خلال جلسة الاستماع أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس الأمريكي، وعقب اتفاق واشنطن مع موسكو حول وقف إطلاق النار في سوريا، تمهيداً للانتقال إلى الحل السلمي، لمح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، أنه وفي حال عدم جدية كل من النظام السوري وروسيا في التفاوض المؤدي إلى الانتقال السلمي للسلطة في سوريا، فإنه من الصعب إبقاء سوريا موحدة، وعلينا حينها أن نتعامل مع الخيار التالي وندرس خطة بديلة للتعامل مع الوضع السوري، في إشارة إلى إمكانية تقسيم سوريا. كيري عملياً، لم يأت بجديد، وروسيا لم تتدخل عسكريا في سوريا إلا بعد اتفاق كامل مع الإدارة الأمريكية، ولعل اجتماع بوتين اوباما على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في بداية سبتمبر 2015، هي التي أعطت الضوء الأخضر للتواجد العسكري الروسي، اعتقاداً من الطرفين بضرورة إعادة إنتاج النظام السوري وتأهيله، ليخدم أمن إسرائيل من جانب، وليكون حاجزاً ضد الاتصال التركي بالبيئة العربية، وعليه فإن المؤشرات تفيد بأن الاتفاق الأمريكي الروسي يحمل في داخله النقيض، وأن خرق الهدنة أمر متوقع الحدوث، بسبب وضع جبهة النصرة خارج هذه التفاهمات، بينما من الناحية الواقعية يصعب فرز قوات جبهة النصرة عملياً عن قوات المعارضة المعتدلة هناك. كل ما تحصل عليه الاتفاق أنه جمد بشكل مؤقت وهش الدعم للأكراد في السيطرة على المنطقة الحدودية مع تركيا، وتحديداً اعزاز، وأوقف شكلا قصف مدينة حلب وبخاصة مناطق المعارضة، التي لا زال القصف الروسي قائما لأن الاتفاق يشير إلى أن، الليلة سيسري قرار وقف إطلاق النار، ومع ذلك، فقد خفض الاتفاق من الهواجس التركية واستعدادات أنقرة للتدخل البري، بعد تدخل بري ضد قوات الأحزاب الكردية، وحال مؤقتاً من حرب عالمية مصغرة بين روسياوتركيا. من اللافت للانتباه إلى أن التدخل الروسي في سوريا، ليس هدفه الحفاظ على قاعدة عسكرية هناك، أو دعم النظام السوري، وإنما يشير إلى أن روسيا القيصيرية التي خرجت من المولد بلا حمص في التقسيمات الاستعمارية عام 1916، ومع نشوب الثورة البلشفية عام 1917، قامت بالإعلان عن الاتفاق الدولي على تقسيم المنطقة، حيث وضعت الدولة العثمانية في إطار مجموعة من التنازلات والاتفاقات السرية التي تنتهي بعد 100 عام من التوقيع عليها، والتي تنتهي عمليا العام 2016، وهو العام الذي تتحرر فيه تركيا من كثير من هذه الشروط التعجيزية. وعليه، فإن تقسيم سوريا إلى ثلاثة أقاليم رئيسة، يبدو من الناحية العملية قائما، وهذه القسمة تتشكل من الأقاليم: العلوي، والكردي، والعربي، ولو تم التدقيق في الأمور جيدا لوجدنا بأن الروس والإيرانيين على الخصوص يدعمون هذا التوجه، لغايات متعلقة بمنع نفاذ تركيا إلى المنطقة العربية، وحرمانها من الاتصال الجيوسياسي، وهذا الأمر هو ما يثير حنق الأتراك وانفعالهم، واحتمالية تدخلهم البري في سوريا ما زال قائما، والاتفاق الأمريكي الروسي لم يتم التوصل إليه إلا بعد الضغط التركي والسعودي، وبخاصة بعد إعلان السعودية عن نيتها تزويد المعارضة السورية بصواريخ مضادة للطائرات والدروع، وهو ما ألهب الموقف الروسي، وضاعف من تعقيدات الأزمة عليهم في سوريا. الملفت للانتباه أن الاستخبارات الإسرائيلية وفي تقييمها للوضع السوري أكدت بأن سوريا مقسمة من الناحية العملية إلى ثلاثة كيانات رئيسة، وهي الإقليم العلوي والعربي والكردي، وأن وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون، وفي لقاء ميونخ الأخير قال بأن الوضع في سوريا معقد جدا، ويصعب رؤية كيف يمكن أن تقف الحرب والقتل الجماعي، وأن سوريا التي نعرفها لن تكون موحدة في المستقبل القريب، أما مدير عام المخابرات الإسرائيلية رام باراك فقال بأن تقسيم سوريا هو الحل الوحيد للخروج من الأزمة، وأنه يرى في النهاية بأنه يجب أن تتحول سوريا إلى أقاليم، وأن عودة الحكم العلوي إلى سوريا أصبح من الماضي بعد قتل نصف مليون عربي سوري، وأن الأسد، اليوم، لا يسيطر إلا على مناطق غرب سوريا بفعل الدعم الروسي والإيراني، وإن الانتصار في حلب لن يحل المشكلة، لأن استمرار التواجد الإيراني يعني مزيداً من الاشتعال، فلن يقبل السوريون بقاء التواجد الإيراني في سوريا. هذه التطورات لن تطول كثيرا، فالروس ليست لديهم إمكانات كبيرة للانتظار كثيرا، ويعتقدون بأن حسم الأمور في حلب وفرض واقع ميداني معين، سيؤدي إلى كسر شوكة المعارضة السورية، ويؤدي إلى عملية انتقال سلمي وفقاً لما تراه موسكو، عبر إعادة تأهيل النظام، وإدخال تغييرات داخلية تؤدي إلى استيعاب المعارضة، بعد أن حولت المدن السورية إلى أطلال من الماضي. الأمريكان، وإن كانوا مساهمين في توريط الجانب الروسي واستنزاف الجانب الإيراني في سوريا، فإنهم على اعتقاد بأن الوضع في سوريا وصل إلى نقطة الصدام الكبيرة أو الحرب العالمية الثالثة المصغرة بين تركياوروسيا من جهة، والتهديدات السعودية بالتدخل البري وتسليح المعارضة، وعليه، فإن جون كيري في جلسة الاستماع أشار إلى أن وقف إطلاق النار سيحترم بالقوة والعقاب، غير أن سياسة الرئيس الأمريكي باراك اوباما ليست من القوة لفرض هذا الأمر على المتصارعين في سوريا، ولكن ما أشار إليه بخصوص الخطة البديلة، فإن واشنطن ترى بأن الاتفاق سيشمل الجميع بلا استثناء من النظام والمعارضة المعتدلة، وذلك للتفرغ لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي، الذي سيعمل بالتعاون مع السوريين والإيرانيين على إفشال الهدنة ووقف إطلاق النار، حينها وكما يبدو فإن واشنطن لن تجد بداً من التدخل العسكري عبر التحالف الدولي في حالة الفشل الروسي أو تراجع دورهم المتوقع في سوريا، خلال الأيام القادمة. الملفت للانتباه أن موسكو هي من يتحدث نيابة عن النظام السوري، وقامت بتوبيخه في أكثر من مرة عندما حاول إظهار معالم قوته، في فرض واقع عسكري جديد في سوريا، كما أن إيران والتي لا ترغب بالانتقال إلى مرحلة الانتقال السلمي دون بسط السيطرة على الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة السورية، ودعم السيطرة الكردية على الحدود مع تركيا، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو، قائلا بأن هناك لعبة يجري تنفيذها حاليا في شمال سوريا، وأن "روادها" على حد تعبيره هم النظام وتنظيم داعش وروسيا وال PYD، بهدف تأسيس حزام إرهابي بالقرب من الحدود الجنوبية لتركيا، وهذا ما سوف يشعل فتيل الحرب مرة أخرى، ويجعل التدخل البري قائما. وهو ما دعا فيليب هاموند وزير الخارجية البريطاني للقول أمام البرلمان: "ما شهدناه خلال الأسابيع الأخيرة هو أدلة مقلقة للغاية على التنسيق بين القوات الكردية السورية والنظام السوري وسلاح الجو الروسي وهو ما يجعلنا لا نشعر بارتياح واضح من دور الأكراد في كل هذا." غير أن أنقرة التي رحبت بوقف إطلاق النار الأخير، إلا أنها ترى بأن الأرض لازالت تتحرك، وأن روسيا لازالت تحمل في داخلها أحقادا تاريخية بعيدة، جاءت على شكل انتقام من المقامات والمساجد التاريخية في حلب، والتي تمت تسويتها بالأرض، ما دفع نائب رئيس الوزراء التركي نعمان قورتولموشمن للقول بأن بلاده ترحب بخطط وقف القتال في سوريا لكنها ليست متفائلة بأن تتمخض المحادثات بشأن الانتقال السياسي عن نتيجة إيجابية. وهو ما عبر عنه جون ماكين بالقول الاتفاق الأمريكي الروسي لن يؤدي إلا إلى تعزيز "العدوان العسكري الروسي". وأضاف أن بوتين "يسعى لإعادة ترسيخ روسيا كقوة عظمى لاستخدام سوريا كتدريب على الذخيرة الحية لجيشها و"تصعيد أزمة اللاجئين وتقسيم الناتو وتقويض المشروع الأوربي". مضيفا بأنها "ليست صدفة أن السيد بوتين وافق على وقف للعمليات القتالية. رأينا هذا الفيلم من قبل في أوكرانيا: روسيا تمضي قدما في عملها العسكري وتخلق حقائق جديدة على الأرض، وتستخدم الإنكار وتقديم المساعدات الإنسانية كأوراق تفاوض ثم تتفاوض على اتفاق يضمن لها غنائم الحرب." وأضاف، "روسيا تدفع بآلتها العسكرية المتفوقة، وتغير المعطيات الميدانية، وتفاوض على اتفاق للحفاظ على ما كسبته في الحرب ثم تختار لحظة استئناف المعارك". لن يكون هناك حل عسكري، هذا ما يتفق عليه الجميع، وهناك من يؤكد بأن لا سلام ولا استقرار في سوريا مع بقاء الأسد، لأنه من جلب التطرف والإرهاب والميليشيات إلى سوريا، وفي هذا الإطار، فقد أكدت مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية "فيديريكا موغيريني": إنه لن يكون هناك حل عسكري في سوريا، وأوضحت في تصريحات نقلها التلفزيون الحكومي الإيطالي أنه "في سوريا يقول الروس، إنهم سيواصلون قصف تنظيم داعش وجبهة النصرة، مع إقرارهم بوجود جماعات معارضة معتدلة في تلك الأراضي. لذا سيكون من الضروري القيام بتنسيق عسكري، في المقام الأول لتحديد حسن نية الجميع". وأضافت: "أعتقد أن الجميع يدرك أنه لن يكون هناك حل عسكري بحت في سوريا". وعليه نحن أمام اتفاق هش، ورغبات متقاطعة، وتحفز تركي، وتصعيد سعودي، ويبدو أن الطرف الروسي أصبح يستشعر ثقل تواجده في سوريا، خاصة وأن معطيات الحرب لا زالت قائمة، وأن تفعيل دور المعارضة على نحو أكثر جدية وصلابة لم تعهده موسكو بعد، وأن تسليح المعارضة أصبح ضروريا، إن لم يكن فعلا قد حصلت المعارضة على صواريخ ستنغر وتاو المضادة للدبابات والطائرات، ودخول أطراف جديدة على خط الأزمة سمحت بحصول المعارضة على دعم عسكري قريب من أوكرانيا.