يسعى الرئيس الأمريكي باراك اوباما الى إعداد جدول أعمال خاص لمنطقة الشرق الأوسط يقوم على الدبلوماسية والمحادثة بدلاً من المقاطعة والصدامات المسلحة. إسرائيل من جهتها تسعى لنشر فكرة "محور الشر" الخطير، الذي يتكون أساساً من إيران وممثليها في سوريا ولبنان وغزة، إضافة الى أنها ترفض الانسحاب من جميع الأراضي التي تسيطر عليها. من جهة أخرى تسعى سوريا الى إعادة بناء علاقاتها بالولاياتالمتحدة، وتعزيز سيطرتها في لبنان في نفس الوقت بدلاً من الالتزام أمام إسرائيل. والسؤال هو كيف يمكن دمج هذه المصالح سوياً ؟ هل توجد صيغة ترضي إسرائيل وسوريا والولاياتالمتحدة تحدث تغيراً استراتيجياً في المنطقة. هل هناك داعٍ للتحرك على المسار السوري بعد كل خيبات الأمل، والفشل والجمود المستمر ؟ . بين مقربي رئيس الوزراء المكلف، بنيامين نتنياهو، تدور فكرة تسوية انتقالية بين إسرائيل وسوريا، تعلن فيها الدولتان عن "حالة عدم القتال" مقابل انسحاب إسرائيلي من منطقة صغيرة في هضبة الجولان. من ناحية إسرائيل، تهدف التسوية الى تقليص خطر الاشتعال العسكري في الشمال، وتقليص التهديد الإيراني وإظهار حكومة نتنياهو على أنها مستعدة للتقدم المدروس والحذر في المسيرة السلمية. إسرائيل ستتنازل عن بعض الأراضي وسيكون بوسعها أن تدرس مع الوقت السلوك السوري واستعدادهم للابتعاد عن إيران وحزب الله وعن حماس. من ناحية السوريين، التسوية الانتقالية في الجولان يمكنها أن تكون مدخلا لانعطافة في العلاقات مع أمريكا وتحسين الوضع الاقتصادي والأمني. وتحت غطاء "كبح جماح حزب الله ومنظمات الإرهاب" سيحصل السوريون على الشرعية لتعزيز سيطرتها في لبنان. كما أن هذه ستكون فرصة مناسبة لإغلاق ملف التحقيق الدولي ضد الرئيس بشار الأسد ومقربيه، للاشتباه باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. ولكن مثلما ستواصل إسرائيل السيطرة في معظم الجولان، سيكون بوسع السوريين أيضاً أن يواصلوا سلوكهم البارد، و أن لا يضطروا الى أن يستضيفوا في أراضيهم دبلوماسيين وسياحا إسرائيليين. المقربون من نتنياهو يقولون، انهم لم يسمعوه يتحدث عن تسوية انتقالية في الشمال وان رئيس الوزراء المكلف يفضل التقدم مع الفلسطينيين وليس مع السوريين. ولكن حسب أقوالهم، فان الفكرة "بالتأكيد تناسب تفكيره" ولها أيضاً احتمالية سياسية كونها تدمج شك اليمين بالنسبة للتسوية الشاملة بتفاؤل اليسار الذي سيدعم كل تقدم سياسي. نتنياهو صرح في زيارته الى الجولان عشية الانتخابات أن "الجولان سيبقى في أيدينا". وحسب أقواله، فان "هذه هي الحدود الأكثر هدوءا لدينا إذ أننا على الجولان وليس أسفله". وفي مناسبات أخرى حذر من أن الانسحاب من الجولان سيحول المنطقة الى "قاعدة إيرانية" والمفاوضات التي أدارها ايهود اولمرت مع السوريين اعتبرها تنازلات بلا مقابل، وخطوة لم تؤدي إلا الى إنقاذ الأسد من العزلة الدولية. ولكن تسوية تتضمن انسحابا محدودا فقط، تبقى فيه إسرائيل في الجولان، لا تناقض مبادئ نتنياهو. كل الجهود لتحقيق سلام بين سوريا وإسرائيل، منذ مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991، استندت الى ذات الصيغة، انسحاب إسرائيلي من كل هضبة الجولان، مقابل التوقيع وعلاقات سلام كاملة وترتيبات أمنية تبعد الجيش السوري عن الحدود. التسوية تبدو بسيطة، بالقياس الى المفاوضات المركبة مع الفلسطينيين. ففي المسار السوري لا شك أنه "يوجد شريك" قادر على اتخاذ القرارات وتنفيذها ولا توجد مشاكل عاطفية ودينية مركبة مثل القدس، اللاجئين و"ارض الآباء والأجداد". كما أن المنفعة الاستراتيجية للتسوية تبدو مفهومة تلقائياً وهي إخراج سوريا من "معسكر المقاومة" ونقلها الى مجموعة المعتدلين في المنطقة سيصفي مرة واحدة والى الأبد خطر الحرب "الكبرى" بين إسرائيل وجاراتها، ويمنح سوريا الفرصة للحداثة والنمو الاقتصادي. ومع ذلك، فان كل المساعي فشلت ولم تحقق شيئا. ستة رؤساء حكومة إسرائيليين أداروا مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع رئيسي سوريا، حافظ وبشار الأسد، وهم اسحق شامير، اسحق رابين، شمعون بيريز، نتنياهو، ايهود باراك واولمرت. فقط ارئيل شارون الذي لم يرغب في التفاوض. وباستثناء شامير، كلهم وافقوا مبدئيا على انسحاب من الجولان، وفي عهد باراك الخلاف على الحدود تقلص الى قاطع بعرض 200 متر. ولكن الفجوة لم تغلق. المشترك بين كل الإخفاقات كان أن الطرفين امتنعا عن اتخاذ الخطوة النهائية التي كان من شأنها أن تحطم الحاجز النفسي وتضعهما أمام مخاطرة سياسية كبيرة. إسرائيل رفضت الانسحاب الى الخط الذي طالب به السوريون، والذي كان سيمنحهم سيطرة على الشاطئ الشمالي الشرقي من بحيرة طبريا. وسوريا رفضت خطوات التطبيع والدبلوماسية العلنية والتي كانت كفيلة بان تخفف من حدة المعارضة الإسرائيلية للانسحاب. نتنياهو أدار مفاوضات سرية مع الأسد في العام 1998، حين بحث عن مسار التفافي للمحادثات مع الفلسطينيين. يوجد خلاف على الاقتراحات التي نقلها الى الأسد عبر مبعوثه رجل الأعمال الأمريكي رونالد لاودر. نتنياهو ومن معه يقولون انه تلقى موافقة سورية على إبقاء محطة إنذار مبكر في جبل الشيخ، وان نتنياهو اقترح أن تبقى إسرائيل على "خط الجرف"، وان كان هذا أيضاً يستدعي إخلاء كل المستوطنات. رجال باراك، الذي خلف نتنياهو في مكتب رئيس الوزراء وحصل على الوثائق، يقولون ان نتنياهو كان أكثر سخاء واقترح أن تتقرر الحدود "على أساس الحدود الدولية وخطوط 1967" وهي صيغة غامضة تترك مجالا واسعا للمرونة". وحسب الروايتين، فان الأسد طلب أن يرى خريطة، ورفض نتنياهو ذلك وهكذا انتهت المفاوضات دون نتائج. المحادثات أخفيت عن الجمهور وانكشفت فقط عشية الانتخابات في مواجهة تلفزيونية بين نتنياهو ووزير دفاعه المنحى، اسحق مردخاي الذي قال له: "نتنياهو، تحدث بصراحة" ردا على سؤال مدير المناظرة عن الجولان. التفاصيل لم تتضح إلا بعد أن سقط نتنياهو من الحكم. خصوم نتنياهو، وعلى رأسهم باراك وشارون درجوا على أن يستخدموا قضية لاودر لوصف نتنياهو ب "المُتنازل". نتنياهو ادعى بالمقابل بأنه حقق أكثر ودفع اقل من رؤساء وزراء آخرين. ولكن الجدال بقي افتراضيا في غياب اتفاق، ومن الصعب التعويل عليه كسابقة بسبب التغيير في الظروف وتعزز "العنصر الإيراني" في المعادلة الأمنية بين إسرائيل وسوريا. واضح فقط انه رغم تصريحاته، فان نتنياهو أيضاً كان مستعداً لانسحاب واسع من الجولان مقابل ترتيبات أمنية مناسبة. في المحاولة الأخيرة، في عهد اولمرت، لم يتوصل الطرفان حتى الى مفاوضات مباشرة، واكتفيا بتبادل الرسائل غير المباشرة عبر تركيا. المساعي وصلت الى ذروتها في زيارة اولمرت الى أنقرة، عشية حملة "الرصاص المصهور" في غزة حين كان نظيره التركي رجب طيب اردوغان يتحدث هاتفيا مع الأسد ويحاول نسج صيغة لمحادثات مباشرة. اردوغان يدعي انه كاد ينجح، ولكن العملية الإسرائيلية في غزة حطمت الفرصة. سوريا أعلنت عن وقف المفاوضات مثلما جمدتها إسرائيل في الماضي ردا على العمليات الإرهابية، واردوغان هاجم إسرائيل بشدة الأمر الذي شل دوره كوسيط. المحادثات التي أدارها مبعوثو اولمرت مع السوريين خلقت عائقاً جديداً لم يكن قائماً في السابق. فإسرائيل لم تعد تكتفي بمطلب تجريد الجولان من السلاح وتقييد انتشار الجيش السوري، بل تركز على التحالفات العسكرية لسوريا. اولمرت أراد تعهدا سوريا بتبريد العلاقات مع إيران والكف عن دعم حزب الله وحماس. السوريون رفضوا التعهد، وعلى أكثر الأحوال لمحوا بان هذه قد تكون النتيجة غير المباشرة للتسوية، وليست شرطاً مسبقاً. فكرة التسوية الانتقالية تتجاوز العوائق التي عرضت للمفاوضات في الماضي، دون تحطيم القواعد الأساس للمسيرة السلمية الإسرائيلية – العربية. التسوية الانتقالية لا "تخرج من الصندوق" بل ببساطة تقلصه، بحيث لا تصطدم بجدران المعارضة السياسية. كل طرف يؤجل مطالبه القصوى ويكتفي بالأقل. إسرائيل تتنازل عن "تناول الحمص في دمشق"، والسوريون عن "إنزال إقدامهم في مياه بحيرة طبريا". هذه الأحلام ستنتظر مرحلة مستقبلية يتقدم فيها الطرفان نحو التسوية النهائية. المشكلة النفسية ستكون تحطيم الصيغة المقدسة ل "إما كل شيء أو لا شيء" في المسيرة السياسية مع السوريين. كيف ستبدو التسوية على الأرض ؟ إسرائيل ستنسحب من القرى الدرزية في شمال الجولان، أو من بعضها. سوريا يمكنها أن تدعي بأنها تستعيد مواطنيها "الذين تحرروا من الاحتلال الإسرائيلي"، بعد أن حاولت تشجيعهم في السنوات الماضية على "المقاومة". ولإضافة مصداقية للانسحاب الإسرائيلي، سيكون ممكنا التفكير أيضاً بإخلاء مستوطنة يهودية أو اثنتين. سيكون هذا أصعب على الهضم من الأحزاب اليمينية. جبل الشيخ ومنشآت الإنذار المبكر عليه ستبقى تحت سيطرة إسرائيلية، والمنطقة التي سيحصل عليها السوريون ستكون مجردة من السلاح تماماً، مثل القنيطرة اليوم. إسرائيل ستقترح بالتأكيد على الدروز من الجولان ممن يرغبون البقاء في نطاقها، الحصول على مواطنة إسرائيلية. وفضلاً عن الاتفاق، لن تتخذ أي خطوة نحو التطبيع، مثل تبادل الدبلوماسيين على أي مستوى كان. وحسب "قانون هضبة الجولان" للعام 1991، فان الجولان هو ارض سيادية إسرائيلية، وبحسب القانون فان التنازل عن أرض سيادية يتطلب موافقة 61 نائباً، والاستفتاء على القرار في استفتاء شعبي. وهذا الأمر يخلق عائقاً سياسياً في وجه كل تنازل في الجولان حتى ولو على متر واحد. ولكن يمكن التقدير بأنه إذا رغب نتنياهو بمثل هذه التسوية، فسيحقق لها أغلبية في الكنيست من خلال الأحزاب اليسارية. تحقيق التسوية الانتقالية ونجاحها منوط باستعداد سوريا للابتعاد عن "شركائها الطبيعيين" في إيران، ولبنان وفي المنظمات الفلسطينية، والتخلي عن مكانها المركزي في "معسكر المقاومة" لإسرائيل، وباستعداد الولاياتالمتحدة على منح سوريا إغراءات كافية، في شكل اعتراف بمكانتها في لبنان، و إغلاق ملف الحريري ومساعدات اقتصادية كي تنتقل الى الطرف الآخر. لخطوة كهذه توجد سابقة واضحة وهي الاتفاق الانتقالي الإسرائيلي – المصري في العام 1975، حين تعهدت الدولتان على أن النزاع بينهما وفي الشرق الأوسط لن يحل بالقوة العسكرية، بل بالطرق السلمية، بل وأعربا عن "تصميمهما" على تحقيق "تسوية نهائية وعادلة". وعليه انسحبت إسرائيل من نقاط أساسية استراتيجية في سيناء. وفي المنطقة التي أخليت وُضعت ترتيبات أمنية في أساسها محطة إنذار مبكر تشغلها طواقم أمريكية. لا شك أنه سيكون من الصعب إقناع الطرفين بالخروج من السياقات القديمة، والاكتفاء بتسوية متواضعة، دون مصافحة، احتفالات فاخرة وجوائز نوبل. ولكن في الوضع الذي تتقدم فيه الدبلوماسية الإقليمية في كبح جماح القوة المتعاظمة لإيران، وفي إسرائيل تسيطر حكومة تتحفظ من الانسحاب الشامل من الجولان، فان التسوية الانتقالية يمكنها أن تكون "الطريق الثالث" الذي يهدئ خطر الاشتعال ويخلق خشبة قفز لمواصلة الطريق. وعلى نحو خاص في ضوء حقيقة أن المسار الشامل قد جرب من قبل المرة تلو الأخرى وفشل دوماً. ألوف بِن صحيفة هآرتس