كل من يزور ليبيا يستغرب أن المواطن الليبي كان يعيش على حد الكفاف رغم أن هذا البلد غني بنفطه وعدد سكانه قليل مقارنة بحجم دخله .. في نوفمبر 2009 كنت في طرابلس الغرب، وهي مدينة لا تضاهى في جمالها، وقد ذهبت بدعوة من جامعة الفاتح ومن الصديق الدكتور سليمان فورتيه (الناشط السياسي في المجلس الانتقالي) وقد كان الدكتور فورتيه قبل ذلك أستاذا في قسم العمارة بجامعة الدمام قبل أن يعود إلى ليبيا قبل عدة سنوات. أذكر أنني كنت أتحدث مع الدكتور سليمان عن مصراتة مسقط رأسه وكيف ترك ليبيا في وقت مبكر نتيجة لخلاف سياسي بين اسرته وبين معمر القذافي مثل الكثير من الأسر الليبية التي عانت من الشتات في السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات قبل أن يعتدل المناخ السياسي في ليبيا في العقد الأول من الألفية الثالثة. لقد كانت مصراتة مدينة العمل السياسي في ليبيا وهي مفتاح العاصمة طرابلس، (ولعل هذا يبرر حرص القذافي على استعادة هذه المدينة فقد حاربها بضراوة ولم يفلح في استعادتها). في طرابلس كل شيء كان هادئا ولم أتخيل مطلقا أن تثور هذه المدينة في يوم، فقد كان الناس يعيشون وكأن نظام القذافي سيبقى للأبد، لا شيء كان يدعو للتفكير أصلا في التغيير. بالنسبة لي لاحظت أن الإنسان الليبي كانت تكسو ملامحه مسحة حزن لا تلاحظها إلا عندما تراقب وجوه الناس التي كانت فاقدة للأمل في المستقبل رغم الانفتاح الاقتصادي الذي كان بدأه سيف الاسلام القذافي، فقد كان هناك انفتاح "وهمي" يستفيد منه بعض الناس بينما لا تستفيد الغالبية العظمى من المواطنين الليبيين أي شيء. سوف يستغرب كل من يزور ليبيا أن المواطن الليبي كان يعيش على حد الكفاف رغم أن هذا البلد غني بنفطه وعدد سكانه قليل مقارنة بحجم دخله. كما أنه سيصدم من أن ليبيا بلد بلا اقتصاد وبلا مؤسسات وأنها عبارة عن تجمعات إدارية غير مفهومة وبمصطلحات إدارية أكثر غرابة. فعندما تقرأ إحدى الصحف الليبية المحلية سوف تفاجأ بكلمات غريبة منتقاة من الكتاب الأخضر (أو النظرية الثالثة) تنظم العمل الاداري والاجتماعي وبتقويم زمني مخالف لكل التقاويم التي نعرفها. بلد متفردة في كل شيء إلا في النمو والتطور والازدهار الاقتصادي، والحريات الفردية. فقد شعرت بأن كل ليبي يخاف من كل الليبيين رغم ان ليبيا بلد نشأ أهلها على النجدة ومساعدة الآخرين ورغم أنها بلد تكتظ بالمثقفين وبالحاصلين على الشهادات العليا من كل جامعات العالم المعروفة. لقد كان نظام معمر القذافي عاملا مفككا لهذا البلد العتيد الذي لا تشعر فيه بغربة عندما تندمج مع أهله الطيبين لكنك تظل تشعر بالخوف لأنه بلد بلا مؤسسات وبلا قانون فالنظام هو العقيد فقط وما يراه القذافي هو الطريق الصحيح الذي لا يقبل اي جدال. عندما بدأت حركة التصحيح في بنغازي في 17 فبراير صرت أتخيل ما يمكن أن يحدث في ليبيا وهل يمكن أن يتخلى القذافي عن ملكيته لهذا البلد، فقد كان العقيد يرى أن ليبيا ومن يعيش عليها ملك خاص له ولأولاده يفعل بها ما يشاء ومن يعترض إما أن يقتل أو ينفى في الأرض. هذه القاعدة التي استمرت أكثر من أربعة عقود جعلتني اشعر ببعض الخوف، فهذا الرجل غير مأمون الجانب ولا يمكن أن يفضل ليبيا على نفسه ولن يتخلى عن السلطة المطلقة وينزل عند إرادة أبناء ليبيا هكذا ودون أي ثمن أو مقاومة، لكن الثورة بدأت ويبدو أنها لن تقف عند حد. وعندما سمعت خطاب سيف الاسلام الأول شعرت بخيبة الأمل، فإذا كان هذا الشبل الوديع فما بالكم بذاك الأسد المفترس، وهو ما حدث فعلا عندما خرج علينا القذافي بخطابه المشهور الذي وصم فيه الليبيين بأنهم مهلوسون وبأنهم جرذان. صرت أفكر في طرابلس الهادئة إلا من تجمعات الساحة الخضراء (ساحة الشهداء) فقد كانت لي صولات وجولات في تلك الساحة التي تجمع طرابلس القديمة بطرابلس (الإيطالية) وتشكل مفصل هوية المدينة بلا منازع وكل من يزور طرابلس لابد أن يقف مندهشا من هذه الساحة التي تنفتح على البحر وتجمع كل تاريخ ليبيا، وعندما صرت اشاهد تجمعات المؤيدين للقذافي والحفلات الغنائية التي كان يحشدها النظام وكانت تعرضها القناة الليبية من تلك الساحة قلت في نفسي ان الأمر لن ينتهي بنفس السهولة التي انتهى بها الأمر في كل من تونس ومصر، فالعقيد متمسك بنفسه وليبيا بالنسبة له "مزرعة خاصة" ولن يتخلى عن مزرعته بسهولة، فهذا الرجل "الشموشوني" سوف يهدم المعبد على رأسه ورأس كل الليبيين. لا أكذبكم القول بأن ما حدث في ليبيا خلال الستة أشهر الفائتة أفقدني الثقة في الربيع العربي وجعلني اشعر بخيبة أمل كبيرة، فما كنت أتصور أن يتحول الخلاف في ليبيا إلى حرب أهلية وبدلا من متابعة الأخبار بشكل دائم في الشهرين الأولين من هذه السنة صرت لا أهتم بالاخبار بعد تعقد الوضع في ليبيا وحمام الدماء في سوريا وتشبث الرئيس اليمني بالسلطة. فقدت الأمل في أي ربيع عربي حقيقي، وكأنه قد عادت لي تلك الفكرة التي تقول إن العالم العربي يستعصي على التغيير وأن الطريق طويل حتى يصل هذا الجزء من العالم إلى مرحلة النضج، فهذه المرحلة بعيدة جدا. لكنني شعرت بالامل من جديد خلال الأيام القليلة الماضية فقد أحرز الثوار الليبيون نصرا مفاجئا على نظام العقيد، ورغم أن صاحبنا الدكتور سليمان كان يطمئننا بين فترة وأخرى ويؤكد أن القذافي زائل لا محالة إلا أن جمود الوضع في ليبيا أفقدنا الأمل حتى الأيام الأخيرة عندما سقطت طرابلس في يد الثوار وبشكل مفاجئ. أتخيل طرابلس في العهد الجديد، لابد أنها ستكون مدينة فرحة، ولابد أن مسحة الحزن التي كانت تكتسي وجوه ابنائها ستتحول إلى نظرة أمل، ولابد أنها ستستثمر جهود أبنائها وكفاءاتهم استثمارا يصنع مستقبلا مشرقا لليبيا كلها. لابد أن هذه المدينة الجميلة ستفتح ذراعيها للجميع بعد أن أغلقتها لأربعة عقود. وليتذكر العهد الجديد أن ليبيا بلد شاسع وأنه يفتقر للبنية التحتية وأن هناك عملا كبيرا وشاقا ينتظر أبناء هذا البلد الذي نراه يولد من جديد، فقد انعتق من نظام جائر بدد أكثر من 3 تريليونات دولار، هي دخل ليبيا في أربعة عقود، دون أن يبني بلدا يعتمد على نفسه، لم يستثمر ثروات ليبيا من أجل ابنائها بل من أجل طموحات ومغامرات سياسية أخذته للشرق والغرب وقذفت به إلى أدغال أفريقيا.