في الإدارة أمامك خياران رئيسيان يعبران عن توجهاتك وقدرتك على تحقيق أهداف جوهرية ومستقرة، الأول يعرف بأنه استراتيجي والثاني نطلق عليه ضمنياً الخيار العملي. وبالرغم من أن كليهما يعتمد على تكتيكات وأولويات تختلف كل الاختلاف عن الآخر إلا أن طبيعة المهمة ومرونة الإدارة هي التي تحدد أي التوجهين أكثر ملاءمة من الآخر. وقبل أن أُشير إلى أداء وزارتي الإسكان والعمل وعلاقتهما بهذا الموضوع أود استعراض بعض الفوارق بين الخيارين ولماذا يمكن أن نثمّن أو نتقدر أو نعذر أي إداري سواءً انتهج الخيار الأول أم الثاني؟ كل من خاض العمل الإداري يعلم الجهد والوقت وتكلفة وضع إستراتيجية حقيقية بدءًا من بناء الثقافة وفريق العمل المناسب لها انتقالاً لتأسيس الرؤية والمهمة الملائمة ثم التأكد من وجود إيمان حقيقي داخل المنظمة بها، ووضع الأهداف الإستراتيجية الواعدة والتي تبدو على قدر جيد من التحدي والقناعة بإمكانية تحقيقها. إلا أن المهمة تصبح أكثر تعقيداً حينما يبدأ وزير أو رئيس تنفيذي العمل في بيئة لم تعتد مثل هذا النوع من العمل فذلك باختصار يعني أنه سيبذل جهودا كبيرة في تحفيز العمل الإستراتيجي والتصدي لتأثيرات الحرس القديم، ووضع الأنظمة والسياسات لبناء البيئة الإيجابية للعمل، ثم بذل جهود كبيرة في التخطيط من الألف إلى الياء. وفي كثير من الأحيان قد لا يجد الوزير أو المدير الجديد البيانات الأولية التي يبني عليها تخطيطا بحجم وكفاءة تناسب سقف التوقعات أو الطموحات، وبمعنى آخر فإنه يضطر لا محالة للبدء في رحلة طويلة تسبق التخطيط، من حيث جمع البيانات ووضع آلات لتوفيرها ثم تحليلها أو تنفيذ بحوث لتحديد الموقف. هذا العمل الذي قد يجد المسؤول نفسه غارقاً فيه من وجهة نظري ليس التحدي الأكبر وإنما سيظل السؤال الكبير هنا هل سيتحلى أصحاب القرار بالصبر والمرونة على طول المدة التي ترافق هذا العمل، ولو افترضنا ذلك هل سيحتفظ العميل أو المواطن أو المستفيد عموماً، والموظفون أيضاً بذات القدر من التفاؤل ورحابة الصدر في انتظار ما سيتمخض عنه الجبل؟ هذا الخيار إذن بمثابة الرهان على المدى البعيد والتضحية الكبيرة على المدى القصير ويبقى المدى المتوسط متأرجحاً بين هذا وذاك، لكن طول الفترة ستزيد من المعاناة لأسباب تتعلق بفقدان كثير من أنصار العمل الإستراتيجي وربما العملاء ومن جانب آخر فإنه سيمثل دعماً لأصحاب المصالح المتضاربة مع التطوير الإستراتيجي. في المقابل فإن الخيار الثاني الذي يسمى لدينا الخيار العملي ويُقال وزير عملي ومدير عملي هو في الواقع خيار يعتمد النتائج على المدى القصير ويُراهن على التحول السريع الممكن تحقيقه، أو العرض السريع الذي يشبه إلى حد كبير العرض السينمائي الذي يبهر المتلقي سريعاً لكنه لا يستمر أكثر من ساعتين. هنا تبدو المغريات كبيرة لاعتماد هذا التوجه خاصة في بيئة العمل التي لم تعرف العمل الإستراتيجي الحقيقي والتي ينتشر في قياداتها هذا التوجه، هنا يصبح الحرص على التأثيرات المباشرة وطرح بيانات وإحصائيات تدعم التوجهات بصرف النظر عن الواقع، وتحقق ردة فعل صادمة أو سريعة أمام العملاء مهمة جداً. لذلك برزت أفكار عديدة للجمع بين الاتجاهين جلها تعتبر الإطار الإستراتيجي هو الأساس لتحقيق النتائج المستقرة والحقيقية على المدى الطويل ومن بينها وضع أهداف تكتيكية للمدى القصير قد تبدو وكأنها لا تتعلق بالأهداف طويلة المدى لكونها مستقلة وتهدف لتحقيق نجاحات قصيرة تقنع صانع القرار والعميل على الصبر وانتظار التغيير الجوهري من خطة مستقلة لإدارة الأزمات. وأقصد بذلك أن تمضي الخطة الإستراتيجية بعيدة المدى إلى هدفها بصورة نشطة وفاعلة، في حين تركز خطة العلاقات العامة على تغطية جوانب القصور وتقديم الشروحات وتصميم الأحداث وتسويق مبادرات تدعم التواصل مع العميل وتحقق له بعض الرضا إلى حين تخطي الإدارة أزمة التعامل مع البيئة غير الإستراتيجية. على أي حال فإن هذين الخيارين يمكن اليوم التماسهما في وزارتي الإسكان والعمل، الأولى عملت بالمفهوم الإستراتيجي لكنها لاقت من النقد الكثير وما زالت، والأخرى تقدمت بحلول عملية لمعالجة السعودة وحظيت بالكثير من الإشادة على المدى القصير، بقي سؤالان لا أملك لهما إجابة الأول: لماذا لم تصمم وزارة الإسكان خطة دفاعية مستقلة لإدارة الأزمات؟، والثاني: هل يتغير الحال على المدى البعيد أم أن البيئة العامة لا تدعم العمل الإستراتيجي؟