شكل قطاع غزة في السنوات الأخيرة ولا يزال العقدة الأبرز في الصراع العربي - الإسرائيلي، وفي مسيرة التسوية أيضاً. صيف عام 2005 قرر آرييل شارون الانسحاب الأحادي من القطاع. كان رهان الاسرائيليين أن التخلص من القطاع يسهّل عليهم الانصراف إلى معالجة مشكلة الضفة الغربية، ويعفيهم من موجبات «خريطة الطريق»، أي ضرب المفاوضات. لكن الوقائع أثبتت العكس تماماً. ولم تمض سنتان حتى كانت «حماس» تمسك بكل القطاع. وتلى ذلك الحصار الصارم المضروب على غزة. وبعد سنتين أخريين كانت الحرب التي تعرضت لها المدينة... ثم الجريمة التي ارتكبتها البحرية الاسرائيلية، هذا العام، ضد «اسطول الحرية» والباخرة التركية «مرمرة». والأجواء المحيطة بالقطاع هذه الأيام، في ظل انسداد الأفق السياسي في المنطقة، خصوصاً ما يعترض المساعي الأميركية لإعادة تحريك التسوية، تذكّر بالتداعيات التي أدت إلى شن إسرائيل عدوانها على القطاع قبل سنتين. وعلى رغم أن الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني أبديا للأمم المتحدة حرصهما على التزام الهدوء، فلا شيء يحول دون أن تكون المنطقة مقبلة على حرب جديدة من غزة أيضاً. فلا إطلاق الصواريخ توقف. ولا قوات الاحتلال كفت اعتداءاتها، بل إن تصريحاتها المتوعدة والمهددة تملأ الأجواء. لم يحدث أن كانت الجبهة بمثل هذه السخونة منذ سنتين. إسرائيل تتهيأ. تقدمت بشكوى إلى مجلس الأمن، في محاولة لتسجيل موقف مسبق مما قد يحدث مستقبلاً. وردت حركة «حماس» بأنها ستشكو إلى الأممالمتحدة من هذا التصعيد والتهديد الاسرائيليين بمزيد من العدوان. ومصر أيضاً أدلت بدلوها محذرة من خطورة الوضع. وفي الذاكرة بعض ما عانته القاهرة من حملات أثناء الحرب الماضية على القطاع. وحذر نائب رئيس الحكومة الاسرائيلية دان مريدور «حماس» من أن تضطر إسرائيل إلى تنفيذ عملية عسكرية على غرار عملية «الرصاص المسبوك» التي شنتها على القطاع قبل سنتين، إذا تواصل إطلاق القذائف من القطاع. وهدد بالرد على أي عملية. وحمّل الحركة مسؤولية أي عمليات إطلاق صواريخ. وأوضح أن الحرب الأخيرة حققت الردع المطلوب، لكنها لم تنه حكم الحركة ولم تحقق إطلاق الجندي الأسير جلعاد شاليط. وليس هذا الفشل الوحيد. فشل الحصار في إضعاف «حماس». وكذلك فشلت الحرب على القطاع قبل سنتين. صحيح أنها ردعت الحركة وجعلتها تلتزم هدنة غير معلنة، لكن الصحيح أيضاً أن إطلاق الصواريخ لم يتوقف. بل إن قيادات عسكرية إسرائيلية عبرت عن مخاوفها من إطلاق صاروخ «كورنيت» على دبابة إسرائيلية، معتبرين أن هذا النوع من الصواريخ يخلّ بالتوازن. تماماً كما يحصل بين فينة وأخرى على جبهة جنوب لبنان. فكلما احتاج الوضع السياسي على مستوى المفاوضات أو غيرها، إلى شيء من الضجيج، يرتفع الصوت حيال تسلح «حزب الله» عبر سورية وإيران. إنها سياسة الحفاظ على قوة الردع المطلوبة، أو التذكير بها بين حين وآخر. وصحيح أن «حماس» جددت «التزامها» والفصائل الفلسطينية التهدئة، كما عبّر أحد قادتها محمود الزهار، مبرراً «اننا من واقع القوة وحجم التضحيات التي قدمناها نعلن في هذه المرحلة التزامنا التهدئة بيننا وبين الاحتلال». لكن الصحيح أيضاً أن رئيس المكتب السياسي للحركة كرر وجوب استمرار المقاومة، معتبراً أن «الخيار الحقيقي للشعب الفلسطيني هو المقاومة وليس المفاوضات». رسالة مشعل واضحة، إنها موجهة أولاً إلى «أبو مازن» وعنوانها أن الخيار الوحيد البديل من فشل المفاوضات هو العودة إلى المقاومة. بل هي الأساس لأي مصالحة لن تستقيم من دونها. ولا شك في أن «حماس» تحرجها مرحلة «اللامقاومة واللاتسوية»، تماماً كما هي حال «حزب الله». تفيدها فترة الهدوء هذه في إعادة بناء ترسانتها والإضافة إليها مزيداً من القذائف والصواريخ النوعية، وإعادة تنظيم قواتها بعد ما أصابها قبل سنتين. وتتحدث المصادر العسكرية الإسرائيلية عن أن قواتها لم تعد بالضعف الذي كانته أواخر عام 2008. وتشير بإسهاب إلى إعادة الحركة بناء مخزونها من الأسلحة القادرة هذه المرة على إلحاق الأذى بمواقع استراتيجية في الدولة العبرية، وهو ما لم يكن في حوزتها قبل سنتين. على رغم ذلك تبقى الحرب في القطاع خياراً متاحاً قد يوفر مخارج لأكثر من طرف معني بالصراع. إن الحرب على غزة تمنح رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو مزيداً من الوقت للهرب من إلحاح واشنطن على استئناف المفاوضات. فيما يدرك تماماً أن الحملة لتأليب العالم من أجل توجيه ضربة عسكرية قاصمة لإيران لم تنجح في دفع واشنطن إلى مثل هذا الخيار المحفوف بالمخاطر والباهظ الثمن والآثار السلبية على مستوى الإقليم. الجميع مقتنعون بأن الحل الديبلوماسي، مدعوماً بعقوبات واسعة - وتتوسع كل يوم - هو اقل الحلول كلفة. في غياب خيار الحرب على إيران، قد يخفف خيار الحرب على غزة، بحجة «الصواريخ الإيرانية»، وفي ضوء ضبط شحنات أسلحة توفرها الجمهورية الاسلامية ل «حماس» عبر دول أفريقية، من وطأة الانتقادات التي يوجهها خصوم زعيم «ليكود» بسبب هذا الانجرار نحو قوانين وإجراءات تعزز «العنصرية الفظة» حيال العرب والمهاجرين الأفارقة غير الشرعيين. كما أن الحرب إذا حققت أهدافها قد تضعف قدرة طهران على مواصلة سياسة الدعم العسكري والمادي للحركة. وقبل هذا وذاك قد تضع المواجهة الجديدة مزيداً من العقبات أمام توجه السلطة نحو خيار إعلان الدولة. فهل يعقل إعلانها في الضفة من دون القطاع؟ كما أن مثل هذه الحرب يزيح عن كاهل السلطة الفلسطينية هذا الكم من الضغوط الأميركية وغير الأميركية لمواصلة محادثات لم تبدُ عبثية حتى الآن فحسب، بل أضرّت بالمصالح والحقوق الفلسطينية واستنزفت السلطة نفسها. بل هي عمقت التباين الفلسطيني كما صرح علناً رئيس الحكومة سلام فياض الذي أكد أنه لن يعد أمام الفلسطينيين ما يتنازلون عنه: «اعترفنا بحق إسرائيل في الوجود في اتفاق أوسلو، وهذا الاعتراف يقاس بميزان الذهب. وقبلنا بدولة على 22 في المئة من الأرض، وهو تنازل تاريخي مؤلم ولم يعد لدينا ما نتنازل عنه». ولا يحتاج التباين أو التعارض الفلسطيني إلى أدلة. يكفي أن العناصر والقضايا التي تعترض المصالحة الفلسطينية تتزايد سياسياً وأمنياً. ففي مقابل تمسك «حماس» بخيار المقاومة، تؤكد حكومة فياض أن كل المؤسسات المطلوبة باتت جاهزة لاستقبال الدولة الفلسطينية الموعودة، بما فيها الاستغناء عن التمويل الخارجي للموازنة عام 2013. وتؤكد أيضاً مواصلة الوفاء بالتزاماتها الأمنية التي نصت عليها «خريطة الطريق». وهو ما يتباهى به مسؤولون فلسطينيون وإسرائيليون أيضاً. ولا تخفي السلطة أي تهاون حيال السلاح، سواء كان ل «حماس» أو لغيرها. من هنا غضب الحركة من اعتقال عدد من عناصرها، ومطالبتها حكومة فياض بإطلاقهم ووقف التعامل الأمني مع تل أبيب. إلا أن الحرب تظل مغامرة مفتوحة على احتمالات وتداعيات شتى، وقد لا تنتهي إلى النتائج المرجوة، وإن كان الجيش الإسرائيلي يحتاج إلى إعادة تأكيد قدرته الرادعة واستعادة صورته قبل الحربين الأخيرتين في جنوب لبنان وقطاع غزة. وحتى «القبة الحديد» التي تعول عليها تل أبيب لا يعول عليها أركان هذا الجيش إلا لحماية مواقع استراتيجية فحسب! فقد أظهرت هاتان الحربان أن القوة الاسرائيلية لم تعد توفر سيطرة مطلقة على مسرح العمليات. لم تحقق الحرب على لبنان في تموز (يوليو) 2006 على رغم كل الدمار الذي ألحقته بالبنى التحتية أهدافها الميدانية، وأولها سحق «حزب الله»، وعلى رغم الثمن السياسي الذي جنته من تلك الحرب، أي القرار 1701. بل بات معروفاً أن المقاومة في لبنان استعادت قوتها الصاروخية وعززتها بالمزيد النوعي. والحال إياها في غزة. صحيح أن حرب أواخر عام 2008 دمرت وقتلت وسحقت بلا رادع، إلا أنها لم تطح «حماس» وتخرجها من إدارة القطاع، ولم تحل دون إعادة تسلحها. أبعد من ذلك، من يضمن أن تقتصر الحرب المحتملة على القطاع؟ ما الذي يمنع توسعها نحو جنوب لبنان وربما أبعد من ذلك؟ إذا شعر «حلف الممانعة» بأن ثمة محاولة لشطب «حماس» من ميزان القوى الاقليمي، فيما سيف المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مصلت فوق رأس «حزب الله» سعياً إلى شطبه لاحقاً، فما الذي يحول دون فتح جبهة جنوب لبنان، لعل في ذلك مخرجاً من التعقيدات اللبنانية المحلية، ومحاولة لتعويض ما يلحقه القرار الظني للمحكمة بصورة الحزب في الداخل والخارج. إضافة إلى ما يلحقه فتح جبهة جديدة من إرباك في الساحة الداخلية الإسرائيلية. لم تعد إسرائيل قادرة على الحسم الخاطف في أي حرب. فهي خاضت أطول حروبها مع لبنان قبل أربع سنوات، ومثلها في القطاع ولم تحقق النتائج المتوخاة. بل بدت مرتبكة أمام هذا النوع الجديد من الحروب. وبات توازن الرعب هو ما يحكم المعادلة بينها وبين لبنان وربما غزة، على رغم هدوء الجهتين، وعلى رغم كل ما قيل عن دروس استنتجتها إسرائيل من الحربين الأخيرتين. إن منظومة الصواريخ التي تمتلكها المقاومة في لبنان والقطاع تقلق الدولة العبرية، وإن لم يكن تهديدها بالحجم الذي يهدد المصير والمستقبل برمته، وإن لوحت إيران مثلاً بأن أي حرب جديدة سترمي بإسرائيل في البحر... هل يغامر نتانياهو فيكون نصيبه ما كان نصيب إيهود باراك؟