على ماذا تتشاجرون أيها الغرباء؟ عددُ القبور انتهَى، وما زال هنالك فائضٌ من الموتى. كيف الهروب إذاً، والموتُ أتقنَ الاختباء حتى في ذرَّات الهواء؟ كيف الهروب والصواريخُ تحتلّ المكان الآمن ما بين الأرض والسماء؟ كيف الهروب ومساحة النباح تتَّسع في حنجرة الزمن؟ كيف الهروب؟ سؤالٌ نطرحُهُ ونحن في الرمق الأخير من الصبر.. نتسكَّع في صحراء التيه تحت انهمار مطر الرصاص ونبحث عن مظلَّة الخلاص، وليس لنا غير الضباب مشيئة. ولكن اطمئنوا أيها التائهون.. لقد شهقت القناديلُ وعمَّا قليلٍ يتفرَّق شمل الضباب. فها هو الشعر قادمٌ كي يرمِّمَ صدوعَ الحزن البركانيَّةَ التي تملأ أرضيَّةَ نفوسنا. دعونا إذاً نتشبَّثُ بأقدام الكلمات للخروج من بحر الهمِّ الممتدّ في عظامنا من النخاع إلى النخاع. إنه الشعر علامة الأبدية على جبين الصحراء منذ أن كان أسلافنا الأوَّلون يضربون الرمال بأكفّ اللغة ويقرؤون نبوءاتها قصائد..كان الغياب طيرا أبابيل ترمينا بسجِّيل اللهفة والترقُّب, ولكن ها هو الشعر يعود إلى يومه العالمي (21 مارس).. ها هو يعود وفي عينيه بريق البزاة ولمعان حقول الكرز، وتحت لسانه قبائل التفاح وسلالات السكَّر. ها هو يعود وقد انغرست قدماه في أعمق نقطة من المكان وارتفعت هامته إلى أعلى شرفة من الزمان. ها هو يعود حاملا أمصال الدهشة كي يحقنها في عروقنا مخافةَ أن يتكلَّس فيها الضجر. ها هو يعود على حصان (طرفة بن العبد) كي يزيِّن ل(خولة) الأطلال ويجدِّد العلاقة بين البلابل والجداول في مرابع الحياة. ها هو يعود سابحا في مياه المجاز بعد أن أغرق (الخليل) في بحوره وصلب (سيبويه) على جذع القواعد. ها هو يعود.. وها هي صبايا الكلمات تتنهَّد كلما باغتها جمال لفتاته، وتتراقص أعناقها كلما داعبتها موسيقى خطواته. إنه الشعر الريشة الوحيدة التي سقطت من أجنحة العنقاء الأسطورية.. قديمٌ كالجوع الأول الذي أرشد (آدم) إلى ثدي الحياة فارتضعه.. وحيدٌ مثل عيد منسيٍّ في صفحات التقاويم ولكنه لا يصدأ.. غريبٌ اتَّخذ من غربته هويَّة ومن منفاه الموحش وطنا خالدا. إنه الشعر علامة الأبدية على جبين الصحراء منذ أن كان أسلافنا الأوَّلون يضربون الرمال بأكفّ اللغة ويقرؤون نبوءاتها قصائد، ثمَّ يعلقونها على جدران القداسة. إنه الشعرُ مغناطيس الغيب الذي يلتقط أسرار الحياة ويجذب أرواح البشر. إنه الشعرُ سماؤنا الأخيرة التي نستنزل منها الرحمة حينما ترتفع القصائد إلى مستوى الأدعية. إنه الشعر رشوةُ الشواعر للدخول في قلب الحياة، ورشوةُ الشعراء للدخول في قلوب النساء. [email protected]