تمر الديموقراطية كنظام سياسي بأزمة حادة على مستوى العالم الغربي، الذي كان لقرون عديدة يقدَّم إلى باقي بلاد العالم باعتباره يجسد الديموقراطية في أنقى صورها، ليس على مستوى النظرية فقط ولكن على مستوى الممارسة. ولا ينفي ذلك أن التاريخ الغربي المعاصر واجه أكبر تحدٍّ للديموقراطية حين نشأت النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، اللتين تحدتا بعنف وقسوة كل المثل الديموقراطية الغربية، والأخطر ما أدت إليه السياسات العدوانية لكل من هتلر وموسوليني، من شن الحروب المدمرة على الدول الأوروبية واحتلال أقطار بأكملها، وفي مقدمها فرنسا، ما أثبت هشاشة النظم الديموقراطية وعجزها عن الدفاع عن التراب الوطني، لأنه لا يمكن فصل ظاهرة العجز الديموقراطي في فرنسا وغيرها من البلاد الغربية، وأبرز ملامحها عدم الاستقرار السياسي وتغليب المصالح الحزبية الضيقة على مصالح الوطن العليا، عن الهزيمة العسكرية التي لاقتها هذه البلاد على يد «دول المحور» (كما كان يطلق عليها في الحرب العالمية الثانية)، وهي ألمانيا وإيطاليا واليابان. غير أن التاريخ المعاصر يسجل أن موجات الديموقراطية بدأت تدريجاً بالتدفق، وتحديداً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وإنشاء الأممالمتحدة وسقوط العديد من النظم الشمولية والسلطوية في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، ما أدى إلى ظهور ما أطلق عليه المفكر السياسي الأميركي المعروف صمويل هنتنغتون «الموجة الثالثة» للديموقراطية، بمعنى أنها بسطت رواقها على العديد من دول العالم. غير أن الديموقراطية منذ نشأتها كنظام سياسي واجهت عقبة كبرى تتمثل في كيفية التأليف الخلاق بين الحرية السياسية -وهي المبدأ الرئيس لها- وبين العدالة الاجتماعية. وتثبت سجلات التاريخ الحديث والمعاصر أن التناقض الرئيسي بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية كان أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع العديد من الانتفاضات الجماهيرية، بل والثورات في بعض البلاد. ولذلك، حاولت الدول الرأسمالية -لتلافي الصراع الطبقي- بسط شبكة التأمينات الاجتماعية لتغطي بها الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ونجح العديد من هذه الدول في تأسيس نموذج دولة الرفاه welfare state، التي حاولت توزيع الدخل القومي بشكل متوازن، وإن كان ذلك قد تم في الممارسة بصورة نسبية، ما أدى إلى نشوب العديد من التظاهرات الجماهيرية. غير أن «دولة الرفاه» تمر منذ عقود -نتيجة نقص التمويل- بأزمة عنيفة، ما دفع ببعض البلاد الأوروبية إلى تقليص التأمينات الاجتماعية إلى حد كبير. وزادت حدة المشكلة أخيراً نتيجة للأزمة المالية الأميركية، التي أسقطت بدورها نموذج «الليبرالية الجديدة»، الذي أثبت فشله في إشباع حاجات الجماهير، لأنه ترتب عليها أيضاً لجوء الحكومات في العديد من البلاد الأوروبية إلى إجراءات تقشف صارمة ضربت أساساً الجماهير العريضة، ما أدى إلى اندلاع تظاهرات واسعة النطاق نجحت الحكومات في احتوائها حتى الآن. وحين اندلعت ثورات الربيع العربي وارتفعت شعاراتها الشهيرة «الشعب يريد إسقاط النظام»، أصبحت نموذجاً تحتذيه تظاهرات جماهيرية متعددة في وول ستريت بنيويورك وغيرها من الدول الأوروبية، كما في إسبانيا واليابان والبرتغال، بالإضافة إلى بريطانيا. ومن هنا تأتي أهمية مقالة نشرها الفيلسوف الإيطالي الشهير انطونيو نغري والمؤرخ الأميركي مايكل هاردت في جريدة «الغارديان» البريطانية بتاريخ 24 شباط (فبراير) 2011، وعنوانها «العرب هم الرواد الجدد للديموقراطية». وترجع أهمية المقال لسببين: الأول شخصيتا كاتبَيْها، فالأول منهما (ونعني انطونيو نغري) كان احد قادة التنظيم الإرهابي الإيطالي الشهير في السبعينات، والذي كان اسمه «الألوية الحمراء»، وكان تنظيماً شيوعياً متطرفاً هدفه إسقاط الدولة الإيطالية الرأسمالية وإنشاء دولة شيوعية مكانها. وقد قُبض عليه وحكم بالإعدام، لكنه هرب إلى فرنسا، وهناك احتضنه الفيلسوف الفرنسي المعروف ميشيل فوكو وساعده لكي يصير أستاذاً للفلسفة في إحدى الجامعات الفرنسية، التي ظل يمارس فيها مهنة التدريس الجامعي إلى أن ضاق بحياة المنفى وعاد إلى بلاده، ليُحكم عليه فيها بالأشغال الشاقة المؤبدة، التي سمح له خلالها بأن يمضي النهار في مكتبة الجامعة يمارس البحث ثم يعود ليلاً ليبيت في السجن. وفي السجن، استطاع نغري وزميله المؤرخ الماركسي الأميركي مايكل هاردت، تأليف كتاب بالغ الأهمية عنوانه «الإمبراطورية»، وهو أكثر التحليلات الماركسية إبداعاً لظاهرة العولمة، لأن نغري استوعب كل الكتابات الأصيلة في الموضوع، وأهمها على الإطلاق كتاب عالم الاجتماع الأميركي الإسباني الأصل مانويل كاستلز «عصر المعلومات»، والذي يتكون من ثلاثية فريدة هي «المجتمع الشبكي»، و «قوة الهوية»، و «نهاية الألفية». ولذلك، حين يكتب نغري وهاردت هذا المقال، وفكرته الأساس تدور حول ثورات الربيع العربي وكيف يمكن أن تكون نموذجاً ثورياً تحتذيه الشعوب الأوروبية لإسقاط النظم الرأسمالية الغاشمة، فإننا لا شك ينبغي أن نتوقف طويلاً أمامه. هذا التأمل النقدي للمقولة ترجع أهميته إلى أن الخطاب الاستشراقي التقليدي زاخر بالأوصاف السلبية عن الشخصية العربية وسلبياتها المتعددة وعجزها عن المبادرة، أما الاستشراق المعاصر، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي وجهت ضرباتها ضد رموز القوة الأميركية، فقد ركز تركيزاً شديداً على أن العرب إرهابيون بالطبيعة، بل إن الهجوم تناول طبيعة الإسلام نفسه كدين، انطلاقاً من الزعم أنه قام على العنف ويمارسه أنصاره في التعامل مع غير المسلمين. ولذلك يأتي انطوني نغري اليوم لكي يؤكد بكل شجاعة أدبية، أن «ثورات الربيع العربي» تدل دلالة قاطعة على الإيجابية الخلاقة للشخصية العربية، والدليل على ذلك أن أجيال الشباب العربي استطاعت في كل من تونس ومصر وليبيا أن تسقط نظماً استبدادية غاشمة في فترة وجيزة وهي تحاول إقامة نظم ديموقراطية تعبّر عن مصالح الجماهير العريضة، وأن هذه الثورات العربية يمكن بإستراتيجيتها الناجحة وتكتيكاتها المستحدثة، خصوصاً استخدامها العبقري لشبكة الإنترنت، أن تكون نموذجاً ملهماً للجماهير في عديد من البلاد الغربية، التي أيقنت جماهيرها أن نموذج «الليبرالية الجديدة» بسلبياته المتعددة وانعكاساته السلبية في مجال إفقار الملايين، قد فشل، وأن الحل هو الثورة على النظم التي تتبناه عبر ثورات شعبية على غرار ثورات الربيع العربي. وهو يؤكد أن هذه الثورات لا تسعى إلى تأسيس ديموقراطية على النمط التقليدي، ولكنها تطمح إلى أن تبتدع ديموقراطية جديدة تستوعب إلى أقصى مدى حرية التعبير، وتكون قادرة على تحقيق المصالح الأساسية للجماهير العريضة. أثار مقال نغري وهاردت مئات التعليقات على شبكة الإنترنت، بين مؤيد ومعارض، من قراء ينتمون لجنسيات شتى، غير أنه لفت نظري أن بعض الباحثين العرب -تأثراً ربما بالخطاب الاستشراقي- أنكروا قدرة ثورات الربيع العربي على أن تكون نموذجاً ثورياً تحتذيه الجماهير الغربية، وكأنهم يقولون إن الشخصية العربية ستظل سلبية وخامدة إلى أبد الآبدين! * كاتب مصري