أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمُهُ وَرَمُ (أبو الطيب المتنبي) ماذا ستفعل لو سئلتَ ما هي أطول مدة للصيام في العالم؟ أو كم عدد أنواع التمور في المملكة؟ أو كم عدد سكان مدينة الدمام؟ في الغالب، ستلجأ إلى هاتفك الذكي لسؤال الخبير "غوغل،" والذّي سيوافيك بالمعلومات في غضون ثوان. لقد بلغت اليوم نسبة مستخدمي الإنترنيت في العالم نحو 40% من السكان، بينما كانت لا تتجاوز أكثر من 1% في العام 1995. وتصاعد عدد مستخدمي الإنترنت في المملكة بشكل هائل حتى بلغ نحو 20.1 مليونا في نهاية الربع الأول من العام 2015، بنسبة 64.9% من السكان. وهذا العدد الضخم من مستخدمي خزائن الإنترنت قد غيّر طريقة التفكير لدى الناس. ولكن يا ترى هل تغيّر للأفضل؟. بالنسبة للكثيرين فإن الجواب هو نعم. وقد ادّعى الكاتب الكندي "كليف تومسون،" مؤلف كتاب "أذكى مما تعتقد: كيف تغيّر التكنولوجيا عقولنا للأفضل،" بأن الإنترنت تسمح لنا بأن نتعلم أكثر، ونفكر ونكتب بتفاعل مع جماهير على مستوى العالم، ونصبح أكثر وعيا عن العالم حولنا. فهو يعتقد بأن التقنية الحديثة جعلت الناس أكثر ذكاء، وربطت الناس كأفراد وكمجموعات، مع بعضها بشكل أفضل وأعمق. ولكن سهولة وضع المعلومة في متناول أيدينا، قد خلقت عندنا نوعا من الضبابية، بين حدود معرفتنا الذاتية والمعرفة الخارجية، وتركت الإنترنت أثرا كبيرا على تقييمنا لحجم معرفتنا. فقد خلصت دراسة حديثة (2015) بجامعة ييل بالولايات المتحدةالأمريكية وشارك فيها نحو 1000 شخص، إلى أن الناس الذين يبحثون عن المعلومات من خلال شبكة الإنترنت، يخرجون من العملية بإحساس متضخم وثقة مبالغ فيها بحجم ما يعتقدون معرفته، حتى فيما يتعلق بالمواضيع التي لا يجدون لها جوابا في الإنترنت. فالناس تهتم بمعرفة أين تجد المعلومة أكثر من تذكر المعلومة نفسها. وقد خلق هذا وهما معرفيا نتج عن نفس طبيعة البحث من خلال الإنترنت، والذي يؤدي إلى الفهم الخاطئ بأن الحصول على المعرفة عن طريق الاستعانة بمصادر خارجية أفضل من المعرفة الذاتية. كما وجد البحث أن هذه الظاهرة قد تكون أكثر وضوحا في جيل الشباب الذين نشأوا مع الهواتف الذكية والإنترنت، حيث يعتبرون الهواتف النقالة جزءا ملحقا بأدمغتهم. ولا يدركون أنها ليس كذلك إلا بعد فصلهم عن الإنترنت. وفي بحث سابق أُجري في جامعة كولومبيا بنيويورك (2011)، خلصت الدراسة إلى أن استخدام محركات البحث وقواعد البيانات في الإنترنت على نطاق واسع للعثور على المعلومات، جعل الناس يفقدون ذاكرتهم. فقد وجد الباحثون اعتمادا كبيرا من الناس على "الذاكرة الخارجية" المتحصلة من خلال محركات البحث وقواعد البيانات في الإنترنت. وأن سهولة الحصول على المعلومة من خلال الإنترنت، أدى كذلك إلى سهولة نسيانها. ولكن هل للوهم المعرفي الناتج عن عمليات البحث على الإنترنت من تأثير سلبي؟ ربما، فكلما أصبحت الخطوط الفاصلة بين المعرفة الذاتية والمعرفة الخارجية أقل وضوحا، بالغت الناس بقدرتها على القيام بأعمال ذهنية، بما في ذلك الحالات التي يعتمدون فيها حقا على أنفسهم. كما أن هناك فرقا كبيرا بين أن نتعلم بأنفسنا عن الأشياء وبين أن نكتفي بتخزين المعلومات عنها في في مكان آخر غير أدمغتنا. لذلك كلما ازداد اعتمادنا على الإنترنت، كان من الصعب علينا تقييم ما نعرفه حقا، ويشمل ذلك تقييمنا لأنفسنا. فالإحساس المتضخم بالمعرفة الشخصية يمكن أن يؤدي إلى قرارات خاطئة. وفي حال القرارات الهامة التي تترتب عليها عواقب كبيرة، فقد يكون من المهم أن يميز الناس بين معرفتهم الذاتية والمعرفة الخارجية، وألا يفترضوا أنهم يعرفون شيئا عندما يكونون فعلا لا يعرفون. وبرغم أن الإنترنت تحمل فوائد جمة لا حصر لها، إلا أن المعرفة الذاتية الدقيقة يصعب كسبها. واللجوء إلى شبكة الإنترنت قد يجعل هذه المهمة أكثر صعوبة. وإذا أضفنا إلى ذلك أن محتوى الإنترنيت باللغة العربية يحمل الكثير من الغث وعدم الموثوقية، فإن هوة الوهم المعرفي تصبح لدينا أكبر. وتصبح خطورة تحييد أدمغتنا أشد. فالثقة الحقيقية بالنفس لا تتأتى من خلال متصفح الإنترنت، ولكن من خلال المخزون المعرفي داخلنا. إن قدرتنا على العثور على إجابات في بضع ثوان على شبكة الإنترنت، لا تكفي وحدها لجعلنا أكثر ذكاء. وفي زمن نغرق فيه في لجج من المعلومات، يكون من المفيد أن نتذكر أن مجرد العثور على إجابات على الإنترنت ليس بديلا عن المعرفة، والتفكير، والحكمة لمعرفة كيفية استخدام هذه المعلومات. في الواقع، يبدو أن العالم أصبح يعاني من سمنة مفرطة في المعلومات، في الوقت الذي يشكو فيه من فقر في الحكمة. أكاديمي مهتم بقضايا الموارد البشرية