قبل أربع سنوات من الآن ، أي قبل هجوم الحادي عشر من سبتمبر على برجي نيويورك ، وقبل حرب العراق الأخيرة ، نشر كل من مايكل هاردت وأنتونيو نيغري كتابا بعنوان " الإمبراطورية" وفيه كشفا النقاب عن فكرة الإمبراطورية الحديثة. فحوى هذه الفكرة أن العالم أصبح يحكم من قبل نظام إمبريالي جديد يختلف عما سبقه من نظم الاستعمار السالفة حيث كانت الهيمنة العسكرية هي المحك ، باعتبار أنه لا مركز له ولكونه يدار من قبل أمم العالم الغنية ( وعلى وجه الخصوص الولاياتالمتحدةالأمريكية) ، والشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية مثل منظمة التجارة الدولية وصندوق النقد الدولي. هذه الإمبريالية ، كما يراها ، المؤلفان، مثل العولمة استغلالية وغير ديموقراطية وقائمة على القمع ليس فقط للدول النامية ولكن أيضا للمهمشين في الغرب الغني نفسه. في كتابهما الجديد Multitude الذي يمكن ترجمة عنوانه إلى التعدد أو الوفرة أو الجماهير أو الحشود يقترح كل من هاردت ونيغري أن الترياق الشافي من داء الإمبراطورية هو تحقيق الديموقراطية الحقيقية. ويضيف المؤلفان بقولهما إن على اليسار أن يتخلى عن المفاهيم التي عفى عليها الدهر مثل البروليتاريا والطبقة العاملة مما يعمل على تبسيط التنوعات الطبقية والإثنية والجنسية والجنوسية لعالم اليوم تبسيطا مخلا. في مراجعته لهذا الكتاب يرى فرانسيس فوكوياما ، صاحب كتاب نهاية التاريخ الذائع الصيت ، ان هذا الكتاب يتعاطى مع مشكلتين : واحدة متخيلة وأخرى حقيقية ويقول إن ما يقدمه لنا هذا الكتاب هو حل خيالي للمشكلة الحقيقية. يرى فوكوياما ان المشكلة المتخيلة أو المتوهمة تنبع من فهم المؤلفين المبدئي للاقتصاد والسياسة والذي يبقى في لبه فهما ماركسيا محضا. فبالنسبة لهما ليس هنالك ما يمكن أن يطلق عليه التبادل الاقتصادي الحر أو الاختياري بل فقط التراتبية السياسية الإكراهية. إن التقسيم غير العادل للمكاسب هو دليل قاطع على الاستغلال ، والملكية الشخصية هي شكل من أشكال السرقة. أما العولمة فليست لها أي جوانب إيجابية على الإطلاق. ويشير فوكوياما بهذا الشأن إلى تجاهل المؤلفين لتجربة شرق آسيا وانتقالها من مصاف دول العالم الثالث إلى دول العالم الأول خلال الخمسين عاما الماضية. الديمقراطية كذلك في نظرهما لا تتجسد في الدساتير والأحزاب السياسية والانتخابات التي يمكن التلاعب بها لصالح النخب المهيمنة ذات النفوذ. يدافع فوكوياما عن العولمة ويقول إنها ظاهرة معقدة نتج عنها فائزون وخاسرون من كلا المعسكرين الغني والفقير. إن المشكلة الحقيقية التي يتناولها المؤلفان في رأي فوكوياما هي المشكلة المتعلقة بالطريقة التي يحكم فيها العالم. ويضيف بقوله إن البشرية عبر تاريخها الطويل قد نجحت في تطوير مؤسسات سياسية وديمقراطية جيدة إلى حد بعيد ولكن ذلك كان فقط على مستوى الأمة-الدولة. مع ظهور العولمة بما تتضمنه من العبور الحر للمعلومات والبضائع والأموال والناس وتنقلها عبر الحدود ، أصبح بوسع الدول الآن ليس فقط أن تساعد بعضها بعضا ، بل أضحى من الممكن أن يوقع بعضها الضرر بالبعض الآخر. خلال التسعينيات من القرن المنصرم ، تمثل ذلك الضرر في الصدمات المالية وفقدان الوظائف ، ومنذ الحادي عشر من سبتمبر اتخذ ذلك الضرر بعدا عسكريا. وكما يشير المؤلفان فإن إحدى نتائج الشكل الحالي للعولمة هي أن بعض القادة ، المنتخبين أو غير المنتخبين على حد سواء ، أصبحوا يفرضون هيمنتهم على شعوب تقع خارج الدائرة الجغرافية لدولهم. وبطبيعة الحال فإن الولاياتالمتحدة متورطة بشكل أساسي في هذه التهمة بالنظر إلى قدراتها العسكرية والاقتصادية والثقافية الهائلة. ويقدم احتلالها الحالي للعراق وبقرار أحادى متجاوز للشرعية الدولية دليلا واضحا على مدى صحة مثل هذا الاتهام. يدرك المؤلفان تماما أنهما مثل المعارضين الشرسين للعولمة في سياتل ، والذين يكيلون لهم المديح ، ليس بوسعهم تقديم حلول حقيقية لتلك المسائل لذلك يعمدان إلى مناقشة كيفية إصلاح المؤسسات الدولية الحالية. إن المشكلة الأساسية كما يراها فوكوياما هي أن هذه الإصلاحات صعبة التحقيق سياسيا إذا لم تكن مستحيلة لأن المؤسسات الديمقراطية المتحققة على مستوى الأمة -الدولة غير متحققة على مستوى العالم بأسره. إن الديمقراطية الكوكبية الحقيقية ، حيث يستطيع كل بلايين العالم أن يصوتوا ، هي أقرب إلى الحلم المستحيل منها إلى الواقع. لحل هذه المعضلة يقترح هاردت ونيغري السعي لتشكيل علم جديد للمجتمع والسياسة. إن العقبة الأساسية في وجه الديمقراطية كما يريناها لا تقتصر فقط على الاستحواذ على السلطة ذات الطابع الشرعي المتمثلة في الأمة-الدولة ، بل إنها موجودة ضمنا في كل أصناف التراتبيات التي تمنح سلطة ما لبعض الأفراد ضد الأفراد الآخرين. إن ما يقوم به المؤلفان ، كما يرى فوكوياما هو محاولة إضفاء لبوس اللغة المعاصرة المرتبطة بنظرية الفوضى والأنظمة البيولوجية على اليوتوبيات القديمة القائلة بتضاؤل نفوذ الدولة ، داعين إلى وجوب إحلال الشبكات التي تعكس التعدد والطابع العمومي للجموع محل التراتبيات المعروفة. لا يتفق فوكوياما معهما في الرأي ويرى أن هنالك شبكة هائلة من القضايا التي لا يمكن التعاطي معها إلا عبر التراتبيات أو الهرمية بدءا من الأمة-الدولة ومرورا بالشركات ووصولا إلى الأقسام المختلفة في الجامعات. أما حركات اليسار العديدة التي زعمت الحديث باسم الناس فقد انتهى بها المطاف إلى احتكار النفوذ والسلطة. إن سبب ضعف بعض الدول وفقرها في العالم المعاصر كما يراه فوكوياما لا يكمن في القوة المفرطة للأمة -الدولة بل في ضعفها. إن الحل ليس في التقليل من شأن السيادة بل في بناء دول أكثر قوة في العالم النامي. للتوضيح يورد فوكوياما مثالين لمسارات النمو المختلفة في كل من شرق آسيا وبعض دول أفريقيا خلال الجيل المنصرم. تعتبر كل من الهندوالصين ، وهما من أكثر دول العالم ازدحاما سكانيا، من أسرع دول العالم من حيث النمو الاقتصادي في عالم اليوم. في حين تشهد دول الصحارى الأفريقية هبوطا متواصلا في معدل دخل الفرد في الفترة نفسها. جزء من هذا الاختلاف على الأقل هو نتيجة للعولمة: لقد نجحت كل من الهندوالصين في أن تندمجا بالاقتصاد العالمي وأن تصبحا جزءا منه في حين لم يعبر قطار العولمة والشركات المتعددة الجنسيات بدول الصحارى الأفريقية. إن في ذلك ما يثير السؤال حول سر نجاح الهند و الصين في الاستفادة من العولمة ، في حين فشلت أفريقيا في ذلك. إن الجواب يكمن في أن كلا من الصينوالهند يملكان مؤسسات دولة قوية ومتطورة توفر الاستقرار الأساسي والاحتياجات الضرورية العامة. كل ما كان عليهما فعله هو عدم الوقوف في وجه الأسواق الحرة لدفع عجلة النمو. من جهة أخرى فإن الدولة الحديثة لم تكن معروفة في معظم دول الصحارى الأفريقية قبل الاستعمار الأوروبي. إن أي مشروع لإصلاح أمراض الإمبراطورية يجب أن يبدأ بتعزيز وليس بتفكيك مؤسسات الدولة. وذلك لن يحل مشاكل العالم بالطبع ولكن المؤكد أن أي تقدم هنا سيتحقق فقط من خلال التجديد البطيء والمتدرج وعبر إصلاح المؤسسات الدولية. في ختام مراجعته يذكر فوكوياما كلا من هاردت ونيغري بالرؤية القديمة للماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي والتي تبناها لاحقا الألمان الخضر والقائلة إن التقدم لا يتم إدراكه من خلال الأحلام اليوتوبية ولكن عبر مسيرة طويلة من العمل المؤسساتي. فوكوياما