كلما حاولت الكتابة عن الشاعر الجميل محمد الثبيتي - شفاه الله - يراودني شعور مسبق بالفشل لأن مساحة هذا الإنسان مترامية الإبداع، والركض خلف هبوبه تحتاج لعمر فوق عمري كي أجمع بعض قطراتٍ من بحر قوافيه وإسهاماته التي ملأت ما بين السماء والأرض. هذا الشاعر الجميل كون شعر التفعيلة فجعل من القصيدة سماء صافية تسافر إليها الكلمات دون كلل. حداثي من الطراز الأول يجعل من الأبيات ملحمة صاخبة تتخطى اللغات المتكدسة. اليوم سأهمس لكم بعض حزني عليه، وسأهذي حنيناً لشموخه لعلنا نتذكره بهياً كما كان بالأمس طائراً يرفرف بين القوافي، يغرد فوق نوافذنا، ويطلي الصباح بعطر يداعب في الحقل عذقاً تمايل على كف سنبلة. خانه قلبٌ لم يحتمل كل ذاك الحب بداخله فتمايل كتمايلنا على صوته المتدفق كالينابيع التي تغني للنخيل، وزهور البراري، ورمل الصحاري. هبط كغصنٍ خريفي هزته ريحٌ ناعمة، وعندما أغمض عيناه لينام قليلاً سقطت فوق وجهه قطرةٌ باردة تقبل جبينه وتسأل: لماذا لم تعد تحكي لي تغريبة القوافي، وبوابة الريح يا سيد البيد؟ مع شروق صباح يشبهه أقول له: كالحلم المسافر من مدنِ الضباب جئت تغسل الصباح الذي نسكنه وترسم صوت الشحارير (على بوابة الريح) وتروي لنا صوت الصهيل وصوت المآذن في القفار المظلمة. أدر مهجة الصبح يا سيد البيد وصب لنا دفئك الممزوج بالهيل ورتب موائد لقياك فوق الخضار فوق النهار وفوق الوجوه المقفرة. سيد البيد الذي لون القصائد، وجدد الأوزان منذ زمن وهو يقف وحيداً تحت غيمة سوداء ينتظر صوت الوفاء المسافر بين بلدانٍ لا يسكنها غير الشحوب. وها نحن ننتظر عودته وفي يده قصيدة عشق ينثرها في قلوبنا، ويمسح بيده على وجه شقيقة نعمان لم تغفو منذ صمت ذات مساء مشنوق على عتبات أصواتنا الخرساء. تقول شقيقة النعمان: أطلت البعد في زمن الجحود وأطلنا السؤال ذهبنا إلى حيث أنت بقايا قصائد تسكن حافة القهر تسأل عنك وكتاب قديم على صفحة الحب يغفو تلونا دعاء الصبر لعل وجهك يهطل ويأذن الله لنا بالمغفرة. كيف أنت يا صوت الضمائر المجروحة؟ نحن بخير.. ما زلنا نتدافع نحو قصائدك كل مساء.. وعند الفجر نطفئ القناديل لنستقبل شمسك وقهوتك الشاذلية التي تدير الرؤوس. لا زلنا صغاراً نخفي صفحاتك المكتوبة بأيدي الصبايا، نهمس بها للنجوم وللعابرين من خلف شبابيك الصبر وأجسادهم تقطر تعباً. هل تعلم أن كل شيء تغير طعمه وأنت هناك.. لم يعد للشعر رائحة زكية كقهوتك الشاذلية لم يعد للصبح عطر يراق يداعب في الحقل عذقاً تمايل كطفل رضيع على كف سنبلة ندية. لم يعد للشمس دفءٌ ووجهك غائمٌ يكسوه الشحوب وخلف بابك المكلوم يقف الرفاق بعيون مسدلة أسية. يا سيد البيد أفق هذي يدي يملأها الشوق كي تنام على يدك وفجر جاء من شرق بعيد يردد بعض الشروق على مسمعك وصبرُ عليل يهل الدموع على مضجعك. مع هذا الصباح ندعوك أن تعود من سفرك، نلوح لك بمناديل بيضاء مطرزة بقصائد قلبك التي كنا نرسمها على طاولاتنا وجدران العاشقين. فاجئنا بهطول وجهك كقطرة مطر ظلت حائرة، لوح لنا وقل: أني قريب كقطرة الندى. سلامُ عليك من الشوق للشوق سلامٌ عليك كل صباح سلامُ عليك يا سيد البيد، طهور.. طهور. [email protected]