذلك أمثلةً: فمن ذلك أن الذهب والفضة تجب فيهما الزكاة، حتى لو كانت كميتهما يسيرة إذا بلغتا النصاب، بينما الجواهر الثمينة كالألماس واللؤلؤ والزمرد والمرجان الخ، لا تجب فيها الزكاة بعينها حتى لو كانت بالملايين! وحتى لو كانت قيمتها أعلى من الذهب والفضة فلا زكاة فيها بالاتفاق. وكذلك لو كان لدى شخص ثري عشرون سيارةً فارهةً أعدها للاستعمال الشخصي فلا زكاة فيها، ولو كان لدى جاره مستور الحال دراجة نارية أعدها للتجارة فعليه الزكاة فيها. وهذا باتفاق الفقهاء، فليست العبرة بالكثرة والقلة، بل العبرة بالنصوص الشرعية في موضوع الزكاة لأنها عبادة توقيفية. وقد نبه الجويني في عبارة بديعة على انفكاك العلاقة بين (كثرة العقار) و (الزكاة)، وأن الزكاة محددة في (أموال معينة) وليست بحسب الكثرة والقلة، حيث يقول الجويني: (ونشترط في الزكاة أموالاً مخصوصة، حتى لو ملك الرجل من العقار أموالاً لها مقدارٌ في النفوس، فلا تستوجب الزكاة)[نهاية المطلب:16/517]. وتزداد نكارة وشذوذ فكرة تعميم الزكاة في العقار إذا اسحضر طالب العلم ضيق عروض التجارة عند جماهير الفقهاء، حيث هي مقيدة عندهم بقيدين حاصرين: (زمن النية) و (مصدر الملكية)، حيث أن جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة اشترطوا ابتداء واستدامة نية التجارة! بمعنى أنه إذا اشترى العرض كالعقار مثلاً للقنية، ثم نواه للتجارة، فلا يصبح عرضاً عندهم، وقد خالف في ذلك الأقل، والراجح هو أنه يكون عرضاً وهو اختيار ابن عثيمين، لكنني أردت فقط بيان ضيق العروض عند جماهير الفقهاء. وكذلك ضيقوه بمصدر الملكية، فاشترط جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة أن يتملك العرض بفعله، كالبيع، أما إذا آل إليه بالإرث مثلاً فلا زكاة فيه عندهم ولا يكون عروض تجارة. وهذا أيضاً مرجوح والصحيح أنه عروض بالنية بقطع النظر عن مصدر الملك، والمقصود فقط هو بيان ضيق العروض عند الفقهاء وخصوصاً إذا انضاف إلى ذلك استحضار رأي الظاهرية ومن تبعهم من أهل الحديث المعاصرين في سقوط زكوية العروض من أساسها لضعف حديث سمرة عندهم. فإذا كانت عروض التجارة أصلاً وعاء زكوي ضيق عند جمهور الفقهاء، فكيف توجب الزكاة في العقار مطلقاً، سواء كان عقار تجارة أم عقار قنية دون تمييز؟! ماسبق طبعاً هو مناقشة لخطورة القول الذي يطلق (زكاة العقار) في الإعلام المحلي دون انتباه إلى مصادمة هذا الإطلاق للنصوص وإجماعات فقهاء الإسلام. وأما من يقيد زكاة العقار بالنطاق العمراني، فيجعل كل ما هو داخل النطاق العمراني تجب الزكاة فيه دون ما هو خارجه؛ فهذا أيضاً قول محدث في ركن من أركان الإسلام، ولا يعرف في الفقه الإسلامي قول بمثل هذا التفصيل في عبادة توقيفية! وأما من يقيد زكاة العقار بحجم المساحة فهذا أيضاً قول محدث شاذ نص الفقهاء على بطلانه، كما ذكر الجويني حين قال (ونشترط في الزكاة أموالاً مخصوصة، حتى لو ملك الرجل من العقار أموالاً لها مقدارٌ في النفوس، فلا تستوجب الزكاة)[نهاية المطلب:16/517]. فلا يجوز الإحداث في عبادة شرعية عظيمة بتفصيلات تمليها الاحتياجات الإدارية! ومن زعم أن الله ورسوله أوجبا الزكاة على العقار إذا كان كبيراً فقد نسب لدين الله أمراً أعانه الله على السؤال عنه. ويذكر بعضهم أن المساحة الشاسعة دليل أو قرينة ظاهرة على إرادة صاحبها التجارة في العقار، وهذا فيه نظر شديد، فإن أغراض الناس من امتلاك العقار الواسع لا ينحصر، فمن ذلك: أن بعضهم يشتري عقارات يريدها كضمانة لأبنائه وأحفاده، وهذا مرّ علي نماذج له. وبعضهم يشتري عقارات ك(وسيلة ادخار) بمعنى أنه يريدها أن تحفظ ماله من أن يبذره، وهذا غرض صحيح ليس من أغراض التجارة، وقد جاء في رسالة (ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين) وهي الأسئلة التي وجهها الشيخ د.أحمد القاضي إلى فضيلة الإمام ابن عثيمين السؤال التالي وجوابه: (مسألة: سألت شيخنا رحمه الله : عمّن جعل ماله في أرض لا يريد بها تجارة ، ولا إقامة بناء عليها أو زراعة ، وإنما قال : تحفظ مالي ، وإن احتجت إليها بعتها ، فهل فيها زكاة ؟ فأجاب : لا زكاة فيها) [ثمرات التدوين، م220]. وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين صوراً من صور أغراض الناس في شراء العقارات والتي لا تدخل في قصد البيع، وذكر منها مقصد "شراء العقار لحفظ المال"، فقال رحمه الله (الإنسان الذي عنده أرض نسأله أولاً: ماذا تريد بهذه الأرض؟ هل تريد أن تبقيها لتبني عليها مسكناً، أو تبني عليها مبنى للتأجير، أو تريد أن تحفظها وتقول: إن احتجت بعتها وإلا أبقيتها، أو تقول: اشتريت الأرض لأحفظ دراهمي، لأنني رجل أخرق لو بقيت الدراهم في يدي لضاعت، ولكني أحفظ دراهمي بهذه الأرض، ولا أقصد الفرار من الزكاة، فإذا كان يريد هذه الأمور: فالأرض لا زكاة فيها) [مجموع فتاواه:18/229] وأصل ذلك أن زكاة عقار التجارة هي زكاة عروض، وزكاة العروض لاتجب إلا فيما كان "معداً للبيع" كما جاء عند أبي داود (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع) ومقصد شراء الأرض لحفظ المال هذا ليس نية بيع وتكسب، بل هو من جنس الوديعة، ولذلك لو أن إنساناً اشترى أقمشة للتجارة لكان عليه فيها زكاة، لكنه لو وضعها عند رجل آخر وديعة ليحفظها له، لم يكن عليه فيها زكاة، وهكذا شراء الأرض بقصد حفظ المال فإنه من جنس الوديعة والاستئمان، وليس من جنس الاعداد للبيع والتكسب. ومن قيّد زكاة العقار بما يغلب على الظن أن يكون صاحبه يعده للتجارة فهذا ضابط أيسر مما سبق، وأقرب للفقه، لأنه ربطه بنية التجارة، وإنما الاجتهاد في معرفة نية مالك العقار، ولكن هذا القول سيواجه إشكاليات عملية كبيرة في التطبيق، وستكون السلطة التقديرية فيه مجالاً لضمور العدالة والإنصاف، فربما تهرب بعض كبار ملاك العقار من النافذين والموسرين، وتحمل الزكاة المغلوبون على أمرهم لوحدهم! فتضاعفت المشكلة وزاد الاحتكار. والمراد أن معالجة أزمة الإسكان من خلال باب الزكاة مدخل خاطئ بشكل قاتل، لأنه دخل من أضيق الأبواب الفقهية، وهي العبادات التوقيفية، بل هي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، ولذلك فإنه حتى لو سلمنا جدلاً بصحة هذا المدخل أساساً، فإنه يصعب الحراك داخل هذا الحل، لأن النسبة مقررة سلفاً في قيمتها (ربع العشر) ولا يمكن التصرف فيها زيادةً ونقصاً بحسب موقع الأرض مثلاً! ومقررة سلفاً في زمنها فلا يمكن التحكم في وقتها، بل يجب أن تكون حولاً سنوياً بالشهور القمرية، فمدخل الزكاة في أزمة الإسكان هو أسوأ مدخل طرُح، وأقبح فكرة رأيتها في هذه المشكلة العويصة، وترتب عليه الخوض في أحكام عبادة عظيمة بالجهل والرأي والاستحسان الذوقي المحض. وإذا استمرأنا هذا المبدأ وهو معالجة أزمات التنمية من خلال التصرف ببلادة حس بأركان الإسلام وعباداته الكبرى التوقيفية، فيمكن للمرء أيضاً أن يقول على نفس هذا النسق: نحن نعاني من أزمة مياه، فيجب إصدار فتاوى ريادية بتقليص مرات الوضوء، وإلغاء بعض حالات الغسل في الشريعة! ويقال أيضاً: نحن نعاني من أزمة مرور واكتظاظ الطرق، فنحتاج لفتاوى مبدعة تعدل بعض مواقيت الصلاة لتتناسب مع مواعيد الدراسة والعمل! ويقال أيضاً: الدوائر الحكومية يتعثر أداؤها في شهر رمضان، فنحتاج فتاوى تقدمية تجيز تناول بعض المرطبات مثلاً لتعزيز أداء الموظف! ويقال أيضاً: المسلمون الذين يريدون الحج كثيرون وتزدحم بهم فجاج مكة ومشاعرها، فنحتاج لفتوى سابقة لعصرها تعدل مواعيد وأماكن المناسك وتوزعها بشكل هندسي جديد! وهكذا إذا دخل المرء في أحكام العبادات التوقيفية ليحل أزمات التنمية انفتح باب العبث بالشريعة وتبديل الأحكام. حسناً .. ماسبق كان مناقشة لفكرة الفتوى الأولى وهي إيجاب الزكاة على العقار، سننتقل الآن إلى الفتاوى الثلاث الأخرى (الرسوم، التسعير، حظر الاحتكار) ومن المهم التنبيه إلى أن هناك فارق جوهري بين مسألة الزكاة، ومسائل (الرسوم، التسعير، حظر الاحتكار)، فالزكاة تنتمي إلى باب (التوقيفيات)، وأما المسائل الثلاث الأخرى فتنتمي إلى باب (السياسة الشرعية)، وباب التوقيفيات باب محسوم بالنصوص، بخلاف باب السياسة الشرعية المبني على المصلحة. ب-فتوى إيجاب الرسوم على العقار: الرسوم هي نوع من الضريبة، وإن كان يغلب في الاستعمال إطلاق الرسوم على مقابل الخدمات، وإطلاق الخراج لما يوضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدى عنها، وإطلاق المكوس على ما يؤخذ على السلع ظلماً. والواقع أن اعتبار ما يؤخذ على العقار "رسوم" فيه شيء من التجوز الاصطلاحي، لأن الرسوم تكون على الخدمات، وتكون المنفعة فيها لدافع الرسم نفسه، ويكون قرار الدفع من عدمه بيد المستفيد، بخلاف الضريبة، وتوجد مثل هذه الإشارة الى التفريق الفني بين الضرائب (Taxes) والرسوم (Fees) بشكل تقليدي في كتب علم الضرائب والمالية العامة، انظر على سبيل المثال هذا التمييز الاصطلاحي بين الضريبة والرسم فيما يتعلق بالواقع السعودي في: المحاسبة الضريبية للمنيف وزملائه (ص17)، و نظام الزكاة وضريبة الدخل لفرهود وزميله (ص9)، ونظام الزكاة والضرائب للبنا (ص15)، وغيرها. غني عن القول طبعاً أن هذه قضية اصطلاحية فنية غير مؤثرة، ودعنا نفحص الآن الحكم الفقهي لفرض الرسوم أو الضريبة على العقار: هذه الضرائب والرسوم التي توضع على التجار يسميها الفقهاء الكلف السلطانية، أو الوظائف السلطانية، أو النوائب، والحقيقة أن هذه الضرائب أو الرسوم لم تكن معروفة في صدر الإسلام، فلم يكن يؤخذ من الناس إلا الفروض المالية الشرعية فقط، ولم تكن الدولة المسلمة تأخذ من أموال الناس قدراً إضافياً، حتى أن أبا عبيد (ت224ه) في كتابه الأموال حين روى الأخبار في أول من وضع العشور في الإسلام، بين بالأسانيد أنه حتى هذه العشور لم تكن على المسلمين أصلاً، بل كانت على سبيل المقابلة بالمثل مع تجار الدول غير المسلمة، ثم قال ابو عبيد (إذا زاد في الأخذ على أصل الزكاة فقد أخذها بغير حقها)[الأموال:2/201]. ثم في أواخر الدولة العباسية وضعت الوظائف المالية على أصحاب الأموال، وهي رسوم متفاوتة في السلع والعقار وغيرها، وكان ذلك بفتاوى من بعض الفقهاء، وأول من عرف أنه قام بالتنظير الفقهي لمشروعية الوظائف (الضرائب) هو الجويني رحمه الله في الغياثي، وكان الهدف منها في البداية تمويل مصالح المسلمين كالجهاد في المقام الأول، ثم توسع فيها السلاطين وأساؤوا استعمالها وجعلوها لمصالحهم الشخصية، وقد شرح الإمام ابن تيمية هذا المشهد التاريخي في رسالة له اسمها (الأموال السلطانية) وهي ليست موجودة في مجموع الفتاوى، بل وجدت لاحقاً يقول ابن تيمية في تلخيص هذه الصورة التاريخية، وأعتذر مسبقاً عن نقل النص بطوله لكن لنفاسته التاريخية: (ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية وظفوا على الناس وظائف تؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل..، ثم إنه بعد ذلك حدثت دولة بني بويه الأعاجم، وغلبوا على الخلافة، وازداد الأمر عما كان عليه، وبقوا قريبا من مئة عام إلى بعد المئة الرابعة بنحو من ثلاثين سنة أو نحوها حدثت دولة السلاجقة الأتراك، وغلبوا على الخلافة أيضا...، وكانت سيرة الملوك تختلف..، وهكذا هم في وضع الوظائف، فمن الملوك والوزراء من يسرف فيها وضعاً وجبايةً؛ ومنهم من يستن بما فعل قبله، ويجري على العادة، ومنهم من يقصد اتباع الشريعة وإسقاط ما يخالفها، كما فعل نور الدين لما أسقط الكلف السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالاً عظيمة جداً، وزاد الله البركات، وفتح البلاد وقمع العدو بسبب عدله وإحسانه، ثم هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين، ولا ذكرها أهل العلم المصنفون للشريعة في كتب الفقه من الحديث والرأي؛ هي حرام عند المسلمين، حتى ذكر ابن حزم إجماع المسلمين على ذلك، ومع هذا فبعض من وضع بعضها وضعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك الفتوى والرأي من بعض علماء ذلك الوقت ووزرائه،وإنه لما قامت دولة السلاجقة ونصروا الخلافة العباسية.. وصنف أبو المعالي الجويني كتابا للنظام سماه "غياث الأمم في التياث الظلم"، وذكر فيه قاعدة في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد، فإن الجهاد بالنفوس والأموال واجب، ولا يمكن حصول الجهاد إلا بأموال تقام بها الجيوش، إذ أكثر الناس لو تركوا باختيارهم لما جاهدوا لا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن ترك جمع الأموال وتحصيلها حتى يحدث فتق عظيم من عدو أو خارجي كان تفريطا وتضييعا، فالرأي أن تجمع الأموال ويرصد للحاجة، وطريق ذلك أن توظف وظائف راتبة لا يحصل بها ضرر، ويحصل بها المصلحة المطلوبة من إقامة الجهاد، والوظائف الراتبة لابد أن تكون على الأمور العادية، فتارة وظفوها على المعاوضات والأملاك، مثل أن يضعوا على البائع والمشتري في الدواب والحبوب والثمار وسائر الأطعمة والثياب مقدارا، إما على مقدار المبيع، وإما على مقدار الثمن..، ويضعوا على العقار من جنس الخراج الشرعي، وكان ما وضعوه تارة يشبه الزكاة المشروعة من كونه يوجد في العام على مقدار؛ وتارة يشبه الخراج الشرعي، وتارة يشبه ما يؤخذ من تجار أهل الذمة والحرب..، وحقيقة الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث–وهو ماكان اجتهاداً لكن صدر بعدوان من المجتهد- أو القسم الرابع –وهو ما كان معصية محضة لا شبهة فيه-، فإن هذا إذا صدر باجتهاد فهو في الأصل مشوب بهوى ومقرون بتقصير أو عدوان..، كما أنه صادر من كثير من الولاة أو أكثرهم بما يقبضونه من الأموال بغير حق، ويصرفونه في غير مصرفه..، فجمع هذه الأموال وصرفها هي من مسائل الفتن، مثل الحروب الواقعة بين الأمراء بآراء وأهواء ، وهي مشتملة على طاعات ومعاصي، وحسنات وسيئات ، وأمور مجتهد فيها تارة بهوى، وتارة بغير هوى، اجتهادا اعتقاديا أو عمليا)[الأموال السلطانية: 33-42، تحقيق بن الأمير] وأشار الإمام ابن تيمية إلى هذا السياق التاريخي لتطور فكرة الضريبة في تاريخ الإسلام في مواضع أخرى من كتبه، لكن ما ذكره في رسالة (الأموال السلطانية) هو أتم سياق وأطول استعراض رأيته، وقد أشار في مواضع أخرى إلى اجتهادية المسألة كقوله: (أما الفقهاء الأئمة الذين يفتى بقولهم فلم يذكر أحد منهم جواز ذلك؛ ولكن في أوائل الدولة السلجوقية أفتى طائفة من الحنفية والشافعية بجواز ذلك، وحكى أبو محمد بن حزم في كتابه إجماع العلماء على تحريم ذلك، وقد كان نور الدين محمود الشهيد التركي قد أبطل جميع الوظائف المحدثة بالشام والجزيرة ومصر والحجاز..، ومن فعل ما يعتقد حكمه متأولا تأويلا سائغاً، لا سيما مع حاجته؛ لم يجعل فاسقا بمجرد ذلك)[الفتاوى:32/60]. وأكّد الإمام ابن تيمية على اجتهادية المسألة أيضاً فقال: (فإن طائفة من الفقهاء أفتوا طائفة من الملوك بجواز وضع أصل هذه الوظائف، كما فعل ذلك أبو المعالي الجويني في كتابه "غياث الأمم"، وكما ذكر بعض الحنفية، وما قبض بتأويل فإنه يسوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضه، وإن كان يعتقد المشتري أن ذلك العقد محرم)[الفتاوى:29/265]. ونستخلص من هذا الاستعراض التاريخي الذي طرحه ابن تيمية معطيين أساسيين: أولهما أن الجويني هو أول من تبنى التنظير الفقهي للوظائف المالية (الضرائب والرسوم). وثانيهما أن مسألة الوظائف المالية هي عند ابن تيمية من مسائل المشتبهات، واعتبرها عنده حرام لكنها مسألة اجتهادية يسوغ فيها التأويل، وإن كان قد يقع العدوان في تطبيقها. فأما كون الجويني (ت478ه) هو أول من طرح المسوغات الفقهية للوظائف (الضرائب) فهو أمر أقر به الجويني نفسه، حيث يقول في الغياثي: (فإن قيل: قد ذكرت تسويغ وظائف لم يحم عليها طائف)[الغياثي:287] وقال في نفس المبحث (لست أحاذر إثبات حكم لم يدونه الفقهاء، ولم يتعرض له العلماء)[الغياثي:266]. وقد تابع الجويني (ت478ه) على هذا الرأي تلميذه الغزالي (ت505ه) حيث يقول، الغزالي (فإن قيل: فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أم لا؟ قلنا: لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود، أما إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام؛ فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند)[المستصفى:177]. ثم انتشر هذا القول بسبب عالمية الغزالي وتأثيره في المذاهب الأربعة كلها، فهو أكثر شخصية فقهية أثرت خارج مذهبها في العصر الوسيط، وممن قرر ذلك تأثراً بالغزالي الإمام الشاطبي (ت790ه)، حيث كانت عبارته قريبة من عبارة الغزالي، فإن الشاطبي لما تعرض للمصالح المرسلة ضرب لها عشرة أمثلة، وكان المثال الخامس فيها عنده هو مسألة "التوظيف على التجار"، لكن المفيد في معالجة الشاطبي أنه طرح في نفس الموضع تفسيراً لسبب غياب هذا القول في التاريخ الفقهي فقال (وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين؛ لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار)[الاعتصام:619]. ومسألة تأثير الغزالي في المذاهب الإسلامية في عصره سبق أن وضحت وجهة نظري فيها في مقالة سابقة بعنوان (استمداد المذاهب من خارج أهلها) وهي منشورة على الشبكة لمن كان يهمه الأمر. المهم هاهنا أن هذا القول، وهو مشروعية التوظيف على التجار (الضرائب) لأجل المصالح؛ انتشر عند بعض المتأخرين بعد أن نظره الجويني وأشاعه الغزالي. وأما المعاصرين فقد رأيت تردداً عند بعض أهل العلم في هذه المسألة، أعني أصل مسألة الرسوم والضرائب، ومن ذلك مثلاً الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- فله في المسألة قولان بحسب ما رأيت، فمرةً رأى الشيخ تحريمها، حيث جاء في السؤال وجوابه (الرسوم التي تؤخذ لتجديد الاستمارة أو الرخصة هل تعتبر من الضرائب؟ الجواب: نعم، كل شيء يؤخذ بلا حق فهو من الضرائب؛ وهو محرم، ولا يحل للإنسان أن يأخذ مال أخيه بغير حق)[الباب مفتوح: ص3/416، ت الطيار]. وفي موضع آخر أجازها الشيخ ابن عثيمين، حيث جاء في السؤال وجوابه:(السؤال: ما حكم العمل في بعض الجهات التي تتحصل على الضرائب والرسوم من المواطنين؛ مثل رسوم تجديد الرخص، والاستمارات، وتسمى في بعض البلدان "الدمغة"؟ فأجاب: لا بأس في ذلك، فإن الباذل لهذه الرسوم يبذلها باختياره، ولو شاء لم يفعل، لأنها ليست من الضرورات)[ثمرات التدوين:س421]. والحقيقة أن فتوى التحريم كانت في شهر صفر 1415ه، وفتوى الإباحة كانت في شهر جمادى الأولى 1420ه، والله أعلم بحقيقة الحال. وأما اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز فلهم فتوى مشهورة في تحريم الرسوم الجمركية (فتاوى اللجنة الدائمة، مج1، ص23/490) ولكن موضوع الرسوم والضريبة أعم من الرسوم الجمركية، فلا يمكن تعميم الفتوى على كامل مفهوم الضريبة والرسوم، ولذلك فلا أعرف بالضبط تحرير قاعدتهم في فروع هذا الباب، وخصوصاً رسوم الخدمات. والذي يظهر لي –والله تعالى أعلم بالصواب- أنه لا يمكن تحرير حكم الضريبة والرسوم إلا بالرجوع لقاعدة الباب واستحضار الأصول الكلية الناظمة له، فمسألة الضرائب والرسوم هي من باب (السياسة الشرعية)، والسياسة الشرعية مدارها على المصلحة، طبقاً للقاعدة الفقهية المتفق عليها بين المذاهب الأربعة (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة)[الأشباه والنظائر للسيوطي:121]. وإناطتها بالمصلحة ليست توسيعاً وترخصاً لولي الأمر، كما يتوهم بعض المعاصرين، بل هو حصر بالمصلحة، بمعنى أنه لا يكون التصرف بالتشهي والهوى والمزاج الشخصي، بل يجب على ولي الأمر أن يتغيا المصلحة التي تنفع الناس، وقد سبق أن شرحت هذا المعنى في فقرة بعنوان (المصلحة تقييد لا تخيير) في بحث (مغلوطات المال العام) وهو منشور على الشبكة لمن كان يهمه الأمر. حسناً .. إذا كان باب السياسة الشرعية مبناه على الاجتهاد في البحث عن المصلحة التي تنفع الناس باتفاق الفقهاء، فإن هذا يعني أن الضرائب والرسوم تكون على مرتبتين: (الضرائب المصلحية) و (الضرائب المُكسية)، فأما الضرائب والرسوم المصلحية فهي التي يتغيا بها مصلحة المجتمع المسلم ومنفعته، لا بالتشهي والهوى والغرض الشخصي، فهذه نوع من السياسة الشرعية المندرجة في قاعدة (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة). وأما (الضرائب المُكسية) فهي الضرائب والرسوم التي تؤخذ ظلماً وتدخل في نصوص الوعيد على المكوس، ومنها قول الله (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)[البقرة:188]. وقول الله (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ)[الشورى:42]. وفي الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن المرأة المحصنة المرجومة في الزنا (فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مُكس لغفر له)[مسلم:1695]. فضرب النبي –صلى الله عليه وسلم- المثال لشدة المعصية بصاحب المكوس! إشارةً لشناعة فعله، وقد جمع أهل العلم نصوص تحريم المكوس في كتب الكبائر، كالكبائر للذهبي والزواجر للهيتمي لمن أراد التوسع في نصوصها. وهذا يوافق أصول ابن تيمية رحمه الله في التسعير، وفي الاشتراك في تحمل الضرر، بل تحدث الإمام ابن تيمية عن مشروعية إلزام ولي الأمر للناس في مسألة الإسكان، حيث يقول ابن تيمية رحمه الله: (والأصل أن إعانة الناس بعضهم لبعض على الطعام، واللباس، والسكنى؛ أمر واجب، وللإمام أن يلزم بذلك ويجبر عليه؛ ولا يكون ذلك ظلماً)[الفتاوى:29/194]. وأما الإجماع الذي أشار ابن تيمية إلى أن ابن حزم نقله، وهو قول ابن حزم: (واتفقوا أن المراصد الموضوعة للمغارم على الطرق، وعند أبواب المدن، وما يؤخذ في الاسواق من المكوس على السلع المجلوبة من المارة والتجار؛ ظلم عظيم وحرام وفسق، حاشا ما أخذ على حكم الزكاة، وحاشا ما يؤخذ من أهل الحرب وأهل الذمة مما يتجرون به من عشر أو نصف عشر)[مراتب الإجماع:121]. فيبدو أن ابن حزم يقصد الضرائب الظالمة، لا الضرائب التي تكون للمصلحة الراجحة، وهو ما يدل عليه سياق كلامه، ويؤكد هذا أن ابن حزم نفسه أجاز أحوالاً يؤخذ فيها قدر زائد عن الزكاة كقوله (مسألة: قال أبو محمد: وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم)[المحلى:4/281]. وليس في قلبي أدنى شك أن الموقف السلبي من الضرائب والرسوم في التراث الإسلامي ارتبط أساساً بالتطبيق السيء الذي وقع فيه كثير من الولاة الظلمة، الذين حولوا هذه الرسوم إلى مصالحهم ولهوهم الشخصي، وليس إلى مصالح الأمة، ومما يؤكد ذلك أن الفقهاء في مسائل الجهاد والجدب والقحط والغلاء أفتوا بجواز إلزام الناس بأمور تقوم فعلاً على مراعاة المصلحة الشرعية. ومن أفتى بجواز الضرائب والرسوم مطلقاً فقد خلط بين الضرائب التي تؤخذ بعدل وحق، والضرائب التي تؤخذ بظلم وجور، كما أن من حمل نصوص المكوس على كل أنواع الضرائب والرسوم فقد ألغى قدراً من السياسة الشرعية المنوطة بالمصلحة. والذي يبدوا لي –والله أعلم- أن تردد الشيخ ابن عثيمين في مسألة الرسوم لم يكن لاختلاف الأصل الكلي عنده، وإنما هو اختلاف تطبيق، فالتردد عنده في (الواقعة) لا في (القاعدة) فلم يتحرر له هل هذه الرسوم المأخوذة هي من الرسوم العادلة أم من الرسوم الظالمة؟ وهذا التردد شأنٌ طبيعي يعرض لكل أحد والله أعلم. والأصل في الدولة المسلمة أن تقدم خدماتها للأفراد من بيت مال المسلمين، فليست الدولة تاجراً ومستثمراً بل أجيراً ونائباً في التكييف الفقهي، ولا تلجأ للضرائب والرسوم إلا إذا احتاجت لذلك لمصلحة المسلمين، والواقع يشهد أن أكثر الضرائب والرسوم المفروضة ليست مدروسة على أساس المصلحة والحاجة، بل كثيراً ما ترى الميزانيات تفيض والرسوم تزداد! حسناً .. فلنأتِ الآن لتطبيق هذا التأصيل على مسألة (رسوم الأراضي البيضاء)؟ فهل هي من الضرائب المصلحية أم من الضرائب المكسية؟ الجواب: أن الذي يحدد ذلك ليس المختصون في الفقه الإسلامي، بل يحدد ذلك الخبراء في هذا المجال، وهم خبراء العقار، والمطلوب من الفقهاء في الأصل أن يوضحوا القاعدة الشرعية للناس، ويشاركوهم في تطبيقها على الواقع، وأما ما يحتاج لتقرير أهل الخبرة، فالمرجع فيه أهل الخبرة، فالشريعة أسست مرجعية الخبراء كما أشار لذلك قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] وقوله تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]. ولذلك لو اختلف الفقيه والاقتصادي مثلاً في تعيين كمية الجهالة في عقدٍ معين، فالعبرة بقول الاقتصادي لأنه صاحب الخبرة، كما قال ابن تيمية: (وكون "المبيع معلوماً أو غير معلوم" لا يؤخذ عن الفقهاء بخصوصهم، بل يؤخذ عن أهل الخبرة بذلك الشيء، وإنما المأخوذ عنهم ما انفردوا به من معرفة الأحكام بأدلتها، فإذا قال أهل الخبرة أنهم يعلمون ذلك كان المرجع إليهم فى ذلك، دون من لم يشاركهم فى ذلك، وإن كان أعلم بالدين منهم، كما قال النبي لهم في تأبير النخل: "أنتم أعلم بدنياكم فما كان من أمر دينكم فإلي"، ثم يترتب الحكم الشرعي على ما تعلمه أهل الخبرة) [الفتاوى، 29/493] وقال ابن القيم مؤكداً تقديم رأي أهل الخبرة على الفقهاء فيما اختص به أهل الخبرة: (وقول القائل "إن هذا غرر ومجهول" فهذا ليس حظ الفقيه, ولا هو من شأنه, وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك, فإن عدُّوه قماراً أو غرراً فهم أعلم بذلك, وإنما حظ الفقيه يحل كذا لأن الله أباحه, ويحرم كذا لأن الله حرمه, وقال الله وقال رسوله وقال الصحابة, وأما أن يرى هذا خطراً وقماراً أو غرراً فليس من شأنه, بل أربابه أخبر بهذا منه, والمرجع إليهم فيه, كما يرجع إليهم في كون هذا الوصف عيباً أم لا؟ وكون هذا البيع مربحاً أم لا؟ وكون هذه السلعة نافقة في وقت كذا وبلد كذا؟ ونحو ذلك من الأوصاف الحسية والأمور العرفية, فالفقهاء بالنسبة إليهم فيها مثلهم بالنسبة إلى ما في الأحكام الشرعية) [إعلام الموقعين، 4/5]. بما يعني أن المهم هاهنا أن نقرر أن (الرسوم على الأراضي) إن قرر أهل الخبرة أن فيها مصلحة شرعية، فهي مشروعة، وإن قرر أهل الخبرة أن فيها مفسدة راجحة، أو أن مصلحتها ومفسدتها متكافئة؛ فلا يجوز في هذه الحالة فرض الرسوم، وهذا غاية ما يستطيع أن يقوله الباحث الفقهي والله أعلم. وأما رأي أهل الخبرة فالحقيقة أنني سألت وناقشت عدداً من المختصين ذوي اتجاهات مختلفة، فرأيت بينهم تضارباً، ولم أستطع أن أصل لنتيجة "حاسمة" في مدى جدوى فرض الرسوم على الأراضي البيضاء. فمثلاً عدد من المختصين يرى أن فرض الرسوم على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني سيدفع كبار الملاك للتخلص من عقاراتهم التي لا يضطرون لها، تحاشياً لدفع الرسوم، فلا يتمسك بالأرض إلا من له غرض مباشر فيها، كمسكن أو مستغلات أو استراحة أو غيرها، وبالتالي سيزداد العرض في سوق العقار، وإذا ازداد العرض تقلصت الفجوة بينه وبين الطلب وانخفضت الأسعار إلى معدلات طبيعية، وأمكن للفرد أن يجد الأض المناسبة ليبني مسكنه. هذا هو الرأي الأول وهو رأي منتشر، ويتبناه الأكثر، وهم الأعلى صوتاً. أما الرأي الثاني فيرى أن فرض الرسوم عملية غير مجدية، ولن تحل أزمة الإسكان، ويعزز هؤلاء رأيهم بعدة اعتبارات، وقد تأملت كلاهم وناقشت بعضهم، وتوصلت إلى أن الاعتبارات التي يدعمون بها رأيهم هي سبع اعتبارات، وهي كالتالي: 1-رجحان الربح على الرسم: أن كثيراً من المضاربين يحصل أرباحاً سنوية على العقارات تصل إلى (15%) وأكثر، بينما النسبة المقترحة للرسوم (2,5%) قيمة زهيدة نسبة لما يحصله المضارب من أرباح سنوية، وبالتالي فلن يفرط المضارب في عقاره. 2-تحويل عبء الرسم على المشتري: هذه النسبة قد تدفع البائع إلى الرغبة في تعويضها عن طريق تحميلها على ظهر المشتري، فإذا دفع المالك في السنة الأولى رسماً قدره (2,5%) فقد يتمسك بأن لا يبيع إلا بجبر ما دفعه فيها، وبالمقابل لا يستطيع المشتري الشراء، فيستمر نقص العرض وتلتهب الأسعار مجدداً، وخصوصاً أن الناس يميلون للاحتفاظ بما خسروا عليه أكثر من ميلهم للاحتفاظ بما لم يخسروا عليه شيئاً. 3-ثقافة التهرب من الرسوم: أن فرض الرسوم على الأراضي البيضاء قد يدفع القطاع العقاري لأن يترعرع فيه "ثقافة التهرب من الرسوم" مثل: تسوير الأراضي والإيهام بأنها للأغراض الشخصية أو التأجيرية كالمستودعات والاستراحات وإسكان العمال الخ ومن وسائل التهرب عقود "التأجير الصوري" وهي عقود وهمية تتم بتواطؤ بين مؤجر ومستأجر يوحي ظاهرها أن العقار مستغل، وهو غير مستغل حقيقةً، وإنما للتهرب من الرسوم. ونحو هذه الوسائل. وإذا تشكلت ثقافة التهرب من الرسوم تشكل معها في قنوات موازية أسواق تحتية غير رسمية (السوق السوداء) لتداول العقار بعيداً عن أعين الرقابة. 4-غياب المعلوماتية العقارية: ومما يعيق تطبيق فكرة الرسوم غياب النظام المعلوماتي الذي يضبط الملكيات ويحدد هوية العقار، فالأراضي في السعودية لا يوجد جهة تستطيع الوصول إليها لتخبرك بمن يملك هذا العقار، وخصوصاً الصكوك القديمة التي لم تدخل في النظام الشامل لكتابات العدل، فحتى الدولة نفسها لا تستطيع أن تعرف من يملك الأرض التي بجوارك! وكل ما يوجد الآن هو طرق بدائية في سؤال مكاتب العقار المجاورة والجيران وكأنها ضالة إبل تبحث عنها! فكيف يمكن في ظل هذا الغموض العقاري فرض الرسوم بطريقة عادلة وشفافة ومنظمة؟ 5-احتمالات ضعف عدالة التطبيق: نحن لسنا في بيئة مثالية، والجميع بات يعرف جيداً أن كبار الملاك العقاريين إما نافذون، أو هم مجرد غطاء وواجهة لنافذين يُطلّون من الخلف، وبالتالي فالإلزام بالرسوم قد يفتح المجال للمظالم في التطبيق، فيتنصل النافذون من دفع الرسوم عبر علاقاتهم الخاصة، وتصبح الرسوم عبئاً على الأفراد ذوي الاستثمارات الصغيرة. 6-غموض كمية الأراضي المحتكرة: الأراضي البيضاء المحتكرة هي الأراضي الكبيرة التي لا ينوي أصحابها استغلالها، فيخرج منها أراضي المرافق الحكومية، وأراضي الأفراد الذين ينتظرون فرصة البناء أو الاستغلال. والحقيقة أنه لا يوجد أي إحصائية دقيقة، ولا حتى شبه دقيقة؛ حول حجم الأراضي البيضاء المحتكرة التي يملكها إقطاعيون كبار (مستبعداً منها أراضي المرافق والأفراد)، فالأرقام المطروحة كلها تخمينات متأثرة بحجم الاندفاع تجاه أحد الحلول، وهذا لاحظته فعلاً، فالمندفعون لفكرة الرسوم يبالغون في تصوير كمية الأراضي البيضاء المحتكرة لدرجة تشعرك أنك تعيش في الربع الخالي وليس في الرياض المكتظة، والرافضون لفكرة الرسوم يبالغون في تصوير محدودية الأراضي البيضاء المحتكرة بدرجة مقابلة. وكلا الطرفين بصراحة لا يملك معلومات دقيقة أبداً، وقد تتبعت كلام الطرفين ولم أجد "معلومة" يمكن الاستناد إليها. ومما يزيد تعقيد الموضوع تنامي وجود مشروعات (التطوير الفردي) وهم الأفراد الذين يجتمعون بشكل محدود ويشترون الأراضي لتطويرها، فهؤلاء يشكلون رقماً كبيراً في عملية التطوير اليوم، بما يفوق حجم (التطوير المؤسسي)، وهؤلاء طبعاً يشاركون في التملك لهذه الأراضي، وفرض الرسوم عليهم إضرار جوهري باستثماراتهم التي تخدم الإسكان، فإذا استبعدنا أيضاً هذه الشريحة ضاقت جداً معايير تحديد الأراضي محل الرسوم! ومما يضاعف المشكلة –أيضاً- أننا لو سايرنا أكبر التوقعات حول حجم الأراضي البيضاء المحتكرة داخل النطاق العمراني فإن حجم الطلب المذهل في مدينة الرياض مثلاً يفوقها أضعافاً مضاعفة! فسيبقى في كل الأحوال الطلب أعظم من العرض، ولن تحل فكرة الرسوم الغلاء الفاحش. 7-الرسوم حلٌ لا يلاقي جوهر المشكلة: يرى أصحاب هذا الاتجاه أن التركيز المكثف على فكرة الرسوم نقل الأذهان بعيداً عن أساس المشكلة، فالبداية الصحيحة في حل أي مشكلة هو التعرف على سبب المشكلة، فسبب غلاء الأراضي الأساسي هو (المضاربة) وليس (الاحتكار)، فمثلاً التاجر موسى يبيع المتر ب(1000)، فيشتريها منه التاجر سعيد ب(1200)، ثم يبيعها بدوره على التاجر خالد ب(1400) وهكذا، فالسبب الأساس ليس هو الاحتكار، وإنما هو المضاربات، فثمة في سوق العقار عمليات بيع لكنها تزداد معها الأسعار ولا تنخفض، بل تسمع عن عمليات بيع لا تتوازى بتاتاً مع عمليات إنشاءات! بما يعني أن غرض المبايعات هنا هو المضاربة لا الإنشاءات، وبما يعني أن جوهر المشكلة ليس في هيمنة الاحتكار، وإنما في هيمنة المضاربة. ولكن ما السبب في سيطرة المضاربة على سوق العقار؟ السبب متعلق بالمنظومة الاستثمارية المحلية، فثمة رؤوس أموال ضخمة محلياً تبحث عن فرص آمنة لتحقيق الربح السريع، فهبطت هذه الرساميل المحلقة في مطار العقار، واشتعلت المضاربات، بحيث أصبح سوق العقار (بورصة كبيرة) وبالتالي فإن فرض السوم في هذه البورصة قد يزيدها اشتعالاً بدلاً من أن يطفئها! لأن الحل الحقيقي يجري في مسارين رئيسيين: فتح وتعزيز وتنويع قنوات الاستثمار بحيث يتم تصريف رؤوس الأموال في عدد من السلات المحلية المتنوعة، والثاني دعم التطوير العقاري الذي هو حلقة الوصل بين الفرد والمسكن، لاسترداد المطورين الذين هربوا من التطوير إلى المضاربة بعد أن صارت أكثر جدوى لهم، ودعم التطوير يكون بحل المشكلات التي تعترض التطوير العقاري القانونية والتمويلية. على أية حال .. هذه هي الاعتبارات السبع التي ينطلق منها الفريق الذي يرى عدم جدوى الرسوم، وأنا شخصياً ليس لي وجهة نظر في هذا الموضوع، فهذه قضية خارج حقل تخصصي، ولست من أهل الخبرة العقارية، وإنما أنا باحث فقهي وظيفتي هاهنا دراسة اتجاهات أهل الخبرة واستخلاص اعتباراتهم. والبحث الفقهي في هذه المسألة يقف عند حد الحكم في مدى مشروعية فرض الرسوم والضرائب على العقار، وخلاصة حكمها أنه إن كان هناك مصلحة شرعية راجحة فيجوز فرضها، وإن لم يكن هناك مصلحة راجحة فلا يجوز فرضها ويجب احترام أموال الناس فقد قال الله (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)[البقرة:188] وقام النبي خطيباً في الحجة التي ودّع الناس فيها وقال (فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)[البخاري:67]. فأموال الناس مصونة لها حرمتها عند الله ورسوله، والناس مسلطون على أموالهم، ولا يجوز فرض هللة واحدة على الناس إلا بمسوغ شرعي راجح، وليست أموال الناس حقلاً للتجارب، والباحث الموضوعي العلمي لا تحركه النقمة من ثراء فلان أو علان، وإنما ينطلق من المنطلقات الشرعية. والمسوغ الشرعي لفرض الرسوم على العقارات هو قرار (أهل الخبرة العقارية) فإذا قرر أهل الخبرة رجحان المصلحة أفتى المفتي بموجب قرار أهل الخبرة، ومعرفة مصلحة الرسوم ومفسدتها ليس من تخصص الفقهاء كما قال ابن تيمية (وإنما المأخوذ عن الفقهاء ما انفردوا به من معرفة الأحكام بأدلتها، فإذا قال أهل الخبرة أنهم يعلمون ذلك كان المرجع إليهم فى ذلك، دون من لم يشاركهم فى ذلك، وإن كان أعلم بالدين منهم) [الفتاوى: 29/493] -خطورة المحاباة في الرسوم: من أعوص المشكلات التي تعترض فكرة الضريبة أو الرسوم، هي احتمالات المحاباة وتهرب النافذين منها، وهذا بصراحة من أكثر ما يخيف من يفكر في هذه المسألة، وهذا منكر شرعي، فحتى لو كانت الضريبة محرمة، وحتى لو كانت الرسوم على الأراضي ظلم محض؛ فيجب العدل فيها بين الناس، يجب شرعاً العدل في توزيع المظالم، وهذه المسألة هي التي ألف من أجلها شيخ الإسلام رسالة (المظالم المشتركة) وهذه الرسالة من عيون الفقه الإسلامي، وفيها من فسلفة الفقه ما يشجي الواصفين، وقد قال فيها الإمام ابن تيمية: (وإن كان أصل الطلب ظلماً فعليه أن يعدل في هذا الظلم، ولا يظلم فيه ظلماً ثانياً، فيبقى ظلماً مكرراً، فإن الواحد منهم إذا كان قسطه مائة فطولب بمائتين كان قد ظلم ظلماً مكرراً، بخلاف ما إذا أخذ من كلٍ قسطه، ولأن النفوس ترضى بالعدل بينها في الحرمان، وفيما يؤخذ منها ظلماً، ولا ترضى بأن يخص بعضها بالعطاء أو الإعفاء..، وكذلك في عطية الأولاد: هو مأمور أن يسوي بينهم في العطاء أو الحرمان، ولا يخص بعضهم بالإعطاء من غير سبب يوجب ذلك)[الفتاوى: 30/340]. وقد أكدت هذه المسألة هنا لأنها مؤلمة فعلاً، وهي من أكثر ما يجعل المرء يتمهل في دعم فكرة الرسوم على العقار. -الفرق بين الرسوم والزكاة: سمعت وقرأت لبعض المناقشين في المخارج الفقهية لأزمة الإسكان من يقول: (وما فائدة أن تنكروا الزكاة وتوافقون على الرسوم؟! هذا اختلاف شكلي!)، بل بعضهم يكتب الرسوم ويلحقها بين قوسين بكلمة (الزكاة)، باعتبار أنها أشبه بالمرادف! ورأيت الكثيرين في الصحافة يكتب عن الموضوع ويورد الزكاة في محل الرسوم، والرسوم في محل الزكاة، باعتبار أن الفرق مجرد خلاف "لفظي"! والحقيقة أن هذا خلل جوهري، فالفرق بين الزكاة والرسوم فرق معنوي ولفظي، اسماً ومسمى، وخلاصة الفرق بين الرسوم الزكاة كالتالي: -القيمة: أن الزكاة محسومة في قيمتها (2,5% في عروض التجارة)، بينما الرسوم الأمر فيها مرن فيمكن التحكم في قيمتها زيادةً ونقصاً. -الزمن: أن الزكاة محسومة في زمنها (الحول السنوي القمري)، بينما الرسوم زمنها مرن، فيمكن أن تكون في فترات زمنية أقل أم أطول من السنة، ويمكن أن لا تربط أصلاً بالزمن، بل تكون مربوطة بعمليات البيع والشراء بالشكل الذي يدفع المالك لتحريك أصوله. -مدى التطبيق: تطبيق زكاة العقار لا يجوز إلا أن يكون على عقار التجارة فقط، الذي نوى به صاحبه التجارة وحال عليه الحول، ويحرم شرعاً إيجاب الزكاة على من نوى بعقاره القنية، بينما الرسوم لا يشترط التدقيق في نية المالك، بل يجوز أخذها من العقار التجاري والعقار الشخصي إذا كانت المصلحة راجحة كما يقررها أهل الخبرة. -الشروط: للزكاة شروط دقيقة واختلافات فقهية من حيث ابتداء واستدامة نية القنية، ومن حيث مصدر الملك هل البيع وقبول الوصية ونحوها أم الإرث، وهذه الأمور إن تم إهدارها فقد نكون ضيقنا على الناس في عباداتهم وخياراتهم الفقهية في المسائل الاجتهادية، وإن تم اعتبارها دخلنا في صعوبات التطبيق، وأما الرسوم فليس فيها هذه الشروط الدقيقة. -الأساس الفقهي: الزكاة أساسها الفقهي (توقيفي) باعتبارها عبادة بل الركن الثالث في الإسلام، أما الرسوم فأساسها الفقهي (السياسة الشرعية) والسياسة الشرعية إمكانية الحركة فيها أوسع باعتبارها مربوطة بالمصلحة، فالتصرف على الرعية منوط بالمصلحة. -حرمة الأسماء الشرعية: من يتوهم أن خلاف الأسماء لا قيمة له، وسواء سميناها زكاة أو رسوم وأنه لا فرق؛ فهو واهم، فالأسماء الشرعية لها منزلة في دين الله، وقد أمرنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بحفظ الألفاظ الشرعية، كماروى البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله العشاء، وإنهم يسمونها العتمة لأنهم يعتمون بحلاب الإبل) وفي البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب" قال: والأعراب تقول هي العشاء) وتلاحظ في هذه الأحاديث حرص النبي –صلى الله عليه وسلم- الظاهر على حفظ الألفاظ الشرعية الواردة في القرآن، كما قال "فإنها في كتاب الله العشاء" كالمنبّه لهم على سر هذه المحافظة على اللفظ! ولذلك قال الإمام ابن تيمية (الألفاظ الشرعية لها حرمة)[الفتاوى:12/114]. وأما من يستعمل لفظ الزكاة وهو يريد به الرسوم! فهذا أخشى أن يكون من الاستهانة باللفظ الشرعي، وقد قال الإمام ابن تيمية في موضع مشابه (فإن كان من الألفاظ الشرعية فالتكلم به بدون معناه؛ استهزاء بآيات الله سبحانه، وتلاعب بحدوده)[الكبرى:6/276]. هذا طبعاً في حفظ اللفظ الشرعي، أما النصوص التي جاء فيها تدقيق الشارع في الألفاظ والعناية بها فكثيرة، كآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا)[البقرة:104] وهذه الآية أصل في بيان منزلة الألفاظ في الشريعة، ومثلها حديث النهي عن تسمية العنب كرماً، ونهيه عن قول عبدي وأمتي وقال ليقل فتاي وفتاتي، ونحوها. وأوعب من تتبعها –فيما أعلم- العلامة المتفنن بكر ابوزيد في المناهي اللفظية. والخلاصة أن هناك فروق بنيوية بين مفهوم الزكاة (التوقيفي الضيق) وبين مفهوم الضريبة والرسوم (المبني على السياسة الشرعية المصلحية) ولا يسوغ استعمال أحد اللفظين محل الآخر، ولا التهاون في التفريق بينهما، وحتى لو سلمنا -على سبيل الفرض الجدلي- بأنه ليس الفرق إلا لفظياً فيجب مراعاة حرمة الألفاظ الشرعية. ج-الفتوى الثالثة: فتوى التسعير العقاري: التسعير هو أحد الإجراءات داخل حقل السياسة الشرعية، وهو بكل اختصار: تدخل الدولة في التحكم بالأسعار، أو كما قال البهوتي في شرح المنتهى (منع الناس البيع بزيادة على ثمن يقدره). والتسعير في الفكر الاقتصادي الحديث (Price controls ) له آليتين شهيريتين، أولهما: السقف السعري (Price ceiling) وثانيهما: الأرضية السعرية (Price Floor)، فأما السقف السعري فهو الذي يحدد السعر القانوني الأعلى للسلعة بحيث يحظر البيع بزيادة عليه، وأما الأرضية السعرية فهي التي تحدد السعر القانوني الأدنى للسلعة بحيث يحظر البيع بسعر أدنى منه، وكلاهما له وظيفة اقتصادية معينة، وكلاهما مرتبطان بسعر التوازن. انظر –مثلاً- حول مفهوم التسعير وأنواعه: ]Gwartney, et al,Economics: Private and Public Choice, p. 85[ وكلا الآليتان –أيضاً- جاءت الإشارة إليهما في السنة والآثار، وكانتا معروفتان في أسواق المدينة النبوية، فأما السقف السعري ففي السنن (قال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا)[ابوداود:3453]. فطالب الصحابة بوضع سقف أعلى للأسعار. وأما الأرضية السعرية فقد روى مالك قال (أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيباً له بالسوق، فقال له عمر بن الخطاب: "إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا")[الموطأ:1328]. فوضع عمر حداً أدنى للأسعار لحفظ التوازن. وهناك فارق جوهري في مسألة التسعير لا يتنبه له كثير من الباحثين، وهو الفرق بين مسألة (الأصل العام في التسعير) ومسألة (التسعير للمصلحة الراجحة) والخلط بينهما أوحى بندرة من يرى مشروعية التسعير، حتى ظن كثير من الباحثين أن القائلين بمشروعية التسعير للمصلحة هم قلة من الفقهاء! ونبه على الفرق بين المرتبتين كثيرٌ من أهل العلم، ومن أوضحها تنبيه الجويني في نهاية المطلب (6/63). والمراد أن الأصل في الدولة المسلمة أن لا تتدخل في الأسعار، وهذا هو قول المذاهب الأربعة لأهل السنة، وهو قول مشهور معروف، وقد احتجوا بالحديث الصحيح الصريح عن أنس (قال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعِّر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال»)[ابوداود:3451]. وقد صححه جمع من أهل العلم واعتمدوا عليه. ومن أعظم وجوه الدلالة في الحديث هو تعليل النبي الامتناع بأنه "ظلم" فهذا دالٌ على أن تدخل الدولة في الأسعار من حيث الأصل ظلم، فإذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يبين أنه ليس له حق التدخل في الأسعار، فكيف بمن دون النبي من ولاة الأمور؟! وأما المرتبة الثانية فهي (التسعير للمصلحة الراجحة) كأن يكون هناك قحط أو جدب أو ضرر ونحوها، فهذه ذهب كثير من الفقهاء في المذاهب الأربعة إلى جواز التسعير فيها، ومن نماذج الشواهد الفقهية على ذلك: عند الحنفية (يحرم التسعير إلا إذا تعين دفعا للضرر العام)[التحفة:235]. وعند المالكية (ومن زاد في سعر أُخرِج من سوق المسلمين إلا أن يلحق بالناس)[التلقين:2/152]. وعند بعض الشافعية (ليس للإمام التسعير في رخاء الأسعار وسكون الأسواق، فأما إذا غلت الأسعار، واضطر الناس، فهل يجوز للإمام أن يسعّر؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما: المنع طرداً للقياس الكلي. والثاني: الجواز نظراً إلى مصلحة العامة)[نهاية المطلب:6/63] وعند بعض الحنابلة (ويحرم قوله "بِع كالناس" على الصحيح من المذهب، وفيه وجه: لا يحرم)[الإنصاف:4/338]. وهذا القول بمشروعية التسعير للمصلحة الراجحة اختاره ونصره واحتج له الإمام ابن تيمية، وهو اختيار كثير من مشايخنا المعاصرين. ولكن الإمام ابن تيمية يفرق تفريقاً دقيقاً يجعله هو الفارق بين التسعير المحرم الذي جاء فيه حديث (إن الله هو المسعر) ، والتسعير المشروع الذي جاء به أثر عمر (إما ان تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا)، وهذا الفارق عند ابن تيمية هو "سبب الغلاء" نفسه، حيث يقول ابن تيمية: (فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق؛ فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق. وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة؛ فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به)[الفتاوى:28/76]. وأشار ابن تيمية إلى قياس هام، وهو أن الشريعة منعت الإكراه في البيع، ومع ذلك يجوز الإكراه على البيع بحق، يقول ابن تيمية (وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة؛ فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق؛ يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب، والنفقة الواجبة)[الفتاوى:28/77]. واللافت هاهنا أن ابن تيمية نقل الإجماع على مشروعية بعض صور التسعير، وهي صورة الاضطرار والإلزام بثمن المثل، فقال مرةً (بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء) وقال مرةً (فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع)[الفتاوى:28/77]. وذكر الإمام ابن تيمية أن التسعير على نوعين (تسعير في الأعمال) و (تسعير في الأموال)[الفتاوى:28/87]. والفرق بينهما هو الفرق بين التسعير في الأجور (الحد الأدنى للأجور)، والتسعير في السلع. وأجاب الإمام ابن تيمية على قول من منع التسعير مطلقاً محتجاً بالحديث بقوله (ومن منع التسعير مطلقا محتجا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن الله هو المسعر"؛ فقد غلط، فإن هذه قضية معينة، ليست لفظاً عاماً، وليس فيها أن أحداً امتنع من بيع يجب عليه، أو عمل يجب عليه، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل)[الفتاوى:28/95]. وتلاحظ في هذا المعالجة التي يستعرضها ابن تيمية أنه يشير للأحوال التي يجوز فيها التسعير وأنها لم تقع في سبب ورود الحديث، والأحوال عنده: الامتناع من بيع السلعة، أو المطالبة بأكثر من ثمن المثل. والخلاصة من هذه المعالجات الفقهية أن (التسعير للمصلحة الراجحة) مشروع إذا امتنع الباعة أو طالبوا بأكثر من ثمن المثل، وهو اختيار مشايخنا المعاصرين. قال الشيخ محمد بن ابراهيم –تغمده الله برحماته- (التسعير جائز بشرطين: أحدهما: أن يكون التسعير فيما حاجته عامة لجميع الناس. والثاني: ألا يكون سبب الغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب)[فتاواه:7/71]. ومقصود الشيخ بقلة العرض أي قلة المعروض من أصله، لا حالة قلة العرض بسبب امتناع الملاك، كما يوضحه كلامه في نفس الموضع، وناقش الشيخ في نفس الموضع التسعير على أجور العقار بناءً على الشرطين الذين ذكرهما. وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز: (إذا تواطأ الباعة -مثلاً- من تجار ونحوهم، على رفع أسعار ما لديهم أثرةً منهم، فلولي الأمر تحديد سعر عادل للمبيعات مثلا، إقامة للعدل بين البائعين والمشترين، وبناء على القاعدة العامة، قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وإن لم يحصل تواطؤ منهم، وإنما ارتفع السعر بسبب كثرة الطلب وقلة العرض، دون احتيال، فليس لولي الأمر أن يحد السعر، بل يترك الرعية يرزق الله بعضهم من بعض، وعلى هذا فلا يجوز للتجار أن يرفعوا السعر زيادة عن المعتاد)[اللجنة الدائمة، مج1،ص 13/185]. وقال الشيخ ابن عثيمين : (التسعير ينقسم إلى قسمين: 1 قسم يلجأ إليه ولاة الأمور لظلم الناس واحتكارهم وهذا لا بأس به لأنه من السياسة الحسنة. 2 أما إذا كان ارتفاع الأسعار ليس ناجماً عن ظلم، بل هو من الله عز وجل، إما لقلة الشيء أو لسبب من الأسباب التي تؤثر في الاقتصاد العام؛ فإن هذا لا يحل التسعير فيه، لأن هذا ليس إزالة ظلم هذا الشخص الذي رفع السعر، فإن الأمور بيد الله عز وجل)[فتاوى إسلامية:2/348]. ومع اختلاف بعض التفصيلات؛ فإن الجمهور على أنه في حالة الضرر يجوز التسعير بثمن المثل، وهو الثمن العادل. حسناً .. ما مضى هو في تقرير شرعية التسعير للمصلحة الراجحة، فما حكم (التسعير العقاري)؟ أي التسعير على أمتار الأراضي؟ وهو الجانب التطبيقي للمسألة. الحقيقة أن الفتوى في هذه المسألة مبني على تقرير أهل الخبرة العقارية عن مدى جدوى التسعير العقاري في رفع الضرر الإسكاني عن الناس؟ والواقع أن أهل الخبرة العقارية مختلفون في مدى جدوى التسعير العقاري؛ فبعضهم يرى أن تسعير العقار في النطاق العمراني سيكبح جموح الأسعار، ويوفر الأرض لطالب البناء بسعر معقول. وبعضهم يرى أن التسعير من أخطر الأدوات التي تضر بالاقتصاد، وأنه قد يدفع إلى تمسك الملاك بعقاراتهم زمناً طويلاً في انتظار زوال حقبة التسعير، أو يدفع للمحاباة، فإذا كان السعر ثابتاً وليس هو المؤثر، فستظهر المؤثرات الثانوية، فيصبح المالك يبيع العقار لقريب أو صديق أو ذي مصلحة، لأن السعر ثابت فدفعه لمن ينتفع بقرابته أو مصلحته أولى، كما يدفع التسعير إلى ظهور أسواق عقارية خفية (سوداء) يتم فيها البيع بأعلى من السعر الرسمي بحيث يصبح للأرض سعر رسمي (اسمي) وسعر فعلي (سوقي)، فالسعر الفعلي هو الذي يتم التبادل على أساسه في الواقع، والسعر الاسمي على الورق فقط. والملاحظ فعلاً أن الفكر الاقتصادي الحديث شديد النفور من آلية التسعير، ويدفع باتجاه تقييد تدخل الدولة قدر المستطاع، وهي حساسية مرت بتطورات تاريخية (التجاريين-الكلاسيكيين-الكينزية-مابعد الكينزية) وليس هذا محل توضيحها، وإنما المهم أن التسعير عملية غير محبذة في الفكر الاقتصادي الحديث، حتى أن النوبلي "ميلتون فريدمان" (ت2006م) والذي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976م، يقول في كلمة طريفة متداولة: (نحن الاقتصاديون لا نعرف الكثير، ولكننا نعرف كيف يمكن خلق العجز، على سبيل المثال: إذا أردت أن تخلق عجزاً في محصول الطماطم، فمرر فقط قانوناً يمنع بائع التجزئة من أن يبيع رطل الطماطم بأكثر من "سِنتين"، وستجد فوراً عجزاً في محصول الطماطم)[LAT,1977]. وملتون فريدمان ليس شخصية عادية في علم الاقتصاد، بل يعتبره بعض مؤرخي الفكر الاقتصادي "الشخصية الأكثر نفوذاً في النصف الثاني من القرن العشرين" (جالبريث:ص300). على أية حال .. ليس لي وجهة نظر شخصية في مسألة جدوى التسعير العقاري لحل أزمة الإسكان، فهذه متروكة لأهل الخبرة العقارية، وغاية ما يمكن أن يصله البحث الفقهي في هذه المسألة هو تقرير مشروعية التسعير العقاري من حيث الأصل، فإذا قرر أهل الخبرة رجحان المصلحة في ذلك ساغ إصدار القرار الرسمي. د-الفتوى الرابعة: فتوى حظر الاحتكار العقاري: اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم الاحتكار لقوله –صلى الله عليه وسلم- (من احتكر فهو خاطئ)[مسلم:4206]. والخاطئ هو المذنب كما قال الله (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ)[يوسف:97]، وقد يستعمل هذا الوصف في الذنوب الكبيرة كما قال الله (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)[القصص:8]. وجاءت في تحريم الاحتكار والوعيد عليه أحاديث أخرى في السنن وغيرها، وقد جمعها الهيتمي في كتابه عن الكبائر، في الكبيرة رقم (188). وإنما اختلفوا في (نطاق الاحتكار) هل المحرم فقط هو احتكار القوت؟ أم عام في كل مايضر الناس؟ فذهب ابو حنيفة والشافعية والحنابلة إلى أن الاحتكار خاص بالقوت أساساً، مع بعض الاختلاف بينهم في أمور تفصيلية أخرى، وحجة الجمهور أن النصوص الواردة في تحريم الاحتكار أكثرها مقيد "بالطعام" ولأن سعيد بن المسيب إمام التابعين راوي حديث الاحتكار كان يرى جواز الاحتكار في غير القوت. وأما من يرى تحريم الاحتكار عاماً في كل ما فيه ضرر على الناس فمن أجلّ من يرى ذلك إمام مدرسة الحجاز الإمام مالك رحمه الله حيث جاء في المدونة: (وسمعت مالكاً يقول: الحُكرة في كل شيء في السوق، من الطعام والكتاب والزيت وجميع الأشياء، وكل ما يضر بالسوق)[المدونة:3/313]. وذهب إلى ذلك أيضاً ابو يوسف من الحنفية، حيث يقول الكاساني: (الاحتكار يجري في كل ما يضر بالعامة عند أبي يوسف، قوتاً كان أو لا)[البدائع:5/129]. وممن يرى عموم الاحتكار في كل ما يضر بالناس الإمام ابن تيمية، وأنه ليس محصوراً في الأقوات، حيث يقول: (كل ما اضطر الناس إليه: من لباس وسلاح وغير ذلك مما يستغني عنه صاحبه فإنه يجب بذله بثمن المثل..، ولهذا نهى الشارع عن الاحتكار الذي يضر الناس في قوله صلى الله عليه وسلم "لا يحتكر إلا خاطئ" رواه مسلم، والمحتكر مشتر متجر؛ لكن لما كان يشتري ما يضر الناس ولا يحتاج إليه؛ حرم عليه، والبيع والشراء في الأصل جائزان غير واجبين؛ لكن لحاجة الناس يجب البيع تارة ويحرم الشراء أخرى)[الفتاوى:29/192]. وقال ابن تيمية أيضاً: (ومثل ذلك الاحتكار لما يحتاج الناس إليه)[الفتاوى:28/75]. وقد ذكر ابن القيم أمثلة في سياق حديثه عن تحريم الاحتكار تتجاوز نطاق القوت، فذكر: الطعام، والسلاح، والمنافع: الحيوان، والقدر، والفأس[الطرق الحكمية:205]. ومن اطلع على نصوص ابن تيمية في التسعير، وهو إجبار على البيع بثمن المثل في عامة السلع التي يتضرر الناس بها، علم أنه يرى تحريم الاحتكار في عامة السلع محل الاضطرار من باب أولى، فالاحتكار ليس فيه إلا منع الإمساك، بخلاف التسعير الذي فيه منع الإمساك وزيادة، والقدر الزائد هو تحديد الثمن، ولذلك من العجيب حقاً أن تجد بعض المتخصصين في الفقه يرى مشروعية التسعير وأنه شامل لكل السلع، ولكنه يرى منع الاحتكار محصوراً في الأقوات! هذا في ظني فيه قدر من التناقض لا يستطيع التخلص منه إلا بحصر التسعير في الأقوات أو تعميم منع الاحتكار لبقية السلع. وعلى أية حال .. من قال أن الاحتكار (بلفظه) مخصوص بالأقوات، ولكن يعدى الحكم إلى نظيره من السلع بجامع الضرر والحاجة العامة، فهذا لا إشكال فيه، وأما من قال أن الاحتكار (بلفظه) مخصوص بالأقوات، ولا يعدى الحكم إلى نظيره من السلع التي يتضرر الناس بها فهذا فيه إشكال، لأن كثيراً من الفقهاء أجازوا التسعير للحاجة العامة، والتسعير منع للاحتكار وزيادة. والخلاصة أن احتكار الأراضي التي يحتاجها الناس، أو التواطؤ على الإمساك عن بيعها بما يضر الناس؛ هذا محرم داخل في تحريم الاحتكار، إلا لمن كان له غرض شرعي صحيح، كالتخطيط لمسكن أو استراحة أو مشروع تجاري أو يريدها لحفظ ماله ونحو ذلك. تبقى الإشارة فقط إلى ما يذكره عدد من المختصين العقاريين من أن عمليات البيع في سوق العقار لم تتوقف، فليس الاحتكار هو المهيمن أصلاً، بل المضاربات اليوم هي سيدة المشهد! وهذا يعني أن أي فتوى أو قرار حول منع الاحتكار لن تحل المشكلة كما يرى هذا الفريق، بالإضافة إلى أنه قد يتغلب كبار ملاك العقار على أي قرار بمنع الاحتكار عبر عقود (البيع الصوري) والتي تظهر تداول الملكيات، وتبطن احتكارها. -الإسكان .. يحتاج إدارة لا فتاوى!: الحقيقة أن الأمر الذي توصلت إليه بعد دراسة وتحليل المخارج الفقهية المقترحة لحل أزمة الإسكان أنها كلها للأسف لا تلاقي جوهر المشكلة، وإنما بكل اختصار مشكلة الإسكان تحتاج (كفاءة إدارية) و (قرار سياسي صارم) هذه هي الخلاصة بكل اختصار، وقد سبق أن شرحت وجهة نظري في هذا المفهوم في مقالة سابقة بعنوان (الإصلاح في السعودية ليس مسألة فقهية) وهي منشورة على الشبكة لمن كان يعنيه الأمر. فإذا تأملت ملف الإسكان وجدته مكبل بسلاسل إذا تتبعت حلقاتها وصلت أخيراً إلى خلل إداري، وسأضرب لذلك بعض الأمثلة: أول وأهم كارثة في ملف الإسكان هو المنح والإقطاعات غير العادلة، وقد شرحت وجهة نظري حول هذه المشكلة الأليمة في فقرة مطولة بعنوان (العدل في الإقطاع) وهي منشورة على الشبكة لمن كان معنياً بالموضوع. ومن المشكلات تحول قطاع العقار إلى بورصة مضاربة بسبب تخلف الفرص الاستثمارية، حتى أن عدداً من شركات التطوير العقاري هربت إلى المضاربة وغيرت خططها التطويرية لما صارت المضاربة أكثر جدوى لها، فباعت بعض أراضيها، وذهبت تبحث عن أراضٍ أخرى بعدما استغرق العمل في الأرض الأولى سنوات. وقد أصبح جزء كبير من التطوير العقاري مرتبط بالأفراد، وهم المجموعات الصغيرة التي تعمل بنظام شركات المحاصة غير المسجلة. كما أن الجسر الذي يوصل الأفراد إلى المساكن وهي شركات التطوير العقاري لم تلاقِ الدعم القانوني والإداري الكافي، فتعقيد وتطويل الإجراءات البيروقراطية ينتج كلفة إضافية باهضة يتحملها المستهلك النهائي. كما أن محدودية قنوات تمويل شركات التطوير، وتحول كثير من البنوك من تمويل شركات التطوير إلى تمويل الأفراد لتوزيع المخاطر، أدى لضعف أداء هذه الشركات. كما أن غياب الأرضية المعلوماتية الدقيقة، حتى أننا لا نعرف بالضبط حجم الأراضي البيضاء الخارجة عن ملكية المرافق والأفراد. وتتعزز المشكلة المعلوماتية بالغياب الكلي لنظم التوثيق العقاري (الشخصي والعيني كلاهما) واعتماد الأمور على مسابقة الإثبات بأية قصاصات قديمة! مع ملاحظة أن نظام التسجيل العيني للعقار صدر في 1423ه ولكنه لا يزال رقماً من أرقام المراسيم لا غير، ولا تزال الملكيات تثبت عندنا بالطرق البدائية. إضافة إلى أنه في هذه البيئة وظروفها ومعطياتها فقد تكون فكرة الرهون العقارية التي يراد لها أن تكون وسيلة تمويل للتطوير، قد تكون –أيضاً- وسيلة تمويل للمضاربة، فتتضاعف المشكلة! كما أن استمرار مهيجات الهجرة السنوية إلى المدن الكبرى –الرياض خصوصاً- سيجعل الطلب يتزايد ولن تنحل المشكلة بأي كمية عرض صغيرة. كم كنت مندهشاً وأنا أرى تصريحات رسمية لجهات حكومية مختصة أننا لم نجد أراضٍ لنقيم مشروعات سكنية! وهل هذه وظيفتك؟! وهل يمكن لهذه المؤسسات الحكومية البيروقراطية أن تدير مثل هذه المشروعات أصلاً؟ لماذا لا يتم خلق سوق للتطوير العقاري وتعزيزه ودعمه قانونياً وتمويلياً؟! بهذه الصورة ستنشأ الوحدات التي تلبي الطلب، وستنخفض أسعار العقار قطعاً. كل الذي أخشاه في هذا الملف أن يتم امتصاص حماس الناس لحلول غير مجدية كما يرى بعض المختصين، كالرسوم أو التسعير أو منع الاحتكار، بينما السؤال الإسكاني أعمق وأعقد بكثير بكثير من هذه التصورات. في عالم اليوم، وفي التجارب التنموية المعاصرة، نجد نماذج كثيرة لمشكلات الإسكان، لكننا لم نلاحظ حلها عن طريق الوسائل (الرسوم، التسعير، منع الاحتكار) وإنما لاحظنا وسائل مختلفة قانونية وتمويلية ومشروعات الخ، فهل مشكلاتنا التنموية استثناء؟! ولماذا تعالج الدول المعاصرة مشكلاتها بالإدارة المبدعة ونحلها نحن بالفتاوى؟! مشكلة الإسكان والعقار لا يصح بتاتاً أن تعلق على (فتوى)، وقد رأيت من مبالغات البعض في تعليق الملف بفتوى، وأن الخطاب الشرعي لو تبنى الفتوى الفلانية لانحلت الأزمة، ونحو هذه الأفكار الهوائية الساذجة، وكأن فتوى ستحل تعقيدات أزمة الإسكان، حسناً يا أخي الكريم، هذا ابن تيمية واللجنة الدائمة برئاسة ابن باز وابن عثيمين تضمنت فتاواهم مشروعية التسعير ومنع الاحتكار ووجوب الزكاة على العقارات التجارية كل سنة، ومع ذلك لم تنحل الأزمة؟! ومن المهم التنبه إلى أننا لو أخذنا بأشد الأقوال الفقهية على تجار العقار في هذه المسائل (التسعير والرسوم ومنع الاحتكار) فبكل بساطة سيأخذون هم بالأقوال الفقهية الأخرى، وسيجدون من يفتيهم، ولن تنحل الأزمة! وكمثال على ذذلك: افترض أنهم أخذوا بالقول الفقهي الذي يحصر الاحتكار المحرم في الأقوات ويخرج العقار منها، فماذا سنصنع؟! وهي مسألة اجتهادية. تأمل معي هذا المثال: تلاحظ أن شريحة عامة الناس، وهم أكثر احتراماً للفتوى من رجال الأعمال، ولدينا سجلات من فتاوى تحريم التدخين والمعازف وحلق اللحى والأفلام والدش الخ ومع ذلك كله لا زال الكثيرون يمارسونها، هل هذا يعني أن الفتوى لا قيمة لها؟ لا، طبعاً، ولكن يجب إدارك حدود الإمكانيات الاجتماعية للفتوى بشكل عقلاني وموضوعي، فإذا أدركنا بالضبط إمكانيات الفتوى اجتماعياً علمنا جيداً سذاجة الرأي الذي يربط "أزمة الإسكان" بوجود فتوى، هي موجودة أصلاً، وموجود نقيضها، ولن يختفيا كلاهما قطعاً. كما أنني أرسل رسالةً لإخواني من المتخصصين في الفقه الإسلامي، أن لا يندفعوا في تقرير أحكام شرعية تحتاج لتقرير أهل الخبرة، فأهل الخبرة هم المرجع في ذلك، فيقرر طالب العلم القواعد الشرعية، وأما تطبيقها على مسائل التنمية فيجب أن يشترك فيها الخبراء، وفي هذا السلوك حفظ للشريعة وصيانة من ابتذالها في تطبيق القواعد على الوقائع الاجتهادية، التي قد يتبين خطؤها. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه. ربيع الأول 1433ه