«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقّاد وشعراء مصريون: الثبيتي قامة شعرية توهجت ألقًا في العالم العربي
نشر في المدينة يوم 26 - 01 - 2011

تفاعل عدد من الشعراء والنقّاد المصريين مع نبأ رحيل الشاعر محمد الثبيتي، معتبرين أن رحيله يعد خسارة كبيرة للشعر العربي والإنساني على حد سواء، واصفين إياه ب ”القامة الشعرية الكبيرة” من قامات الشعر العربي الحديث، مشيرين إلى أنه من خلال تجربته الشعرية التي امتدت إلى أكثر من ثلاثة عقود استطاع الانتقال بالتجربة الشعرية السعودية من إطار المحلية إلى إطار الفضاءات العربية الكبيرة، واستطاع أن يقف جنبًا إلى جنب مع كبار المجددين في الشعر العربي الحديث.
السياب ودنقل ومعهما الثبيتي
حامد أبو أحمد
محمد الثبيتي قامة كبيرة في الشعر العربي وهو صاحب مفردة شعرية أثارت الكثير من علامات الاستفهام خلال الثمانينيات ولكن تماسك قصيدته ووعيه أجبر الكثيرين العالم على احترامه، وهو من الشعراء المميزين بالجزيرة العربية وكنا نتابع تجربته في فترة السبعينيات والثمانينيات وحتى مع اختفائه فترة من الزمن بقي موجودًا في الذاكرة الشعرية.
وبرحيل الثبيتي رحل صوت شعري عربي متفوق، فقد كان من أفضل الشعراء على الصعيد العربي وليس فقط السعودي، لأنه صاحب قضية وقدم صرخة معاصرة بالشعر، وعرفناه من خلال علاقتنا بإبداعه ولم نعرفه عن قرب، ولكن ما نعلمه جيدًا أنه من أعلام الشعر السعودي الحديث فقد كان لتجربته الإبداعية أثرها الكبير على الساحة الإبداعية السعودية، وقد استطاع بشاعريته زرع اسمه في ذاكرة الشعر العربي والخليجي.
وقد ظل الراحل حتى آخر ديوان أصدره أو نص كتبه ونشره، متوهجًا في أوج شاعريته، فتكشف نصوص ديوانه الأخير، عن فضاء شعري متماسك، وعن مراس وتمكن لافتين في صوغ جملة شعرية كاملة، تتميز بجمال اللفظ والمعنى، وقد سعى الثبيتي من خلال تجربته الشعرية إلى بلورة هوية أصيلة للإنسان في الجزيرة العربية، من خلال الالتفات إلى ثقافته ومكوناتها، والانتباه إلى همومه وقضاياه، وإعادة إنتاجها في صوغ شعري جديد، يسمح بتخطي تجربة "التضاريس" التي اعتبرها البعض من الخصوصية والتفرد، إلى درجة كان من الصعب على الشاعر نفسه تجاوزها في سهولة.
وبرع الثبيتي في هندسة القصيدة في شكلانية تجريبية متقدمة، لم يكن شعر الثبيتي كأي شعر آخر إنما كان صوتًا رمليًا أصيلًَا كشميم الخزامى، يذكر الساحة الشعرية بأصالة السياب وأمل دنقل، فقد رحل بعدما أثراها بنماذج رائعة من شعره الذي نفض عنه غبار التقليدية والتبعية ليبقى هذا النتاج الشعري زاهرًا، فقد كان يمتلك أدواته امتلاكًا جيدًا يعادل ويوازي امتلاك شعراء التجديد الكبار في الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، فقد كان رائدًا من رواد الحركة التجديدية في الشعر السعودي الحديث.
(*) ناقد مصري وأستاذ الأدب الإسباني
بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر
شعرًا مغايرًا.. وفكرًا مغايرًا
محمد التهامي
رحيل الثبيتي مثل صدمة شعرية على الساحة العربية فقد كان مدرسة شعرية أنتجت فكرًا مغايرًا للسائد ونصوصًا متفردة، وشكل الثبيتي حالة خاصة في الشعر السعودي، لن تجد له شبيهًا في قدرته الاستثنائية على الإحاطة بالمعاني التي يطرقها وإبرازها في أسلوب هو نسيجه وحده، ولن تجد له مثيلًَا في سلاسة عبارته وعذوبة معجمه الشعري والمفردة البليغة المصقولة والمختارة بعناية والتي تخرج من معين تراثي غزير مما جعل الثبيتي واحدًا ضمن قلة من شعراء العربية البارزين على مدى التاريخ الشعري العربي ولكن بنكهة محلية بالغة التفرد، فقد كان واحدًا من الشعراء الذين أعادوا للشعر حيويته، حتى عاد إلى الصدارة بعد أن توارى خلف الكواليس.
الثبيتي كان صوتًا عربيًا وسعوديًا أصيلًَا أثرى الصفحات الثقافية والأدبية في الصحافة العربية والسعودية بقصائده التي تحمل الهم والوجدان القومي العربي وتعبر عنه بصدق وشفافية وتؤكد وحدة الحلم العربي، ويعد أحد الأقلام الشعرية التي ساهمت بقوة في إحداث نقلة نوعية في الشعر العربي خلال العقود الأخيرة، فقد صار علامة على أسلوب خاص ومعنى خاص في تجربته الشعرية، وستظل هذه التجربة تحمل علامتها الخاصة، عميقة وقوية وستبقى ثابتة في ذاكرة الثقافة العربية عمومًا، وسيظل اسم محمد الثبيتي تجربة شعرية إبداعية لها خصائصها ولها تميّزها كما أن لها موحياتها عند الآخرين مؤثرةً فيهم ومتفاعلة معهم.
(*) شاعر مصري
مسافر بالقصيدة إلى فضاءات جديدة
محمد عبدالمطلب
فقدت الساحة الشعرية العربية برحيل الثبيتي فارسًا من فرسان الشعر العربي الذين صالوا وجالوا في مجالات الشعر المختلفة خلال العقود الثلاثة الماضية وقد ارتبط اسمه بالشعر العربي السعودي الحديث، فقد كان مدرسة كبيرة وضعت منهجية الشعر الحديث لمن جاءوا بعده وهو أحد الذين حملوا القصيدة إلى فضاءات جديدة وعمّقوا فيها معاني الانفتاح على الحياة وصاغوا رموزها بطريقة مبتكرة ونابعة من وعي شديد الحساسية لواقعه ودواوينه الشعرية وقصائده ثروة أمام الأجيال المقبلة وأمام الدارسين رغم قلتها لكنها على درجة ممتازة من الخصوصية.
ومما لا شك فيه أن خسارة شاعر حقيقي ومؤثر ورائد في القصيدة الجديدة يعد خسارة للمشهد الشعري والأدبي في المملكة خاصة وفي المشهد الشعري العربي بشكل عام، ولعل التطورات التي حدثت في تجربة محمد الثبيتي بدءًا من القصيدة العامودية وانتهاءً بقصيدة التفعيلة التي بناها بعمق ورؤية، واستطاع أن يجدّد ويبتكر في اللغة وفي أسلوب الإبداع الشعري وهي ميزة لم تتوفر في كثير من شعراء المرحلة.
وبشكل عام شكّل الثبيتي حالة خاصة في الشعر السعودي قلما تجد له شبيهًا في قدرته الاستثنائية على الإحاطة بالمعاني التي يبرزها في أسلوب متميز ولن تجد له مثيلًَا في سلاسة عبارته وعذوبة معجمه الشعري، فقد استطاع الراحل أن يجمع بين انتمائه للقصيدة العربية عبر التاريخ الموغل في القدم وتقنيات القصيدة المعاصرة، كما ينبغي لها أن تكون، واستطاع أن يحاور رموز اللغة العربية، ورموز الشعر العربي، ورموز التاريخ العربي، واستطاع أن يكتشف أسرار اللغة العربية،فقد جمعت تجربته بين التراث والمعاصرة، والأصالة والحداثة.
(*) أستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة عين شمس
وطن جديد.. إنسان جديد.. حياة جديدة
مجدى توفيق
كان محمد الثبيتي من الشعراء البارزين في الساحة الشعرية السعودية خاصة والعربية بشكل عام، فقد استطاع أن يلفت الأنظار نحو تجربته الشعرية الثرية في لغتها وموضوعاتها وخروجها عن النمطية المعهودة، وقد جعلت تجربة الثبيتي قراء الأدب السعودي ونقّاده يشيدون بها باعتبارها علامة بارزة في حركة التجديد الشعري، فالثبيتي وهو يرحل عن دنيانا سجل اسمه وتجربته بقوة تجعلها حاضرة فى الساحة الأدبية السعودية والعربية.
يعد الراحل من طليعة شعراء الجيل الحالي في المملكة، وصاحب تطلعات تجديدية متطورة في القصيدة العربية من جانبي الرؤية المعرفية والتشكيلية، إلاّ أن الرؤية المعرفية أعمق، لأنها تتفق مع شعراء جيله في محاولة البحث عن الوطن الجديد والإنسان الجديد والحياة الجديدة، ودأبه هذا دأب أقرانه من شعراء جيله، وأمّا الرؤية التشكيلية فهي رؤية بيانية واضحة لا لبس فيها، لأنه ليس من الذين يسعون إلى الغموض لتمرير الغاية بالوسيلة كما هي عادة الذين يشار إليهم بأنهم حداثيون فاعتمدوا الغموض باعتبارهم أصحاب دعوات حرة لتمرير رؤيتهم، ولكن الثبيتي لم يكن يومًا من هؤلاء وإنما كان واضحًا في رؤيته الشعرية، الأمر الذي جعل شعره من السلاسة والعذوبة والرقة ما يجعله يتسلل إلى ذائقة المتلقي، فهو يجيد صنعته ويجتهد في إتقانها، وهذا هو الشعر ولذلك نحن نودّع شاعرًا متميزًا له رؤيته التي شارك فيها جيله، وله أدواته المستقلة.
واستطاع الثبيتي أن يقدّم هذه التجربة التى وجدت الاحتفاء في العالم العربي، فكان نموذجًا لتجربة رائعة، وكانت في هذه التجربة آليات متميزة عن غيرها من التجارب إذ تميزت بكثافة اللغة الشعرية وامتزاج الذات بالنص الشعري.
(*) أستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة القاهرة
هل حقًّا قد وجد المثقف حقه من التكريم والاحتفاء به في محيطنا الاجتماعي المحلي على وجه الخصوص؟
زيد بن علي الفضيل
سؤال ما برح يتردد على مُحياي منذ أن بلغني وفاة الشاعر المبدع سيد البيد محمد الثبيتي يرحمه الله، ذلك الإنسان الذي أشعر أنه كابد كثيرًا خلال مشوار حياته، من أجل كلمته التي حافظ عليها حتى لا تسقط، في وقت تتناثر فيها كل شيء أمام طوفان المادة، وغلبة الجهل، وتسيّد الرويبظة، وكثرة الادعاء زورًا وبهتانًا، بل وبجاحة تلك الوجوه التي تطالعك صبح مساء وقد انتفخت أوداجها بالعديد من الصفات التفخيمية كالباحث والمفكر، وهي في حقيقة الأمر أبعد ما تكون عن أبجدياتهما، بل إن كثيرًا من الباحثين والمفكرين ليأنفون من التشدق بمثل تلك الصفات، إيمانًا منهم بعظم المسؤولية، وخطورة أبعاد الكلمة، وليت الأمر قد توقف عند ذلك وحسب، بل نجد البعض من أولئك المتبجحين قد اقتحموا أسوار الحرم الأكاديمي العلمي بادعائهم الانتماء إليه زورًا وبهتانًا، بإضافة حرف الدال، ظنًا منهم أن القضية مقصورة على جمع أكبر عدد من الألقاب، التي في واقعها تحكي انتفاخ الهر في صولة الأسد. في غمرة كل ذلك يصمد المبدع الثبيتي أمام كل هذه التداعيات الوخيمة على جسمنا الثقافي، وينضوي بين دفاتره وأشعاره، دون أن يعبأ بكل المتغيرات، ودون أن يكترث بحالة السباق المحموم لمدعي المعرفة، ومتطفلي الأدب، وكأني به يُصَبِّر نفسه بقول صاحبه أبي فراس:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
نعم إنها الحقيقة سيد البيد، فرحمة الله تغشاك وأنت الفارس الذي سقط منتصب القامة على ثرى بيده، تلك التي حلمتَ وتغزلتَ ونافحتَ عمرك من أجلها، رحمك الله أيها الشاعر المبدع وقد غبت عن أعين محبيك جسدًا، لكن كن متيقنًا أنك بجواهرك ستظل في أعماق كل متذوقي الأدب والإبداع، شاعرًا مبدعًا عميدًا لأجيال شعر الحداثة والفكرة الخلابة. رحمك الله وقد غادرتنا إلى حيث تستكين نفسك، ودون أن تُفرط في خصيصة ما اكتنزته في داخلك من أدب وذوق فني رفيع، على الرغم من صلف ما واجهته، وضيق ما كابدته مقارنة بغيرك من مدعي المعرفة، وناظمي القوافي، جاعلًا من قول صاحبك «ولا خير في دفع الردى بمذلة» وجاما تلجأ إليه كلما احتدم الخطب.
إنها الحقيقة المرة التي يجب أن ننكشف عليها، فنحن أيها السادة لا نهتم بمبدعينا بالصورة التي تجب، ولم ترق مختلف مؤسساتنا الثقافية الرسمية والأهلية إلى المستوى المطلوب من أهمية الإحاطة بمختلف المثقفين من صناع الكلمة وعاشقي الذوق الرفيع، الذين اختاروا التبتل في محراب الإبداع، ولم ينشغلوا بالتزاحم على الصفوف الأولى والتجمل بالتقاط الصور الكاذبة. وليسمح لي القارئ الكريم أن أتساءل: أهكذا تكون رعاية المبدعين في بلد العطاء والكرم؟ ألم يكن الثبيتي بما أنتجه من أعمال شعرية خالدة، مستحقًا لاهتمام أفضل من قبل مختلف مؤسساتنا الثقافية الرسمية بوجه خاص والأهلية بوجه عام؟ ألم يكن مستحقًا لأن يحظى بالرعاية الصحية الجيدة طوال مرضه، بوصفه مبدعًا متفردًا من جميع المؤسسات الصحية المتخصصة في بلادنا؟ أيفترض أن يكون وجيهًا أو ثريًا ليجد ما يجده غيره من اهتمام واسع؟ كم هي حسرتي حين أتصور أن السمة الطبقية اجتماعيًا أو اقتصاديًا ما زالت بعمقها الفلسفي مسيطرة على أذهاننا! وبالتالي فكيف يتسنى لنا أن نتقدم وفي أعماقنا أن قيمة الشيء مرهون بمظهره الخارجي وليس بجوهر مكمنه.
اسمح لنا يا سيد البيد فقد شاءت إرادة الله أن تُبتلى ويزداد بلاؤك وأنت بين ظهرانينا، ونحن مكبلون إلا من الدعاء والتبتل لك، فلم يكن بأيدينا أن ننقلك إلى أفضل المشافي المتخصصة، وأنت تعاني ويلات ما ابتلاك الله به. اسمح لنا يا مبدع الكلمة فقد تعبت في مجتمع أخشى أن الكلمة لم تعد تحظى فيه بقيمتها المستحقة، أمام سطوة المادة وجبروتها. وعزاؤنا أنك على الأقل ستبقى خالدًا في ذهن كل مبدع فنان، شاخصًا بشعرك في آفاق الزمن، امتدادًا لكل أولئك الخالدين من الأنبياء والصديقين والشهداء والعلماء والأدباء وحسن أولئك رفيقًا.
وعاد الصهيل
سعيد العواجي
رثائية في محمد الثبيتي يرحمه الله
يموت الكبار ولا يزال صهيلهم يصدح في البرية
كشاعرنا الكبير محمد الثبيتي يرحمه الله
أيا سيد البيدِ
همسُ الحروفِ
وصوتُ الحتوفِ
لآخر فصلٍ تموتُ
يموتُ النخيل
دبيبُ البلاغةِ فوقَ الرمالِ تئنُّ
لفقدِ المقاتلْ
لسيّدِ ورد القصائد تبكي المحافلْ
لنبع الصعاليك حين يسيرون نحو الحقيقة خلفك
تبكي السنابلْ
ويبكي الرحيلْ
أيا سيد البيدِ
كلُّ القصائدِ عادتْ إلى بحرها
وعادتْ نسورُ البيانِ إلى حيث شاءتْ إلى سفحها
وتلك الحمائمُ عادت إلى عشها
وعدتُ إلى ذكرياتي القديمةِ
عدتُ إليكَ
إلى النبضِ في مقلتيكَ
فعاد الصهيل إلى منبع الصوتِ
عاد الصهيلْ:
يقولون «زيف الشعارات» عند الرخامْ
خفافيشَ وهمٍ
يطيرون فوق الموائد عند الظلامْ
وأنت أمام النخيل تغني لها نغمةً من يقينْ
وتكشف في خيمةِ الحبِّ هذا الأنينْ
أدرت لهم مهجة الصبحِ
كنتَ الحقيقةَ كنتَ لهم دربَ نورٍ
وكنتَ الدليلْ
سلامٌ عليك أيا سيد البيدِ
إنّا قرأناك خلف السطور قضيّةْ
وإنّا قرأناك بين السطور اشتعالَ الحروف
وروحا أبيّةْ
وإنا عرفناك عند احتمالِ الرمال
إذا هبت الريحُ صمتَ السلام
وصوتا أصيل
أيا سيد البيد
مرت عليك الدروب
وأنهت تراتيلها
ثم غابت
فماتت خطاكْ
وأنت الحداءُ الأخيرُ
فعاشتْ مع الراحلينِ
رغيفُ القصائدِ
عاشتْ رؤاكْ
رحلتَ ولكن بياضُ وشاحكِ
يبقى فضاءً لمن يعبرون
وتبقى طريقا إلى الفجر يا سيد البيدِ
تبقى الدليلُ
وتبقى الصهيلْ
الثبيتي ونهر الإبداع
مسعد عيد العطوي
الراحل محمد الثبيتي: عصامي الثقافة متنوع الفكر، مستلهم الكون الرحب، غائص في بحر الإنسان المتألم فحمل الشاعر الثبيتي معاناة بل هو يتوهم حتى اللذعات البشرية كبائر أنه يخوض في أمواج البشر المخيفة كما يخوض الإنسان في البحر العميق بين مرعباته، إن الثبيتي لم يلجأ إلى جمال الطبيعة برؤية الجمال والأنس، ولم يعانق الإنسان المبتهج بل لم ير الإنسان أو البشر الذين يحملون طيبة وفطرة وأفعالًا ذات قيم إنسانية وتلك القيم أمانيه غير أنه يبتغيها في كل البشر، بل تكون دائمة للإنسان وهذه ليست من سنن الحياة فالإنسان في مكابدة، والثبيتي تثاقف مع هذه المكابدة وحفرت في أعماقه وانغمست أحاسيسه في أعماق المآسي أو النقد الاجتماعي الذي تحول إلى موجات شعورية إبداعية تنبجس بدلائلها اللغة يقول:
أزور عنك تنكرًا وتجاهلًا
ورنا إليك ترفعًا وفضولًا
يا موقد القنديل نبض فؤاده
احذر فؤادك وأحذر القنديلا
فالكون يمّ زاخرٌ يُنسى به
من شاد صرحًا أو أنار سبيلًا
عاشقة الزمن ص 12
وهذه الرؤيا صحبته في مسيرة حياته فكان المنجم الذي يصفى شعره. بل صحبته في حياته المتوترة وتارة تراها في مواقف نسميها رسمية فكأنه بتصرفاته يعلن للملأ أنني لا أبالي بكم ولا بمكانتكم وشخصياتكم فهو يخاطبهم بما تلونه أحاسيسه، وتلك صيرته مهمشًا مع قدراته الشعرية الرائدة والرائعة.
وشعر الثبيتي يصور شرائح اجتماعية مثقفة تئن تحت وطئة التلاقح الفكري وأمانيها التي تتمنى أن ترى صورها ماثلة في الأفراد والمجتمع بل في المؤسسات مصاغة بفلسفة الشاعر ومن يجري في منهجه الثقافي.
وشعر الثبيتي يتدرج من الوضوح في ديوانه عاشقة الزمن الوردي وفي هذا الديوان تكون المباشرة والوضوح وفي طياتها الفكر الفلسفي وفلسفة التكون المعاصر. وهذا النهج الأسلوبي راق جدًا ينبئ عن قدرة وموهبة شاعرية فتحويل المضامين الفلسفية إلى معان شائعة يدركها المتلقي كل متلقي ذلك أمر من الصعوبة بمكان يقول:
إذا نزفت جراح الحب يومًا
وفاضت بالدم القاني قلوب
وغامت في جوا نحنا الاماني
ولاح على مفاتنها شحوب
وقادتنا الحياة إلى صراع
مع الآلام واختلفت دروب
ص71
ونحن لما نتصفح ديوانه الآخر (تهجيت حلمًا تهجيت وهمًا) فستشعر النقلة الجمالية في شعره حيث الصور وبنائها التي تفيض بالدلالات، وحيث الشجن اللفظي المتلاحم من السياق التركيب، الذي يصور العمق الفكر المتنوع المتلاقح وينبض بالمعاناة المتواترة أنه أجنحة الشعر المحلق في الفضاء الإنساني الذي يضم الفكر، المعرفة، والبرهان، ويتدفق بالإحساس ويتلبس بالبيان، ويتجلى في تنوع الطرح الفكري فهو تارة ذاتي وتارة فلسفي تجريدي، وشعره يصور أطواله
فقد حاول الشاعر أن يمارس الهروب الرومانسي لعله يسلو ويأنس لكنه لم يهدأ فيقول:
أصادق الشوارع
والرمل والمزارع
أصادق النخيل
أصادق المدينة
والبحر والسفينة
والشاطئ الجميل
أصادق البلابل
والمنزل المقابل
والعزف والهديل
أصادق الحجارة
والساحة المنارة
والموسم الطويل
لكنه لم يصادق ولم يمكث طويلًا
ص 14 الأعمال الكاملة
وأنني اتصور أن قصيدته (موقف الرمال) ولو سماها النخيل لكان أقرب. هذه القصيدة إنما هي سيرة ذاتية لفكر الشاعر وتسجيل لخواطره الذاتية ورؤاه في الحياة بل مكانته في الحياة فهو كالنخلة الباسقة المثمرة ليست في أوصافها الظاهرة المحسوسة فحسب وإنما يلتقي مع النخلة في تكوينها وفلسفتها ومكانتها عند أهل الصحراء:
أنت والنخل فرعان
أنت افترعت بنات النوى
ورفعت النواقيس
هن اعترفن بسر النوى
وعرفن النواميس
فاكهة الفقراء
وفاكهة الشعراء
ص12
إن شعره يكشف عن العلاقة العضوية التي تربط ألوانًا من الفكر بوصفه محركًا لموجات النفس والذي يصطدم بالمحيط الاجتماعي المتنوع المصادم لفكر الشاعر والمتلاحم معه والآخر الاتباعي الضعيف صاحب المأساة يقول مازجًا بين واقع ماض ورامزًا لحاضر واقع.
سلام عليك فهذا دم الراحلين كتاب
من الوجد نتلوه
تلك مآثرهم في الرمال
وتلك مدافن أسرارهم حينما ذلَّلَت
لهم الأرض فاستبقوا أيهم يرد الماء
ما أبعد الماء
ما أبعد الماء
ص104
إن الشاعر يعيش ماضيًا ثقيلًا يماثله حاضر ثقيل وهكذا تشكل الحياة المتصورة في فكر الشاعر معالم الحياة القاسية ماضيها وحاضرها.
ها نحن في كبد التيه نقضي النوافل
ها نحن نكتب تحت الثرى
مطرًا وقوافل
يا كاهن الحي
طال النوى
ص 105
إن الحداثة التي أراها تتجاذب شعر الثبيتي ليست الرافضة للمعتقد، ولا للبناء التراكمي الإنساني والاجتماعي وإنما بين المكون الحياتي وكونه وبين التمازج الثقافي والاجتماعي والتفاعل بين الفكر الفلسفي لهذه الحياة مع التصادم في الفكر وتنازع البرهان وتكامل الجدل ومن هنا انطلق الثبيتي ليفجر الفكر في تجربته الشعورية، فتارة ناقضًا وتارة مصادمًا، وتارة يموج شعره مثل النسمات التي تعبر بلا حدود ولا سدود وتارة تتشكل كل هذه في شعره فهو يجري كالماء ولكن التركيبة المعرفية للماء توحي مكوناتها بالعمق فشعره حداثي يولد الصدام والصراع ومن ثم الاكتشاف للمكونات المتضادة ولكي يكون الإبداع الداعي للتغيير يقول:
اجهشت باللحن اللذيذ
تشابكت في داخلي مدن، صحارٍ ضاجعتها
النار فابتردت بماء الغيث
يا ايها الشجر البدائيُّ ابتكر للطير أغصانًا
وللأطفال فاكهةً
أقمْ في الرمل ناقوسًا طموحًا
واشتعلْ للريح
يا أيها الشجرُ الذي طال احتقان جذورهِ
بالقيظِ واحترقتْ بلابلهُ على الأسلاكِ
فانقطع الغناء
يا ضاربًا في الليلِ
يا مستغرقًا في لجَّة الصحراءِ
هل غرقت ظلالك فِي المساءْ؟
فيشدنا نهر الابداع للشاعر محمد الثبيتي بمقابضة الاخطبوطية. فيستفزنا بتكوين ابداعي جامع بقوة اللغة واصالة الفن، ويقحمنا إلى عوالم بفنه إلى عوالم فكره وجمال سياقاته، ويشحن احاسيسنا ووجداننا بفيض من الاثارة، وهو يستنفر عقولنا ويشحذ ذاكرتنا بفيض هادر من المشاهد والمواقف وقذف الرؤى إنه شعر مشحون بالكهرباء الذي لم يلبس بغطاء ضامن.
والذي يسجل لشعر الثبيتي هو توظيف الماضي لتفجير الحاضر فهو غير رافض للماضي وإنما يريد أن يكشف سلبياته ويسقطها على الحاضر المتوتر. وهو يجري في بناء لغته وتراكيبه ذات الطرائق في فكره، فهو غير رافض للغة وغير محطم للتراكيب وإنما يشحن اللفظة والتراكيب بدلالات جديدة وكذلك يولد صورًا جديدة من خلال بناء السياقات، فشعره مشحون بالدلالة مع سلامة في اللغة والتركيب وحفاظًا على مكون الجذرة الموضوعية للغة مع القدرة على التعبئة الدلالية المعاصرة.
[email protected]
سيد البيد.. وتغنّى غناءه الساطع ومضى
محمد سيد - القاهرة
لأنه تغنى بالريح وهو المتهيج حلمًا ووهمًا، اصطفته الريح في أوديتها القصية عاشقًا للرمل، وهي التي خط في ذاكرتها المثقوبة مخايل طفولته البعيدة بمكة المكرمة، إنه عاشق الرمل، الشاعر الراحل محمد الثبيتي، الذي يمكن اعتباره بحق أحد مجددي الشعر السعودي المعاصر، إذ مع بداية موجة الحداثة التي هبت على ساكن القصيد في عكاظ ومنبت فحوله في بداية ثمانينيات القرن الماضي، بدأت مفردة شعرية جسورة تشق طريقًا للحداثة مزهوة بصبا مغامر وفتنة رشيقة، برز صوت الثبيتي واضعًا ثورة جمالية في نصه، ورنينًا قصيًا للأساطير وجنيات كهوف الروح وأزقتها البعيدة، دعا الثبيتي مفردته للتنزه في دروب المعنى الكلي للحياة، جوهرها الفلسفي، لم ترتعش الحروف وترتعد من المغامرة، بل تزينت بأبهى حللها، وغادرت في معية هذا العاشق في زمن دمغ القصيدة بمفاهيم قارة في الوعي الجمعي كمفاهيم ثابتة وراسخة لما هو شعري وما هو غير ذلك.
وشكل الثبيتى مع جيله الشعري في ثمانينيات القرن العشرين: سعد الحميدين، ومحمد جبر الحربي، وعلي الدميني، وعبدالله الزيد، وعبدالله الصيخان وغيرهم حالة شعرية جديدة في المشهد الشعري السعودي الذي سعى إلى الدخول إلى آفاق الحداثة الشعرية مستلهمًا التجارب الشعرية العربية السابقة في العراق والشام ومصر، مما أحدث نقلة شعرية متميزة نقلت الشعر العربي السعودية من حالته الكلاسيكية - الرومانتيكية، إلى حالة أكثر معايشة مع التقنيات الفنية والجماليات التي انبثقت عن شعرية الحداثة العربية.
احتفى النص الشعري للثبيتي، بتألق ساحر، بالحداثة نصًّا وغرضًا ومغامرة، وأشاح بوجهه في إباء عن صخب سدنة الشعرية السائدة وخطابهم الجمعي الذي يسور القصيدة في محابس تاريخ المخيلة المكررة نصًّا وغرضًا ومغامرة، في دواوينه (عاشقة الزمن الوردي)، (تهيجت حلمًا.. تهيجت وهمًا)، (التضاريس)، (موقف الرمال.. موقف الجناس).
ويعد الثبيتي إحدى قامات الشعر بالوطن العربي بل يكاد أن يكون في طليعة شعراء السعودية واحد ابرز الرموز في الشعر الفصيح ليس لنتاجه الغزير بل لتفرد القصيدة لدى هذا الشاعر الذي كلما تمعنت بقصائده وجدت المختلف ما بين قصيدة وأخرى حيث تحمل كل قصيدة من قصائد الثبيتي من المعاناة ما تحمل وكأنها زمن يفتش عن زمن آخر.
ومن كلمات الشاعر الثبيتي التي تكررت في كثير من المناسبات عندما كان يسأل عن الجوائز التي حصل عليها “لست مغرمًا بالجوائز، ولم أبحث عنها، ولا أشغل نفسي بها، فمهمتي الأولى تقديم نص جيد، احترامًا لذائقة المتلقي، وما نلته سابقًا وربما ما سأناله لاحقًا، يدخل دائرة التقدير والتتويج لمرحلة الثمانينيات والقصيدة الحديثة، وليس تكريمًا لمحمد الثبيتي شخصيًا”.
ويقول في موقف آخر في إحدى حواراته الصحافية” لم أستطع أن أقبض على اللحظة الأولى والوميض الابتدائي، إلا أن احتلال الفكرة لمشاعرك يولد الرغبة في الكتابة، ما يعني وجود خلق جديد، فأستسلم كلية، وأبدأ من خلال آليتي الخاصة، إذ لكل شاعر آليته. وهنا ربما أكشف سرًا للمرة الأولى، إذ أبدأ بكتابة مقطع، وفجأة أجد على لساني كلامًا كأني سمعته من قبل، ما يجعلني أسأل الأصدقاء والمقربين ممن اشتهروا بزخم قراءة الشعر، إن كانوا سمعوا بهذا المقطع من قبل؟ خوفًا أن أنسب لنفسي ما ليس لي، وكثيرًا ما توقفت في النص ومعه لزمن، وحدث هذا معي في «التضاريس» و«تغريبة القوافل»، و«المطر»، و«موقف الرمال موقف الجناس»، ومن بعد اعتدت على هذا الأمر وسهل تجاوزه.
وقد تناولت دواوينه الأربعة العديد من القصائد ففي ديوانه “موقف الرمل” تحية لسيد البيد، موقف الرمال موقف الجناس، أغنية، الأعراب، تعارف، قرين، وضاح، يا امرأة، الأوقات، الطير، الظمأ، وفي ديوانه “التضاريس” برزت قصائده ترتيلة البدأ، القرين، المغني، الصعلوك، الصدى، الفرس، البابلي، البشير، الأجنة، تغريبة القوافل والمطر، هوازن فاتحة القلب، آيات لامرأة تضيء، الأسئلة.. أما ديوانه “بوابة الريح” فقد جمع بين دفتيه قصائد القصيدة، بوابة الريح، الرقية المكية، أسميك فاتحة الغيث...، أهدرت اسمك، قراءات لأحزان شجرة: فاتحة، قراءة أولى، قراءة ثالثة، قراءة سابعة، وفي ديوانه “تهيجت حلمًا تهيجت وهمًا”، ظل يتهيج حلمًا ووهمًا من خلال قصائده سألقاك يومًا، شهرزاد والرحيل في أعماق، تهجيت حلمًا تهجيت وهمًا، برقيات حب إلى غائبة، أغنية للرؤيا، مساء وعشق وقناديل، فواصل من لحن بدوي قديم، أيا دار عبلة عمت صباحًا، ليلة الحلم وتفاصيل العنقاء، أقول: الرمال ورأس النعامة، فارس الوعد، صفحة من أوراق بدوي، مسافرة، تقاسيم.. أما ديوان “عاشقة الزمن الوردي” فقد تنوعت قصائده صوت من الصف الأخير، الرحيل إلى شواطئ الأحلام، إيقاعات على زمن العشق، عيناك والوان الطيف، عاشقة الزمن الوردي، اختناق، النجم الغريب، الوهم، مرثية قصيدة، أغان قديمة لمسافر عربي، وجه من دخان، عشقت عينيك، نشاز في نغمة الحب، أنغام من الصحراء.
ولد محمد عواض الثبيتي عام 1952 في منطقة الطائف، وحصل على بكالوريوس في علم الاجتماع، وعمل في التعليم. وبدأ نظم الشعر وعمره 16 عامًا، وظل ممزوجًا بروح بدوية، مما أكسب قصائده نكهة تبلورت في عدم تخلي قصيدته عن الموسيقى والقافية، حتى عندما انتقل إلى كتابة قصيدة التفعيلة، وظلّ على تواصل مع الحركة الشعرية والثقافية في الوقت الذي عاش فيه من يوصفون بشعراء حداثة الثمانينات فترة من الانعزال.
حصل الثبيتي على عدد من الجوائز، منها جائزة نادي جدة الثقافي عام 1991 عن ديوان “التضاريس”، وجائزة اللوتس في الإبداع عن الديوان نفسه، وجائزة أفضل قصيدة في الدورة السابعة لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري عام 2000، عن قصيدة “موقف الرمال.. موقف الجناس”، وجائزة ولقب “شاعر عكاظ” عام 2007 في حفل تدشين فعاليات مهرجان سوق عكاظ التاريخي الأول، وقد قام نادي حائل الأدبي أخيرًا بطباعة كامل أعماله الأدبية، المثقفون الذين كانوا يستعذبون تسميته بألقاب مستوحاة من نصوصه، ولعل أشهرها “سيد البيد”، وقد صنع بصوته المتفرد تاريخًا للقصيدة في الجزيرة العربية، دفع بشعراء، ونقاد وكتاب وحمى ثقافية إلى أقصى حدود الممكن... غنى غناءه الساطع ومضى”.
النخل.. والشجر الهزيل
أسامة البحيري
قبيل أن يغيبه المرض، أسعدني القدر بلقاء الشاعر الكبير محمد الثبيتي - رحمه الله - في خميسية الشاعر عبدالرحمن الموكلي في جازان، وسمعته يلقي شعره المحلق بصوته الرخيم المؤثر، فتعجبت من محاولات حجبه عن واجهة الشعر السعودي المعاصر، ورن في سمعي قوله:
يا أيها النخل
يغتابك الشجر الهزيل
ويذمك الوتد الذليل.
ومضى زمن، تابعت فيه نشاطه الأخير، وصحوته الشعرية، ثم غيابه الطويل في غيبوبة المرض، التي جمعت كثيرًا من المحبين، والمسؤولين حول سريره، بعد أن ظل يغني في عزلته:
ويفيق من الخوف ظهرا
ويمضي إلى السوق
يحمل أوراقه وخطاه
من يقاسمني الجوع، والشعر، والصعلكة.
وجاء الاحتفاء بمحمد الثبيثي، وتكاثر بعد فوات الأوان- كالعادة مع المبدعين في بلادنا العربية-، وفي ليلة افتتاح ملتقى النص العاشر 1431ه «الشعر العربي المعاصر في عالم متغير»، همست لصديقي الأكاديمي المصري الذي قضى ربع قرن مهتمًا بالشعر العربي المعاصر، إبداعًا، ومتابعة، ودراسة، ونقدًا، ولا يعرف شاعرًا سعوديًا واحدًا:
- ستسمع الليلة صوتًا شعريًا، سيغير نظرتك إلى الشعر السعودي كله.
فأجاب:
- لا أظن.
فقلت له:
- سترى.
وبدأ صوت محمد الثبيتي - الذي غيبه المرض- يرتفع في قاعة الاحتفالات:
القصيدة
إما قبضت على جمرها
وأذبت الجوارح في خمرها
فهي شهد على حد موس
...
وبعد انتهاء القصيدة، سمعت صديقي يردد - مأخوذًا- عدة مرات:
شهد على حد موس
وأضاف:
أكبر دليل على تقصير الثقافة السعودية في حق مبدعيها هو تحجيم هذا الصوت الشعري، وإعاقة وصوله إلى محبي الشعر العربي في كل مكان. أين دواوين هذا الشاعر المبدع؟ ولماذا لم توزع على أوسع نطاق وأجمله؟
- فأطلعته على طرف من سيرته، وأعطيته عددًا من قصائده.
فردد قوله:
أنا خاتم الماثلين على النطع
هذا حسام الخطيئة يعبر خاصرتي
فأسلسل نبعًا من النار يجري دمًا.
وقال:
- ما أشبهه بأمل دنقل، تردد قصائده وأبياته على كل لسان، ويحتفى به بعد فوات الأوان.
حسنًا أيها الفارس البدوي
هل تجرعت حزن الغداة
وصبر العشي...؟؟
أرى وجهك اليوم خارطة للبكاء
وعينيك تجري دمًا أعجميًا.
لعل أهم ما يميز تجربة محمد الثبيتي الشعرية -في رأيي- ويفرد لها مكانًا متقدمًا في خارطة الشعر السعودي والعربي المعاصر، هو أصالتها الإبداعية، وجرأتها الأسلوبية، وعبقرية الامتياح من العناصر التراثية، ومهارة توظيف أدوات الحداثة الشعرية، في تمازج بديع يرتكز على أصول ثابتة، تؤطرها الملامح البدوية، ومفردات الصحراء، وتراث الأسلاف الراحلين وراء قوافل المجد، وأبجدية النور، واستشراف آفاق المستقبل، الذي تلوح منه نبوءات مؤرقة، ظل يرددها في غيبوبته الشعرية، وتركها تؤرق الأجيال من بعده:
وعلى مسافات الردى بدو وحانات
وأرصفة تموج
وخيول ليل أمطرت شبقًا على البيداء
فاحمرت نبوءات البروج.
وظل الشاعر يردد أغنيات الوطن، ويزدهي بلغته الشعرية التي تقطر الشمس، وتتلو أسارير البلاد، مستعذبًا امتصاص الرحيق من الحريق، ومشفوعًا من (المحافظين) بأردية سابغة من ماء الملام، الذي لم يستطع محو أطياف الحبيبة (الوطن) من عقله، وقلبه:
أحدق في أسارير الحبيبة كي
أسميها
فضاقت
عن
سجاياها
الأسامي
ألفيتها وطني
وبهجة صوتها شجني
ومجد حضورها الضافي مناي
فحق للشاعر الراحل، أن يعاد إليه اعتباره الشعري، ويحتفى بقامته الشعرية احتفاء يليق به، وتهتم الجامعات السعودية والعربية بدراسة عناصر الإبداع في شعره، وتطبع أعماله الشعرية، وتوزع على نطاق واسع، محليًا، وعربيًا، ودوليًا، ويصدر شعره للعالم الخارجي واجهة مضيئة للشعر السعودي والعربي المعاصر.
* كلية الآداب - جامعة جازان
الثبيتي والمتغيرات
محمد الصفراني
الإبداع حالة لا تثبت على حال، كل يوم هي في تطور وإدهاش، شاء من شاء وأبى من أبى، وفي مسيرة الأدب العربي في السعودية، تقاسم الحالة الإبداعية أطراف متعددة منذ أن اجترحها محمد حسن عواد يرحمه الله سنة 1921م إلى أن توجها الباقي إبداعيًا محمد الثبيتي يرحمه الله، الذي رغب عن حرارة الأضواء رغبة بدفء الإبداع.
كرس محمد الثبيتي مشروعه الشعري لابتكار تقنيات جديدة في كتابة القصيدة الحديثة لغة ومضمونًا وإيقاعًا، وتجاوز ذلك إلى فضاء التشكيل البصري، ولم يجد في زحمة الطريق المغضن بالمتشاعرين والمتنقدين من يفهم رسائلة الإبداعية إلا قلة قلية من الشعراء والنقاد، تبددت نارهم جمرة هنا وجمرة هناك لكن وقدها برغم تبددها يضيء، ويغني عن كل ما لف الطريق من حطب.
رحل محمد إلى أكرم رحاب، بعدما قدم نصوصًا شعرية إبداعية يكاد زيتها يضيء، رحل محمد (سيد البيد)، عراف هذا الرمل الذي جاء يستقصي احتمالات السواد، الذي جاء يبتاع أساطير ووقتًا ورمادًا، مقيمًا على شغف الزوبعة، وقد أدار لنا مهجة الصبح ممزوجة باللظى، حالما بوطن في الكؤوس، يدير الرؤوس، رحل، بعدما مسه الضر هذا البعيد القريب المسجى بأجنحة الطير. تاركًا لنا تاج (التضاريس).
نعم، كانت ولما تزل التضاريس وعرة، منذ أن سمع القوم ذات أمسية قولك:
ابتداء من الشيب حتى هديل الأباريق
تسترسل اللغة الحجرية
بيضاء كالقار
نافرة كعروق الزجاجة
صعقوا، وتنادى مصبحين، حققوا مع القار، متى كنت أبيض؟ قبضوا على الزجاجة شرحوا جسدها بحثًا عن العروق والشرايين، وعندما عز عليهم الجواب، شمروا عن سواعد العقاب، لكنك لذت بالصمت، صمت من لا يشتغل بغير الإبداع ولا يحقق إلا مع الجمال وتطوير الذات والأدوات، فغاض الزبد، وسموت يا سيد البيد بما ينفع الناس، ويرفع الرأس. فكنت وما زلت أنت الثابت، وهم المتغيرات. ثبته اللهم عند السؤال، وأكرم نزله والمآل، واشمله برحمتك، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.. آمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.