إيران 1- بدا من تعيين روبرت غيتس وزيراً للدفاع في الولاياتالمتحدة في نهاية مرحلة بوش، واستمراره في منصبه في فترة أوباما أن المؤسسة العسكرية الأمريكية ازدادت قرباً من عملية صنع القرار في قضايا الحرب والسلم، وبالتالي في السياسة الخارجية، وذلك تحت وطأة النتائج الوخيمة للحربين في العراق وأفغانستان . فعلى مستوى “القرص الصلب” للمؤسسة الذي لا يتغير مباشرة بالانتخابات، لوحظت عملياً بوادر مرحلة أوباما في نهاية مرحلة بوش . ووجد التفكير الجديد تعبيراته في لجنة بيكر/ هاميلتون (قدم التقرير للرئيس بوش يوم 6 كانون الأول/ ديسمبر 2006) . وأهمها الدعوة للحوار مع الدول المحيطة بالعراق، ومنها سوريا وإيران، وذلك للإسهام في استقرار العراق، ولتجاوز المأزق الأمريكي في هذا البلد الذي قوضت بنيانه السياسات العدوانية المغامرة، والدفع نحو تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، أي إعادة الحياة لما يسمى “عملية السلام” . ما يهمنا من هذه البوادر هو تعيين روبرت غيتس في منصب وزير الدفاع بدلاً عن رامسفيلد، وتجرّؤ المؤسسة العسكرية على الأخير، وضد مغامرات المحافظين الجدد . جاء غيتس ممثلاً عن المؤسسة العسكرية . وازداد قوةً ونفوذاً في فترة أوباما . وهو يجمع بوضوح بين مركّبيْ رفض تسلح إيران نووياً، ومحاولة تجنب الحرب الشاملة على إيران . هذا هو الموقف المؤسسي الحالي في الغرب بغض النظر عن ظواهر هستيرية، شبه طوني بلير، لم يعد يقبل بها سوى بعض الرسميين العرب . 2- ويعود رفض تسلح إيران بالسلاح النووي لأسباب متعلقة بتاريخ العلاقة الأمريكية - الإيرانية بعد الثورة الإسلامية . ومنها أسباب عقلانية وغير عقلانية حتى من وجهة نظرٍ أمريكية . وهي الأسباب نفسها التي تدعو نظاماً مهدداً باستمرار من قبل أمريكا، التي لم تعترف به حتى اليوم، للتفكير بامتلاكه لغرض الردع . لدينا هنا علاقات عداء متبادل، تشمل رغبة معلنة وعملاً على إسقاط النظام منذ الثورة من جهة، ورفض إيراني لقبول الهيمنة الأمريكية وتبعاتها في المنطقة من جهة ثانية . ولكن السبب المباشر الذي يُطرَح، هو الموقف “الإسرائيلي” من إيران حتى في مرحلة الإصلاحيين، في مقابل الموقف الإيراني من “إسرائيل” . وهو أيضاً الكامن خلف عدم تغيير طبيعة العلاقات الأمريكية - الإيرانية، حتى بعد أن تغيّر الكثير في البلدين . وهو “الدينامو” الذي لا يعرف الكلل، ويتحرك دولياً لفرض العقوبات، ولإبقاء الموضوع ملحا على جدول الأعمال، ولمنع تراجعه على سلم أولويات الدول الغربية . “إسرائيل” هي الدولة الأكثر حركة ونشاطاً في هذا الموضوع . وهي أيضا الأكثر حزماً ووضوحاً في طلب استخدام كافة الوسائل لمنع إيران من الوصول إلى القدرة على إنتاج سلاح نووي . وهي الطرف الذي يضغط لكي لا يسقط الخيار العسكري ولو نظرياً من لعبة الجذب والرخي مع طهران . واللوبي “الإسرائيلي” في الكونجرس وفي الإدارة هو من يقود الحملة على إيران . وتعيين دينس روس مستشاراً ومبعوثاً خاصاً لهذه الشؤون في البيت الأبيض هو تتويج لعمل هذا “اللوبي” . ولا يجد القادة الغربيون عموماً ما يبررون به معارضتهم للقدرة النووية الإيرانية سوى أمن “إسرائيل”، و”القلق من خطر يهدد وجودها” . وفي خضم المناقشات مع أوروبا حول العقوبات أحيت “إسرائيل” الذكرى ال61 لتحرير أوشفتس، أكثر مما أحيت الذكرى الستين . وعجّت أوروبا بممثليها الرسميين كخطباء في كل عاصمة، في استدعاء لعلاقة بين المحرقة النازية وموقف إيران من وجود “إسرائيل” . لا حدود طبعاً لما قد يقدم عليه الاستثمار السياسي . ولا مجال لحصر الجبهات التي تعمل فيها “إسرائيل” والولاياتالمتحدة للضغط على إيران ومنع تسلحها، ولغرض فرض العقوبات: الساحة الأوروبية، وروسيا، والصين، والهند، والمنطقة العربية، وحتى إفريقيا . لا يوجد مجال من الصناعة والبنوك وحتى وسائل الإعلام إلا ويُحَول إلى حلبة صدام لإضعاف إيران ومحاصرتها . حتى الجبهة اللبنانية - السورية أصبحت من وجهة النظر “الإسرائيلية” خاضعة لحسابات الجبهة الرئيسية ضد طهران . فالتهديد الوجودي برأي “الإسرائيليين” يأتي حالياً من هناك، والخطر الاستراتيجي هو سلاح الصواريخ وما يشغل بال “الإسرائيليين” بمنتهى الجدية هو: (أ) مداه (ب) دقته (ج) وزن رؤوسه المتفجرة وقوة انفجارها وطاقتها التدميرية (د) نوع الرؤوس التي يمكنه حملها . في الماضي شكلت الأنظمة القومية العربية في الستينات تهديداً حقيقياً . فقد تناقضت وجودياً مع “إسرائيل” . ووجهت ضدها الطاقات على الجبهات كافة . أما حالياً فالخطر المرئي هو النظام المعادي الذي يحمل إيديولوجية مقفلة ضد “إسرائيل” . ولا تظهر فيه فتحة واحدة للتسوية معها، ويمتلك سلاح الصواريخ . ويبقى العرب طبعاً، هم النقيض الوجودي على المدى البعيد، ولكنهم حالياً غير منّظمين، ولا يُعبر عنهم في أمة ذات سيادة، ولا حتى في دول منفردة تعبر عنها . لقد وصل الأمر بنتنياهو إلى إطلاق تسمية “العماليق الجدد” على إيران (هآرتس 18 فبراير/ شباط 2010) . و”العماليق” هم الشعب الذي أوعز “يَهْوَ” في التوراة “لقضاة شعب “إسرائيل”، “ بإبادته بشكل شامل في أول “جينوسايد” في التاريخ يصدر كأمر الهي، وينص حرفياً على إبادة النساء والأطفال وحتى البهائم . طبعاً هذا غير ممكن في عصرنا . ولكن الممكن كما يبدو هو أن يقوم رئيس وزراء علماني في دولة “ديمقراطية” باقتباس تسمية من هذا الإرث ضد أعدائه السياسيين، من دون أن تثور ثائرة العالم المتحضر الذي يحلو له أن يكره نجاد، بأدبائه وفنانيه ورواد مؤتمراته للحوار على أنواعها، ودون أن تكتب “نيويورك تايمز” حتى افتتاحية حول هذا الاستخدام الخطير والدموي للمخيلة الدينية الدموية . 3- أما رفض الحرب الشاملة مع إيران من قبل الولاياتالمتحدة فيعود لأسباب متعلقة بنتائج هذه الحرب الممكنة على منطقة الخليج، بما فيها العراق والمناطق الأخرى، والعجز كما يبدو عن حسابها بدقة . كما يعود لمدى قدرة الولاياتالمتحدة وحلفائها على تحمل نتائجها، ولعدم وجود حلفاء مشاركين في مثل هذه الحرب، وذلك رغم كثرة العاملين على الحض عليها والتدبير لها . كما يعود التردد لورطة السياسة الأمريكية العسكرية في العراق وأفغانستان، بفضل مقاومة هذه الشعوب، ولقدرة الجيش الأمريكي على مطّ نفسه على جبهات أخرى . هنا لا بد من القول إنه كان بإمكان الدول العربية الاعتداد بمنع مثل هذه الحرب، فمن دون موافقتها لا يمكن أن تجري . ولكن موافقتها وحدها لا تكفي لشن الحرب . وهي اختارت “ألا تكفي” بدل “أن تمنع” . وهذا هو المكان للتذكير أيضاً بأنه لو وقفت الدول العربية بشكل منظم ضد الحرب الأمريكية على العراق لمنعتها . وطبعاً هنالك أسباب سياسية مباشرة متعلقة بانتخاب أوباما سكي يضع حداً لحروب بدأها سابقُه . فهو لم ينتخب لكي يبدأ حروباً جديدة . ولا يُظهِرُ الرئيس الأمريكي علامات نجاح في إنجاز المهمة الأولى، فما بالك بالمبادرة لحروب جديدة لا تُعرَفُ عقباها كي تُحمَد أو تذم . وهنالك بذور لفكر سياسي أمريكي لم تجد لها أرضاً خصبة لتنمو في ظل سيطرة الرؤية “الإسرائيلية” على الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة . ولا يستبعد هذا الفكر توصل إيران لقدرات نووية . ولا يرى في ذلك نهاية الدنيا . فإيران تفوق باكستان تنظيماً ومأسسة كدولة . وبموجب هذا الرأي لا بد من التوصل إلى تفاهمات شاملة معها . فقد طورت وتطور براغماتية وطنية بناءً على مصالح دولة متزايدة، وهي ترمي إلى ترجمة قوتها الاقتصادية والسياسية والديموغرافية والاستراتيجية الصاعدة إلى مكانة دولية وإقليمية . وهي قوة لا فضل فيها لأحد إذ بنيت في ظل الحصار . ومن خرق الحصار لم يخرقه بلا مقابل، بل بالدفع عداً ونقداً (روسيا) أو بأسعار نفط مخفضة (الصين)، أو لفوائد تجارية ومالية وعقارية لا حد لها . وسوف نعود إلى هذا الموضوع في سياق آخر لاحقاً . ولذلك فما المانع، من وجهة النظر هذه، من احتواء إيران في إطار الاعتراف بمكانتها، وذلك مقابل قبول إيران بشروط تتجاوب من خلالها ليس مع أمريكا فقط، بل مع جزء كبير من الرأي العام الإيراني، الذي يطالبها بإيلاء اهتمامها لمواطنيها ولمصالح الدولة الوطنية أولاً . (إيران أولاً، إذا صح التعبير) . لقد قطعت إيران شوطاً في هذا الاتجاه . ويتجلى ذلك بشكل خاص في علاقتها مع الدول العربية المحيطة ومحاولتها المستمرة تحويل الانتماء الطائفي إلى ولاء سياسي لها، أي الولاء ل”إيران أولاً” . ولكن ما زالت الإيديولوجية الإسلامية المذهبية التي يقوم عليها النظام تحد من انطلاق النزعة الدولتية البراغماتية بحرية، فهي تؤكد ليس على ما يفرق إيران عما حولها فقط، بل أيضاً على ما يجمعها بما حولها، وهو الإسلام طبعا، والعداء ل”إسرائيل” . 4- في ظل موقفٍ يتراوح بين رفض القدرة النووية الإيرانية من جهة، وتجنب الحرب الشاملة على هذه الدولة من جهة أخرى، يبقى هامش مناورة لإيران، وهامش ضغط ومواجهة للولايات المتحدة و”إسرائيل” . ويتراوح مجال عمل الولاياتالمتحدة و”إسرائيل” من الحث على فرض عقوبات اقتصادية، مالية وتجارية ومتعلقة بالنقل والمواصلات، وحتى الغارات المحسوبة ضد مواقع محددة، كما فعلت “إسرائيل” ضد العراق، “ووقائياً” ضد سوريا (موقع دير الزور) . وبينهما العمل الاستخباري، بما فيه دعم مناوشات مسلحة في مناطق حدودية إيرانية . وقد أضافت الولاياتالمتحدة إلى أجندتها مؤخراً دعم المعارضة الإيرانيةالجديدة . ففي الماضي تركز الدعم على المعارضة التقليدية من أنصار النظام القديم . ولا يمكن للولايات المتحدة تجاهل الأفق الذي فتحته المعارضة الجديدة الملتفة حول رفض نهج نجاد ونتائج انتخابات العام الماضي . وهي معارضة أعمق وأشمل وأوْزن من المعارضة التقليدية . ومن هنا فسوف تحظى بدعم غير تقليدي أيضاً، مباشر وغير مباشر . ويتراوح الهامش الإيراني بين تجنب العقوبات لأطول فترة ممكنة، وطرح المبادرات في فترات تقدّم التخصيب تحديداً، والحفاظ على العلاقات مع دول تهمها مصالحها الاقتصادية اكثر مما يهمها رضا الولاياتالمتحدة مثل الصين وروسيا . فحتى دولة مثل الهند دخلت التحالف الأمريكي “الإسرائيلي” (بفضل العرب وباكستان إلى حد بعيد) ويهمها اعتبارات هذا التحالف الاستراتيجية أكثر مما تهم الصين تجد أسباباً استراتيجية لعدم التفريط بالعلاقة مع إيران مثل: الالتقاء في الموقف من باكستان في أفغانسان وغيرها . . فضلاً عن أن الهند تكرر ما يقترب من 40% من البنزين المستورد إلى إيران . وقطع توريد النفط المكرر لإيران هو أبعد خطوة تفكر فيها الولاياتالمتحدة على مستوى “العقوبات الفعالة” . وهي تهدد بأن تستخدمها في النهاية . وعندها سوف تضطر للضغط ليس على الصين فقط بل على الهند أيضاً، ولكن قدرتها على الضغط على دولة مثل الهند تتآكل تدريجياً مع تراجعها أمام طالبان، التي سوف تنتصر في النهاية برأينا . كما تراجعت قدرة الضغط على الصين مع الأزمة المالية العالمية . 5- حين نحسب حدود المواجهة في الحقل المفتوح الممكن بين تجنب الحرب الشاملة من جهة، ورفض القدرات النووية الإيرانية من جهة أخرى، يُستَحسَن حذف تلك الأدوات التي يمكن أن تتحول إلى حرب شاملة مع أنها لا تحمل هذه الصفة . فشن الغارات ممكن نظرياً كحد المواجهة الأقصى، مع العلم أن أحد الطرفين قد يحوله إلى مواجهة شاملة، لأنه يعني الحرب بالنسبة له . ومن يريد أن يتجنب الحرب الشاملة، يمكن تهديده بالحرب الشاملة أيضاً . وهو نموذج تهدد به سوريا وحزب الله حالياً لتجنب عدوان “إسرائيلي” . فالغارات على مواقع معينة في إيران قد تتحول إلى حرب شاملة . هذا يتوقف على نوع الرد الإيراني . وهنالك أيضاً سؤال هل تعتبر إيران منع الإمدادات الواردة اليها مثل النفط المكرر سبباً لمناوشات ناجمة عن قطع طريقها في مضيق هرمز . وهل تقبل الولاياتالمتحدة بالتحدي من دون أن ترد عليه . . ألا تتدهور في مثل هذه الحالة بعض أنواع العقوبات إلى حرب؟ 6- بقي أن تلجأ الولاياتالمتحدة تدريجياً إلى تصعيد العقوبات بما يمكنها ضمان تجاوب الدول ذات الشأن، والبناء على تطور المعارضة الإيرانية على المدى البعيد . وهي قضية إيران الاساسية مستقبلاً . وسوف يكون عليها التعامل بجدية أكبر مع جدلية المواطنة والإيديولوجية الرسمية للدولة . وهي مرحلة مر فيها الاتحاد السوفييتي ودول شرق أوروبا، كما مرت بها الصين . وليس هنا المكان لتفصيل هذه المعارك، ولكن معسكر الحقوق المدنية المحق في مطالبه لا يلبث أن يرى السياسة الخارجية والإيديولوجية كمسؤول عن مآسيه، من دون وجود علاقة بين الأمرين، سوى استخدام النظام للإيديولوجية والتضامن مع المظلومين كتبرير لانتهاك حقوق المواطن وتقييد الحريات والفساد المالي للطبقات الحاكمة . قلنا كتبرير . ولم يكن من ذنب للمظلومين أو التضامن معهم في أي مكان في العالم بسوء إدارة الكولخوزات ولا بسياسة القمع الداخلية، ولا بفشل الخطط الخمسية . وإضافة لميل الناس إلى اتهام الإيديولوجية التي كانت قد فرغت من مضمونها تماماً في زمن السقوط . ولسهولة التحريض بمثل هذه الشعارات ضد الإيديولوجية، فإن المعسكر الآخر يتهم الإيديولوجية في حملاته الإعلامية، وفي تسويقه لذاته . وكذلك يفعل بعض المعينين ذاتياً كناطقين باسم المظلومين، في مديحهم للسياسات الداخلية في الدول الشمولية . إيران تواجه حالياً جدلية من هذا النوع، لا بد من إدراكها لكي تصمد أمام الضغوط . غزة/ فسطين 7- هل يمكن أن تتطور الحرب انطلاقاً من جبهات أخرى مثل لبنان أو من غزة؟ لقد ثبت أن الحرب على غزة في إطار الحدود المصرية - “الإسرائيلية” لا تتطور إلى حرب شاملة . لأنه لا يوجد بتاتاً أي واقع لأمن قومي عربي مشترك يعتبر العدوان على غزة تهديداً له . لا يوجد خارج نطاق الإيديولوجية العروبية أمن قومي عربي . إنه ليس كائناً، بل هو ما يجب أن يكون . وربما هو ما كان في يوم من الأيام . ولتجنب نقاش جانبي لن نسجل اعتراضاً على أنه كان قائماً في مرحلة ما، ولكنه حالياً غير قائم . ومحاولة بعض القوميين العرب ممن خلّفتهم مرحلة الأنظمة القومية العربية أن يفسروا للنظام الحاكم في مصر أن مصلحته تكمن في اعتبار “إسرائيل” عدواً، (متجاهلين أنه في حالة اتفاق سلام، إن لم يكن أكثر، مع “إسرائيل”، وأنه يعرف أعداءه أفضل منهم) . وحديثهم عن الأمن القومي المشترك كأمر قائم، هو محاولات مثيرة للشفقة . فهي تعبر عن عجز فكري، كما تعبّر عن عدم قدرة على التحول إلى معارضة، لأنهم بدل معارضة سياسة النظام القائم يقدّمون له النصح والإرشاد لكي يدرك مصلحته “الحقيقية” التي لا يعرفها . 8- حاليا تعولُ “إسرائيل” على الجدار الفولاذي لإحكام الحصار فعلاً ومنع الأنفاق وإحداث تآكل في النظام القائم في غزة أو دفعه لقبول شروط مصر لغرض تأمين متطلبات الحياة . أو تحويل الحصار إلى سبب لتفجير تبادر اليه غزة، لكي لا يتحول الحصار الكامل بالجدار الجديد إلى روتين لا يمكنها تحمله . فحصار شعب بالكامل وتجويعه، كما تهدف “المنشآت الهندسية”، هو خطوة أشبه بالحرب . 9- وتسعى “إسرائيل” إلى تجديد العملية السياسة المسماة زوراً وبهتاناً عملية سلام . لأنها مهمة جداً لاقتصادها الوطني . فقد أثبت محافظ بنك “إسرائيل” الجديد أن 3% من مجمل الدخل القومي “الإسرائيلي” منوط بمجرد استمرارها . فهي ترفع نسبة الاستثمارات الداخلية والخارجية في “إسرائيل” . ولكن “عملية السلام” هي أيضاً أفضل بيئة لحشد المواقف الدولية ضد إيران والمقاومة وضد “محور التطرف” عموماً . 10- في هذه الأثناء تواصل “إسرائيل” التضييق على المقاومة الفلسطينية بالاغتيالات في الضفة وغزة . ومنذ نهاية الحرب على غزة قتلت “إسرائيل” أكثر من 170 فلسطينياً منهم عدد من المناضلين في القطاع، فضلاً عن الاغتيالات المستمرة في الضفة . أما اغتيال الشهيد محمد المبحوح في دبي فيحمل برأينا ثلاث رسائل مفكر فيها “إسرائيلياً” بشكل واع، أي أنها لا تعكس تحليل الكاتب هنا بقدر ما تعكس ما يفكر فيه “الاسرائيليون” فعلا: (أ) إن “إسرائيل” مؤسسة لا تنسى المطلوبين لها ولو بعد عقود . (ب) . إن المعركة ضد تهريب السلاح إلى غزة هي حرب . “وفي الحرب كما في الحرب” . (ج) إن “إسرائيل” غير ملتزمة باحترام سيادة دبي . في إطار الضغط على هذه الإمارة التي تشكل مخرجاً تجارياً ومالياً اساسياً لإيران يجعل أي حصار أمراً مستحيلاً . في الماضي خرقت “إسرائيل” حتى سيادة دولة تعتبر العلاقة معها استراتيجية مثل الأردن . وأجبرها الملك الراحل حسين على دفع ثمن لذلك . ولكنها لا تلتزم باحترام سيادة دول أخرى . وباعتقادي أنها قصدت في رسالة إلى دبي أن يجري الاغتيال بهذه الطريقة التظاهرية في دبي . لم يكن ذلك فشلاً تنظيمياً أو “لوجستياً” . الأمر المذهل هو الصمت العربي الرسمي إزاء تجاوز فظ وعدائي لسيادة دولة عربية، وذلك في مقابل الجدية التي تبديها شرطة دبي . أما الكلام الأوروبي فهو كلام سياسي في ظل الحرج من وجود الصور، وتعرف شرطة دبي إلى الجوازات، أما الأجهزة الأمنية الاوروبية فهي متفاهمة مع “إسرائيل” في “الحرب على الإرهاب” . 11- في ظل حالة اللاحرب الحالية سوف تستمر سياسة الاغتيالات بتواز مع الحصار لاستنزاف المقاومة الفلسطينية . ولكن لا دليل على نجاح نموذج رام الله والاخبار الصادرة من هناك بائسة بتعبير متواضع . والحالة في الضفة الغربية لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه من استمرار الاحتلال وحل القضايا بسياسات اقتصادية كما خطط نتنياهو . لبنان وسوريا 12- جرت العادة منذ فترة على اعتبار استعادة هيبة الردع عند الجيش “الإسرائيلي” سبباً ممكناً لحرب مقبلة ضد لبنان . وهذا وارد طبعاً . ولكنه ليس تبريراً كافياً لشن الحرب لا أمام العالم، ولا أمام المجتمع “الإسرائيلي” . يجب إيجاد سبب لشن الحرب، لكي تبرر استخدامها لاستعادة الردع . ولكن السؤال الأهم هو: إذا كان حزب الله كما ثبت في حرب تموز خصماً استراتيجياً وليس تكتيكياً (وإن لم يكن خطراً وجودياً كما ترى “إسرائيل” بحق أو بغير حق السلاح النووي الإيراني) فهل تصبر “إسرائيل” على أن يراكم هذا الخصم قوة أعتى؟ هنا تأتي الإجابة جزئياً من حزب الله، ومن أطراف “إسرائيلية” في الجيش . إذا كان حزب الله قد انتقل في برنامجه السياسي الأخير، وفي سلوكه وخطابه السياسي منذ حرب تموز، من برنامج تحرير فلسطين إلى إيديولوجية تحرير فلسطين، والتي لا تعني إلا عدم الاعتراف ب”إسرائيل” ورفض السلام معها وإذا انتقل من الهجمات على الحدود وعبرها إلى استراتيجية الدفاع عن لبنان فقط إذا هوجم، فلماذا تهاجمه “إسرائيل”؟ منذ حرب تموز انصاع الحزب عملياً للقرار 1701 في جزئه المتعلق بوقف النار . بهذا المعنى فإن حرب تموز نجحت في وقف عمليات المقاومة، وإن بثمن كبير جداً أذلّ “إسرائيل”، مع أنها فشلت في ضرب المقاومة . في المقابل يقول حزب الله إن العمليات في الأعوام الأخيرة قبل العدوان كانت متوقفة أصلاً، ما عدا الاختطاف لغرض تبادل الأسرى . ونحن لا نقبل هذا الادعاء فقد وقعت عدة اشتباكات حدودية، هذا عدا التلويح بالمقاومة في مناطق شبعا . ولكن هذا نقاش آخر . يعلن حزب الله عبر السجال مع أفرقاء لبنانيين أنه سوف يتجنب منح “إسرائيل” حججاً لكي تبدأ هي بالحرب (مع أنها ليست بحاجة إلى حجج كما يقول) . فما الداعي “الإسرائيلي” لشن الحرب عليه إذاً؟ الجبهة اللبنانية في طريقها أن تصبح أكثر شبهاً بالسورية . ولا يتناقض ذلك مع الاستفادة السورية من تجربة المقاومة اللبنانية الفذة في القتال، فالاقتراب نحو نقطة التشابه هو من الجهتين . والوضع السائد هناك هو توازن ردع وليس حرباً . لقد ضاق هامش المقاومة كما على الحدود السورية . وأصبح هناك إما حرباً أو لا حرباً، ولا مقاومة في الوسط . وبرأينا لم يحسم هذا النقاش في “إسرائيل”، بين قبول ميزان الردع الجيد وعدم شن الحرب وبين عدم السماح بتطوره وتفاقمه، وذلك بشن الحرب على لبنان . من زاوية النظر “الإسرائيلية” سوف تنتصر “إسرائيل” في مثل هذه الحرب مع سوريا أو لبنان . ولكن قدرة الطرف الآخر على رفع ثمن هذا الانتصار تزداد باستمرار . وهنا يسأل التوجه الأول: ليس السؤال هل يمكن ل “إسرائيل” تحمل هذا الثمن، بل السؤال هو لماذا تتحمله، ولماذا الحرب أصلاً؟ سبق أن أعلنت سوريا عن خيار السلام كخيار استراتيجي . (ولكنها مؤخراً تؤكد أن لا شركاء له في الجهة الأخرى) . وفي لبنان تشكل عملياً إجماع وطني يشمل حزب الله يتجنب الحرب مع “إسرائيل”، ويحولُ قوى المقاومة من مقاومة فاعلة بعمليات، ولو متفرقة، إلى قوة دفاع عن لبنان . يتطلب الأمر من وجهة النظر “الإسرائيلية” هذه أن تغيّر بالمقابل “إسرائيل” سياستها تجاه لبنان، وعليها إعادة النظر في استباحته بالغارات والاجتياحات، وغيرها . وحزب الله لا يعترف ب”إسرائيل”، ويعتبرها عدواً . والفرق بينه وبين سوريا أنه لن يبدأ معها لا تسوية ولا عملية سلام . . ولكنه لا يقوم بأعمال هدفها تحرير فلسطين، ولا عمليات مقاومة حتى في مناطق شبعا منذ حرب تموز . 13- لا شك في أن التصعيد الكلامي الأخير مهم . ولكنه مهم في سياق الانتقال إلى المرحلة الجديدة . حزب الله لا يقوم بعمليات مقاومة، ولكنه يغطي بالتهديد والتصعيد الكلامي (الجدي فكونه خطابياً لا يعني أنه غير جدي) عملية الانتقال من مقاومة وجود “إسرائيل”، أو حتى من المقاومة الفاعلة لاسترداد اراض لبنانية، إلى الاكتفاء باستراتيجية الدفاع عن لبنان . وهو الثمن كي يكون سلاح المقاومة مقبولا لبنانيا . من هنا التهديد بالرد على أية عمليات “إسرائيلية” بلهجة حادة ومبرّرة . فهي تردع العدوان . وترضي بنبرتها الحادة جداً والدفاعية جداً أجزاءً أوسع من الرأي العام اللبناني . وهو الرأي العام الذي أصبح يشغل الحزب أكثر من أي وقت مضى . لا ننسى أنه يهدد بالرد على أي عدوان “إسرائيلي”، ولا يتحدث عن إدارة حرب مستمرة مع “إسرائيل” تتخللها عمليات مقاومة وهدنة وغيرها . لقد تقدم الحزب خطوتين نحو قوى سياسية لبنانية، أكثر مما انسحب أمام “إسرائيل” . وفي الظرف الدولي الجديد تقدمت نحوه بخطوات قوى سياسية لبنانية كانت قد خاصمته أثناء الحرب ودعت قبلها إلى تجريده من سلاحه . 14- لقد كان باراك يدعو للعودة إلى عملية التسوية مع سوريا حين صرح بأن جمودها قد يؤدي إلى حرب . كان يهدد اليمين “الإسرائيلي” بنتائج الجمود، أي بالتدهور إلى حرب . وكان ليبرمان يرد عليه، وليس على سوريا، ولكن لتسمع سوريا . لقد أكد على غياب آفاق التسوية والمفاوضات، إلا بالشروط “الإسرائيلية” . ويتابع قائلاً: على من لا يعجبه الأمر ألا يهدد “إسرائيل” بالحرب، ففي مثل هذه الحرب “تخسر عائلة الأسد الحكم” . هو يدعي إذا أن حالة اللاتسوية واللاحرب ممكنة . ولا يوجد حل للصراع، وليتجرأ من يتجرأ على شن الحرب . هذا مختصر موقف ليبرمان . وهذا موقف فج يزعج كافة الدول العربية، المؤيدة والمعارضة للتسوية، ويزعج أوروبا بشكل خاص . ولذلك من السهل كره ليبرمان . فهو لا يحترم حتى العرب مؤيدي التسوية . هذا النقاش الدائر في “إسرائيل” حول ضرورة العودة للتفاوض وبدائلها بين وزير أمن ضعيف بلا حزب ووزير خارجية تتهدده ملفات فساد قد تدخله السجن، ظهر كأنه تهديد بالحرب . وكان الرد السوري عليه مفاجئاً لمن لم يفهم التغيّر في الخطاب السوري بعد . لقد كان الحزم السوري في الرد على ليبرمان مفيداً، عربياً ودولياً، وحتى على المستوى الداخلي “الإسرائيلي” . ومن التجربة كان الحزم وحده مجدياً لسوريا منذ محاولات كولن باول فرض شروط عليها بعد الحرب على العراق ،2003 مروراً بالانسحاب من لبنان تحت وطأة اغتيال الحريري، وحتى اليوم . أما التراجع والاستجداء فأدى ويؤدي إلى التعرض لضغوط أكبر . ولا شك في أن التصعيد في التهديد من عواقب أي هجوم “إسرائيلي”، يتغلب على التخويف المستمر بقوة “إسرائيل”، ويتجاوز قدرتها على الابتزاز . ويشكلُ أساساً لرفض الضغوط “الإسرائيلية” على العرب للتسليم بأية تسوية سياسية غير عادلة . ولكنه لا يشبه إطلاقاً الخطاب العربي السابق ضد “إسرائيل”، والذي كان مدفوعاً برفض وجودها، بما فيه الإعداد (الفاشل للأسف) لمحاربتها . لقد تغير الوضع إلى درجة أن منع الحرب يحتاج إلى لهجة صارمة وسلوك حازم، وإعداد أفضل . فالتصعيد الكلامي بمجمله، من قبل حزب الله وسوريا يأتي تحت عنوان تجنب الحرب وليس شن الحرب . ولكنه لا يتجنب الحرب بالاسترضاء، أو بقبول التسوية، بل بالتهديد من عواقب أي عدوان “إسرائيلي” قادم . هذه سياسة تعزز الصمود ضد فرض شروط سياسية في التسوية، ولكنها ليست سياسة مواجهة مع “إسرائيل” . يظهر ذلك في مثال التهديد بإزالة “إسرائيل” عن الوجود إذا شنت حرباً . فإذا كان من يهدد مقتنعاً بإزالة “إسرائيل” من الوجود، بل هذا محور إيديولوجيته السياسية، وإذا كان قادراً على إزالتها، فلماذا لا يزيلها؟ لماذا ينتظر أن تشن حرباً عليه؟ على المستمع إذاً أن يشكك إما بقدرته أو بإرادته . وطبعاً لا تشكيك في الرغبة الإيديولوجية عند حزب الله بزوال “إسرائيل”، أما الإرادة السياسية فتتأثر بالقدرة فعلاً، والظرف . حزب الله لا يستطيع إزالة “إسرائيل” حاليا، ولفترة طويلة قادمة على الأقل . وتوجهه نحو السياسة الداخلية اللبنانية لا يحافظ على السلاح فحسب، بل يضع القيود عليه، ويغيره، ويغير توقعات جمهوره منه . على كل حال من زاوية نظر أخرى سبق أن كتبنا أن تحرير فلسطين ليس مهمة المقاومة، لا حزب الله ولا حماس . فتحرير فلسطين هي مهمة الأمة كلها . يهدد حزب الله لأن لديه القدرة الفعلية على إيذاء “إسرائيل” بشكل جدي . وهو يقول ذلك ليس في سياق تهديدها بالحرب عليها، بل في سياق تهديدها بشن حرب على لبنان كله . هذه سياسة دفاعية من قبل الحزب، لا شك في ذلك . ف”إسرائيل” إن شنت الحرب هذه المرة لن تخرج إليها للتسلية، ولا لاستعادة الهيبة، بل لتجاوز فشل حرب تموز في القضاء على الحزب . أي ان الهدف سيكون شاملاً هو القضاء على الحزب قضاء مبرماً، وهذا يتطلب حرباً على لبنان كله . وبالتالي أي رد من قبل الحزب سيكون شاملاً . هذه حرب . وهل يمكن لسوريا أيضاً قبول فكرة القضاء على المقاومة اللبنانية، خلافا لمجرد الإغارة عليها أو عقابها؟ لا يمكنها حتى من ناحية مصلحة النظام الحاكم وقدرته على الصمود وحده بعدها أمام الشروط الأمريكية - “الاسرائيلية” . من هنا فالحرب القادمة على لبنان هي حرب على لبنان وسوريا . ولا يجوز أن يُستفرَد فيها بأحد . وهي حرب شاملة . وهذا ميزان ردع وتوازن رعب جديد، سوف يتضح خلال فترة قصيرة ما الممنوع وما المسموح في ظله: من إمكانية الانتقام للشهيد عماد مغنية (في ظل توازن الرعب الجديد) ولفرض الأعمال الانتقامية كإمكانية في ظل التوازن الجديد، وحتى آخر تفصيل . وطبعاً سوف تستمر محاولات اغتيال أيضاً ضد قادة المقاومة ومناضليها، وسوف تستمر “إسرائيل” بفعل كل ما يتاح في هذا التوازن الجديد .