انهم يتآمرون ضدنا ويعبثون بنا. تلك خلاصة رسائل تلقيناها من واشنطون تباعاً خلال الأسابيع الأخيرة. ولئن قال قائل ان الخلاصة تحصيل حاصل ولا جديد فيها، فلن اختلف معه، لكني ازعم أن ذلك لا يقلل من أهميتها، ليس فقط لأنها توفر لنا أدلة تعزز اليقين، ولكن أيضاً لأنها تبدد أوهام الغافلين . (1) ليس في بالي وأنا أتحدث عن الرسائل القادمة من واشنطون أن أتوقف امام تأييد الرئيس الأمريكي للغارة الإسرائيلية على سوريا، رغم الدلالة المهمة لذلك التأييد، لان ما وجدته أهم واخطر. ما اعنيه هو تلك الوثيقة التي افرج عنها في واشنطون هذا الشهر، ضمن وثائق أخرى، انتهت مدة الحبس القانوني لها (30 عاماً). إذ تضمنت محضر اجتماع عقد بين وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر وبين جولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل، مع نهاية حرب أكتوبر عام 1973 (الحرب بدأت في السادس من ذلك الشهر والاجتماع عقد في الثاني والعشرين منه). وخطورة الوثيقة تكمن في أنها تسجل اعترافاً مذهلاً يفضح مدى وحجم التواطؤ الأمريكي ضد العرب. تقول لنا الوثيقة بصريح العبارة أن الأمريكيين لم يعطوا الضوء الأخضر للإسرائيليين فحسب، وإنما شجعوهم وحرضوهم على مواصلة الحرب ضد مصر وسوريا، رغم توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار، ورغم تعهد الرئيس السوفيتي ليونيد بريجينيف بوقف الحرب. كانت الظروف آنذاك حرجة للغاية، لان القوات المصرية قد عبرت قناة السويس نحو الشرق، ونجحت في تثبيت أقدامها على الضفة الأخرى من القناة. في الوقت ذاته فان القوات الإسرائيلية التي هزتها المفاجأة كانت تحاول جاهدة أن تحيط بالقوات المصرية وتنقض عليها، في حين استطاعت بعض وحداتها أن تنفذ إلى الغرب من ثغرة الدفرسوار لطعن القوات المصرية من الخلف. وعلى صعيد آخر فان القوات الإسرائيلية على الجبهة السورية تحاول التقدم نحو دمشق. في تلك الأجواء ذهب كيسنجر إلى موسكو ليرتب أمر وقف إطلاق النار مع القادة السوفييت، وفي طريق عودته التقى جولدا مائير، لمدة 55 دقيقة، في أحد بيوت الضيافة المقامة في هيرزيليا (قرب تل أبيب). في البدء عقد بينهما اجتماع مغلق لمدة 15 دقيقة، لم يسجل مضمون ما جرى فيه. ثم انضم إليهما بعد ذلك في لقاء استمر 40 دقيقة، كل من بيتر رودمان من مجلس الامن القومي الأمريكي، وموردخاي جازيت مدير مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي - ومن أسف أن الحيز لا يحتمل نشر النص الكامل للمحضر، ولكنني سأكتفي بإثبات بعض المقتطفات منه، التي تسجل التواطؤ والتحريض، راجياً أن تتولى دورياتنا المعنية بالتوثيق نشر نصه الكامل، وحبذا لو عممته وزارات الإعلام في العواصم العربية، اذا كانت معنية بالأمر بطبيعة الحال. (2) @ كيسنجر: خلال القمة بين الرئيسين نيكسون وبريجينيف كنا نتحدث عن قرار مجلس الامن رقم 242 بدون تفاصيل، وذلك لتحاشي الالتزام بشيء محدد. ولكن طبعاً نظرتنا إلى الحرب تختلف عن نظرة الروس لها. النقطة الثانية هي أن الرئيس نيكسون كان يتعرض لضغط شديد من العرب، ومن دول البترول، ليضغط على اسرائيل لتعود إلى حدود سنة 1967 وأنا قضيت أسبوعين لأتأكد بأن الرئيس نيكسون يكتفي بالحديث عن القرار 242، بدون الإشارة إلى أي تفاصيل. وفي قمة موسكو مع الرئيس بريجينيف تحدثنا عن القرار 242، وعن اتفاقية وقف النار. وأنا أريد أن أطمئنك بأننا لم نتفق مع بريجينيف على أي تفسيرات جانبية للقرار 242، وعندما أعود إلى واشنطون سأطلع سفيركم دينتز على محضر الاجتماع الذي تحدثنا فيه عن هذا الموضوع. @ مائير: الرئيس المصري السادات كانت عنده مطالب أيضاً. @ كيسنجر: السادات كانت عنده مطالب، وكل يومين كانت تصلنا رسالة من وزير خارجيته إسماعيل فهمي، بالإضافة إلى اتصالات السعوديين عندما دعوت السفراء العرب في الأممالمتحدة لحفل غداء، قلت لهم: أن الطريقة التي كتب بها القرار 242 ليست إلا نكتة. القرار يتحدث عن (سلام عادل ودائم)، وعن (حدود آمنة ومعترف بها). لكن هذه العبارات لا تعني أي شيء، سوى أن المفاوضات هي التي ستحدد كل شيء. وهذا هو رأيي الآن أيضاً. لهذا يجب ألا يكون هناك قلق من جانبك على القرار 242 وأنا اعتقد أن مشكلتك ليست القرار، ولكن شيئاً اخر سأتحدث عنه معك على انفراد - (؟!) - وأنا افهم استراتيجيتك: مزيد من الأراضي العربية، مع الإصرار على المفاوضات المباشرة. وفي قمة موسكو كان بريجينيف يريد اكثر من القرار 242، كان يريد التنفيذ الكامل لكل قرارات الأممالمتحدة. @ مائير: لكن القرار 242 لا يتحدث عن المفاوضات المباشرة التي نريدها. يتحدث عن مفاوضات بين الأطراف تحت إشراف مناسب، وهذا ليس ما نريد. @ كيسنجر: كما قلت لك، عبارات القرار 242 لا تعني أي شيء حتى تعقد المفاوضات. @ مائير: أنا حريصة على تأكيدات منك. أنا أصدقك. @ كيسنجر: استراتيجيتي خلال هذه الأزمة، والتي قلتها للسفير دينتز مرات كثيرة، هي أن يبقى العرب خاسرين، ويبقى الروس خاسرين. @ مائير أنا تابعت ما فعلت. بدونك لا اعرف ماذا كان سيحدث لنا. @ كيسنجر: هل وصلتك رسالتي التي اقترحت فيها إمكانية تأجيل وقف النار، اذا كنتم تحتاجون إلى ساعات إضافية من الحرب؟ @ مائير: وصلتنا، لكنها كانت غير واضحة. اعتقدنا انك تقصد تأجيل او تمديد المناقشات في مجلس الامن، وذلك باستعمال أسلوب المماطلة. @ كيسنجر: نحن تعمدنا أن نكتب الرسالة بطريقة حذرة، لأننا أرسلناها عن طريق وزارة الخارجية (وليس وكالة الاستخبارات) وكانت هناك مشاكل في شبكة الاتصال. @ مائير: اذا لم يوقف السوريون والمصريون الحرب، نحن لن نوقفها. @ كيسنجر: وحتى اذا أوقفوها. @ مائير: وماذا عن شحنات الأسلحة التي وعدتم بإرسالها لنا؟ @ كيسنجر: أنا أمرت باستئناف الشحنات. هناك عشرون سفينة تشحن الآن، وهناك أربعون طائرة "اف فور" وأربع وأربعون طائرة فانتوم وهناك اكثر من ملياري دولار اعتمدت لبند الأسلحة. أنا أواجه ضغوطاً شديدة في هذا الموضوع، لأنه لا يوجد إجماع في الإدارة حول الاستمرار في إرسال الأسلحة. لكن ما دام الروس يرسلون الأسلحة إلى العرب، فأنا أستطيع إرسال الأسلحة لكم. @ مائير: لم تقل لي ماذا قال الروس عن العرب؟ @ كيسنجر: الروس كانوا قذرين جداً في حديثهم عن العرب، وبريجينيف كان يقلل من قيمتهم في كل مرة يتحدث عنهم (بتحريك يده بطريقة تشير إلى عدم الأهمية). على أي حال، أنا اعتقد أنكم انتصرتم، ونحن انتصرنا، وكل العرب يعرفون ذلك، سواء يكرهوننا او لا يكرهوننا. (3) يخطئ من يظن أن موقف كيسنجر يمثل استثناء او شذوذاً في الخطاب السياسي الأمريكي، او من يفسر موقفه بحسبانه راجعاً فقط إلى ديانته اليهودية. ذلك أن أي مطلع على مؤشرات الخطاب الأمريكي يعلم أن وجوده على رأس وزارة الخارجية كان بداية لحقبة جديدة مستمرة حتى الآن، هيمن فيها الموالون لإسرائيل بصورة تدريجية على كل مفاتيح السياسة الخارجية الأمريكية، فيما يخص الشرق الأوسط. إذ جرى إقصاء الخبراء الذين يوصفون عادة بالمستعربين، كما نحي كل الدبلوماسيين المحايدين، وتمت مطاردة وقمع كل من عرف عنه الانحياز إلى العدل والإنصاف ليس في الخارجية فحسب، وإنما في مختلف مراكز الدراسات والبحوث المعنية بالسياسة الأمريكية. أن عزيزنا كيسنجر في مشهد الاجتماع الذي نحن بصدده يبدو متلبساً بترتيب الأوضاع مع جولدا مائير، وهو لا يتكلم بصفته كفيلاً او ضامناً، ولكن باعتباره شريكاً تارة ومحرضاً تارة أخرى. فهو يصرح بأنهم تحاشوا الدخول في أية تفاصيل بالنسبة لتنفيذ قرار مجلس الامن 242، لكي لا تلزم اسرائيل بشيء وتفعل ما تريد. ويعتبر أن السلام العادل والشامل لا يكون بزوال الاحتلال عن الأراضي التي اغتصبت في عام 67 (وهي النكتة التي قصدها)، ولكنه ما ستفرضه اسرائيل في المفاوضات المباشرة مع العرب. وهو لا يرى غضاضة في أن تبتلع اسرائيل مزيداً من الأراضي العربية، بينما يؤكد أن ما يعنيه أن يبقى العرب خاسرين. لذلك فانه يشجع اسرائيل ويحثها على أن تواصل قواتها تقدمها رغم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، مؤكداً لها انه اذا ما حدث ذلك فان واشنطون ستغض الطرف عنه، وهو يعتبر أن ما حققته اسرائيل ليس انتصاراً لها فحسب، وإنما هو انتصار للولايات المتحدة أيضاً في مواجهة العرب. تبقى بعد ذلك ملاحظات أخرى على الوثيقة وبمناسبتها هي: @ انه اذا كان كلام بهذه الخطورة قد قيل في اللقاء المفتوح (نسبياً) فلا بد أن يكون الكلام الذي دار في اللقاء المنفرد والمغلق اكثر أهمية واشد خطورة، الأمر الذي يفتح الباب لتأويلات وسيناريوهات تفوق الخيال. @ أن كيسنجر آنذاك كان قد حاز ثقة القيادة المصرية في حين انه كان يخدعها وينسق تنسيقاً كاملاً مع الإسرائيليين. @ انه في ظل التنسيق والتواطؤ المستمرين مع اسرائيل، فان واشنطون طرحت نفسها كوسيط نزيه وراع لعملية السلام مع العرب. @ أن كيسنجر رغم كل ما ذهب إليه يبدو معتدلاً اذا قورن بعصبة الصهاينة التي تتحكم في القرار الأمريكي الآن. @ أن الولاياتالمتحدة وهي تذهب إلى ذلك المدى البعيد في العداء للعرب والتواطؤ مع اسرائيل، لا تكف عن الاستهبال والإلحاح على السؤال: لماذا يكرهوننا؟ - ليس ذلك فحسب، وإنما تنفق مئات الملايين من الدولارات (قال تقرير لجنة خاصة شكلها الرئيس بوش أن المبلغ 600 مليون دولار) لاصطناع صورة مزيفة للولايات المتحدة في العالم العربي والإسلامي. (4) شهادة العبث سجلها كتاب صدر في واشنطون خلال شهر سبتمبر الماضي عنوانه: (أسلحة الخداع الشامل). وهو من تأليف اثنين من الكتاب الليبراليين الساخرين هما: شلدون رامبتون، وجون ستوبر، اللذان يديران مركزاً للديمقراطية والإعلام في ماديسون، بالقرب من جامعة ويسكونسن التي يعرف عنها توجهها الليبرالي. الكتاب يكشف عن الدور الذي تقوم به شركات العلاقات العامة في السياسة الخارجية الأمريكية، خصوصاً بين العرب والمسلمين. فهو يتحدث مثلاً عن شركة راندوم للعلاقات العامة وينقل عن صاحبها جون راندوم قوله أن القوات الأمريكية وحلفاءها حين دخلوا إلى الكويت بعد هزيمة الجيش العراقي في عام 1991، فإنها قوبلت بأعداد كبيرة من الكويتيين يلوحون بالأعلام الأمريكية التي ملأت شاشات التليفزيون، ولم يعرف أحد أن شركة راندوم هي التي سربت تلك الأعلام مسبقاً، لإضفاء جو احتفالي على مشهد الدخول. وكان ذلك في إطار عقد وقعته الشركة في وقت سابق مع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون). وقد تحدث صاحب الشركة عن عقد مماثل وقعه مسئولوا البنتاجون في العام الماضي قبل غزو العراق، لكنه رفض الحديث عن مضمونه، باستثناء إشارته إلى أن العراقيين لم يكرروا لقطة رفع الأعلام الأمريكية عند الدخول إلى بغداد. ذكر مؤلفا الكتاب أيضاً انه بعد حرب الخليج الثانية، وقعت المخابرات المركزية (سي. آي. ايه) عقداً مع شركة راندوم لتنظيم المعارضة العراقية للرئيس صدام حسين، قيمته عشرة ملايين دولار، وكان مدير الشركة هو الذي شكل المؤتمر الوطني واختار اسمه، وهو الذي عين السيد احمد جلبي (عضو مجلس الحكم الانتقالي الآن) رئيساً للحزب. وخلال الحرب وقعت الشركة عقداً آخر مع المخابرات المركزية لتوزيع أخبار مغلوطة عن الحرب، وتصوير أفلام تليفزيونية دعائية تسوغها وتخدم أهدافها. وكانت الشركة ذاتها قد وقعت عقداً مع البنتاجون قبل الإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان قيمته ثلث مليون دولار لتأسيس وكالة أنباء أفغانية تبث أخبارا محرفة وغير صحيحة عما يجري على الأرض. من المعلومات المثيرة التي أوردها الكتاب أن مشهد إسقاط تمثال الرئيس السابق صدام حسين - الذي طافت صورته حول العالم - كان من إخراج وترتيب شركة راندوم، التي حشدت لذلك الغرض 123 شخصاً هللوا للسقوط وصفقوا له، وكان بعضهم من أعضاء المؤتمر الوطني الذين قدموا من الولاياتالمتحدة بصحبة السيد احمد جلبي! تحدث الكتاب أيضا عن شركة بنادور للعلاقات العامة، وصاحبتها الينا بنادور التي وقعت عقداً مع مجموعة من معاهد ومراكز البحوث التي تؤيد غزو العراق لتنسيق ظهور خبرائها في القنوات التليفزيونية، وأمام لجان الكونجرس. وبنادور هذه تتعاون مع اللجنة الأمريكية لتحرير لبنان، لتنسيق ظهور الخبراء في القنوات التليفزيونية وأمام الكونجرس للهجوم على سوريا وإيران، وتحذيرهما من ضربات أمريكية عنيفة. هناك أيضاً شركات شاندويك للعلاقات العامة، ومديرها جاك ليسلي، صديق بوش، وصاحب فكرة انشاء منصب جديد هو مساعد وزير الخارجية الأمريكية للدبلوماسية العامة، أي للعلاقات العامة، لكسب المسلمين إلى جانب الحرب ضد الإرهاب. وهي الشركة التي تقف وراء الحملة الإعلامية في الصحف الغربية والعربية لتعبئة الرأي العام لصالح استمرار تلك الحرب وتوسيع نطاقها! إذ يدهش المرء وهو يتابع فصول الكتاب والمعلومات المثيرة التي أوردها، فان أسئلة كثيرة ترد على خاطره، بعضها يتصل بدور شركات العلاقات العامة في الترويج لمختلف البشارات التي استصحبت احتلال العراق، وعلى رأسها حكاية إشاعة الديمقراطية في العالم العربي ونقله من ظلمات الاستبداد إلى نور الحرية. والبعض الآخر يثير علامات استفهام عدة حول علاقة اللوبي الأمريكي في بلادنا او مارينز الإعلام العربي بأنشطة مثل هذه الشركات ومراميها، خصوصاً أن ما يقومون به يدخل - ربما مصادفة! - في صلب مهامها. هناك حزمة ثالثة من الأسئلة لا أستطيع أن افصح عنها الآن، خصوصاً أن المقال قد شارف على نهايته، الأمر الذي يستوجب السكوت حتى عن الكلام المباح، فما بالك بغيره!