بعد إفشال موسكو مؤتمر «جنيف 3»، عبر محاولاتها صرف النظر عن القضايا الأساسية في محضر المؤتمر، كان واضحا أن ذلك الالتفاف على «جنيف 3» هو امتداد للتفوق الذي حققه التدخل الروسي، والذي انعكست وقائعه على جبهة حلب، حيث كانت الطائرات الروسية بقصفها العشوائي والعنيف للمعارضة المعتدلة؛ إلى جانب قوات النظام، ووحدات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بقيادة صالح مسلم، تكثف الضغط العسكري لإخراج وحدات المعارضة المقاتلة من ريف حلب. ومن خلال جبهة حلب والتحكم فيها عبر قوات النظام الأسدي والروس وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، تجلى بوضوح أن هناك علامات جديدة لصراع إقليمي تسعى له كل من موسكووطهران لتصفية حسابات خارج الساحة السورية لدى كل من موسكو حيال أنقره، ولطهران حيال الرياض. وفي ظل موقف أمريكي ضعيف وعاجز، كان لا بد لكل من تركيا والمملكة العربية السعودية من تدابير استراتيجية لمواجهة قضية إخراج المعارضة من الأراضي السورية عبر الضغط العسكري المكثف لكل من روسيا وقوات النظام. بطبيعة الحال، سيكون عنوان المواجهة المتصلة بتدارك الوضع من خلال جهود التحالف الدولي في مواجهة الإرهاب وتنظيم داعش داخل سوريا. فعبر هذا العنوان، يمكن لكل من تركيا والمملكة العربية السعودية وغيرها من دول التحالف الانخراط في محاربة الإرهاب. إلى هنا، قد يكون من الممكن للولايات المتحدة تفهُّم الوضع، لكن هناك حسابات أخرى ترتب لها كل من طهرانوموسكو -بعد أن تم لهما الانفراد بمصير المنطقة- ولا تهتم لها الولاياتالمتحدة، لكن من الصعوبة بمكان تجاهل تداعياتها الأمنية والفوضوية الخطيرة على المنطقة. إن موسكو تريد أن تفرض قواعد لعبة جديدة، بمعادلات جديدة على الأزمة السورية، عبر كسب مواقع وانتصارات عسكرية على الأرض والدفع باتجاه حل سياسي يبقي في النهاية على وجود نظام الأسد، ومن ثم تلعب موسكو مع تركيا سياسة حافة الهاوية عبر تصفية المعارضة السورية على حدود تركيا ومحاولة التغول على مناطق الخطوط الحمر بالنسبة للأتراك، مثل منطقة إعزاز وغيرها. كما أن موسكو في الوقت نفسه، بالتنسيق مع قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يعده الأتراك كيانا إرهابيا، تمارس ضد تركيا استفزازا غير مسبوق، ولا سيما أن رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيدف لمح إلى حرب عالمية ثالثة، خصوصا إذا ما حدث قتال بين الأتراك والروس على الحدود التركية، واحتمال انخراط حلف الناتو في الحرب. من جهة ثانية، بعد التطورات الأخيرة للحرب في حلب، ومحاصرة جيوب المعارضة من مختلف الجهات؛ تدرك كل من المملكة العربية السعودية وتركيا أن هذا الوضع الذي أصبحت عليه المعارضة في سوريا بعد التدخل الروسي يحتاج إلى خيارات جديدة، قد لا يستبعد معها التدخل البري في ظل قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، كما صرح بذلك مستشار وزير الدفاع السعودي العميد الركن أحمد عسيري. وهو ما تجلى بعد ذلك في وصول طائرات سعودية إلى قاعدة (أنجرليك) التركية، وبمناورة (رعد الشمال) للمملكة العربية السعودية بمشاركة 20 دولة فيما عرف بأضخم مناورة في منطقة الشرق الأوسط. تتحول احتمالات الحرب في سوريا إلى صراع ثنائي إقليمي ودولي يطرح العديد من السيناريوهات والخيارات التي أصبحت اليوم تتعلق بأمن دول منطقة الشرق الأوسط جميعها، وعلى رأسها كل من تركيا والمملكة العربية السعودية. لهذا، فإن الأيام والأسابيع المقبلة قد تشهد تحولات لخيارات جديدة في الصراع. لقد أصبحت فكرة خوض الحرب بقوات برية تشارك فيها المملكة العربية السعودية وتركيا ضمن قوات التحالف الدولي -وهو ما لم تقرره الولاياتالمتحدة حتى الآن- أمرا قابلا للحدوث في ظل التطورات الجديدة للحرب. لقد قام الأتراك بقصف مواقع حزب الاتحاد الديمقراطي، في ظل معارضة الولاياتالمتحدة، إدراكا منهم ما يشكله ذلك الحزب من تهديد حقيقي لإمكانية وجود كيان سياسي محتمل على حدود تركيا مما يعد تهديدا مباشرا لأمنهم الاستراتيجي ووحدتهم السياسية. وفي ظل مثل هذه التعارضات يصبح هاجس المصالح الأمنية والاستراتيجية الحيوية لكل دولة على حدة مقدما على أي اعتبار آخر. وهذا ما تفكر فيه كل من تركيا والمملكة العربية السعودية في مواجهة التطورات الجديدة للصراع في سوريا، ولاسيما أن كلا من روسيا وإيران والنظام السوري يسعون إلى محاولة تحقيق مكاسب على الأرض لفرض شروط تفاوض جديدة في مفاوضات «جنيف3» التي سيتم استئنافها في الخامس والعشرين من شهر فبراير الحالي. لذا، فإن خيار إبقاء قوات المعارضة السورية المعتدلة وتحسين ظروفها لمواجهة الإرهاب الداعشي من ناحية، والنظام السوري من ناحية ثانية هو خيار لا بد منه ولو اقتضى من المملكة العربية السعودية وتركيا التفكير في خيارات جديدة لحماية المنطقة من الانزلاق في فوضى لا تبقي ولا تذر.