900 سجل قضائي تحفظها المحكمة الكبرى بالمدينةالمنورة تحكي وتكشف عن طبيعة العملات النقدية المعمول بها خلال الفترة الزمنية 960 - 1300 في المدينةالمنورة، وكذلك هيكل الوظائف الرسمية خلال الحكم العثماني، إضافة إلى كشفها عن جوانب تشير لحالة من التميز الطبقي والثقافي الذي تعاني منه بعض المكونات الاجتماعية؛ بعكس ما يحصل الآن. ويرى الباحث والمؤرخ فايز بن موسى البدراني الذي وقف على سجلات الضبط القضائي في المحكمة الكبرى بالمدينةالمنورة -وهي الدفاتر التي تسجل فيها نتائج الوقائع.. والقضايا الصادرة عن القاضي الشرعي بالمحاكم الشرعية الرسمية- خلال 5 زيارات قام بها للمحكمة الشرعية الكبرى بالمدينة بدأت في 25-5-1417 حتى 23-9-1418، أن تلك الوثائق تشير إلى تنوع الوظائف وكثرتها.. وقال "يمكن تقسيمها إلى وظائف دينية وعسكرية وسياسية وكذلك وظائف تشريفية ومالية"، ومن بين الوظائف الدينية التي تشير إليها وثائق المحاكم الشرعية ما يسمى بالوظائف القضائية، ووظائف خدمة الحرم النبوي، وكذلك وظائف الأئمة والمؤذنين في المساجد الأخرى غير الحرم النبوي، إضافة إلى وظائف خدمة المقابر والأضرحة، ووظائف التدريس للمذاهب الأربعة. وتؤرخ تلك الوثائق التاريخية التي تغطي فترة تزيد على 4 قرون لكثير من التحولات الثقافية والاجتماعية وقبل ذلك الاقتصادية التي مر بها المجتمع المديني خلال حقبة العثمانيين. شيوع المذهب الحنفي وثائق أخرى كشفت عنها الدراسة فيما يتعلق بالسياق المذهبي تؤكد أن المذهب الحنفي كان هو السائد في القضاء المدني، وكان هو المذهب الرسمي للدولة العثمانية. كما تجلي ما هو معروف عن العثمانيين من المبالغة في إطلاق الألقاب والمسميات لموظفي الدولة وبخاصة العلماء والقضاة، ويستشهد البدراني بإحدى الوثائق التي تصف أحد القضاة في تلك الفترة تقول "هذه الوثائق من السجلات والحجج صانها الله عن الزيغ والخلل والعوج واقعة في زمن سيدنا ومولانا أعلم العلماء في الآفاق، أفضل الفضلاء بالاتفاق، الحاكم العادل الفاصل بين الحق والباطل..، العلامة الأوحد والفهامة الأمجد سيدنا ومولانا موسى أفندي القاضي بالمدينةالمنورة...في غرة شهر محرم الحرام عام خمس وخمسين وألف". الوضع التعليمي لم يكن لأبناء القبائل خلال الفترة المحددة التي تغطيها الوثائق موضوع هذا البحث وهي ما بين 963 – 1300 دور علمي لافت، إذ لم يبرز منهم أحد من العلماء وطلبة العلم، ولا توجد إشارات كما يرى البدراني تذكر حول ما يدل على وجود متعلمين أو مشايخ من أبناء القبائل في المدينةالمنورة، حتى المقيمين منهم في أحياء المدينة يمارسون الزراعة أو التجارة على نطاق ضيق، وليس لديهم أية مساهمات أو مشاركات في النشاطات التعليمية، في حين يظهر أن هناك العشرات بل المئات من المتعلمين والمعلمين في حلقات العلم بالمسجد النبوي وغيره من الأهالي والمجاورين، وكلهم من غير أبناء القبائل العربية المحيطة بالحرمين. العملات النقدية تعرض الوثائق كذلك جانباً اقتصادياً مهماً عادة ما يُعنى به الدارسون؛ حيث تقدم رصداً ورسماً لطبيعة العملات النقدية المعمول بها في الدول الإسلامية وخاصة منطقة الحرمين الشريفين خلال تلك الفترة التاريخية. وقد تنوعت العملات النقدية التي تضمنتها الوثائق خصوصاً في عقود المبايعات ما بين أحمر شريفي، وأشرفي، وأشرفي فضي، وهي عملة نقدية متوسطة القيمة تمثل "1 من 4 أجزاء من الدينار أو 10 محلقات". ومن بين العملات المعمول بها خلال تلك الحقبة التاريخية كذلك الدينار، ودينار أحمر، وديواني، وريال "والمقصود به هنا ريال الفضة الفرنسية". وكذلك عثمانية وقرش وغرش وقرش ريالي "وهي عملة محدودة التداول وتسمى السكة الحربية". وتشير الوثائق إلى عملة تسمى "محلق" وهي عملة نقدية منخفضة القيمة تمثل (1 من 40 جزءاً من الدينار السلطاني). حضور زراعي إرث زراعي واسع تكشف عنه وثائق المحكمة؛ يشير إلى حجم الحضور الزراعي في أجزاء واسعة من المدينةالمنورة، خصوصاً في منطقة أبيار علي وقباء وقربان والعوالي، ولم تخلُ معظم الوثائق التي تم رصدها كذلك من ذكر أسماء تلك المزارع، التي لم يعد بعضها موجوداً اليوم بسبب الزحف العمراني، وكذلك تمدد بعض المشاريع التنموية. ومن بين المزارع التي تشير إليها الوثائق (البوعي، المربوع، البديدية، البقيع وبلاد الحنانية)، وكثيراً ما تُسبَق كثير من المناطق الزراعية بكلمة "جزع" كما بدا من لغة الوثائق في ذكر كثير من مواقعها. وتعني كلمة جزع: الجزء الخالي من النبات. لغة الوثائق وخلال مدة الحكم العثماني للحجاز كانت اللغة العثمانية هي اللغة الرسمية للدولة إلى جانب العربية التي ظلت قوية في البلاد العربية وبخاصة جزيرة العرب، ولذلك فإن لغة السجلات القضائية في المدينة خلال هذه الفترة هي العربية أحياناً والتركية أحياناً أخرى، ولا يكاد يخلو سجل من اللغة التركية في بعض وثائقه. وتعج تلك التركة الوثائقية بعدد من المصطلحات التركية، التي لا بد من فهمها لمن يريد دارسة تلك الوثائق. ومن بين المصطلحات التي ترد كثيراً في لغة تلك الوثائق "آغا نوبتجيان" وهو مدير مكتب آغا الإنكشارية أو مراسله الخاص، وكذلك مصطلح "الأرض الدشت" الذي يعني الأرض الفضاء؛ كما ورد في الوثيقة التي يقول نصها "اشترى مطلق بن سالم العلوي البدوي بماله لنفسه من راضي بن مسعود الفريد السفري البدوي فباعه ما ذكر أنه في ملكه وحوزته ويده وتصرفه، وذلك جميع القطعة الأرض الدشت المحدودة...". ومن بين المصطلحات ما يسمى ب"الأرض السقوي" أي التي تسقى بجهد الإنسان وليس على الأمطار، وكذلك "أمير خور" وهو المسؤول الأول عن إسطبل القصر السلطاني، ومصطلح "أوجاقات" الذي يعني المعسكرات، و"بيورديين" الذي يراد به الأمر أو المرسوم بالمكتوب، و"التكايا" وهي جمع تكية، وهي مكان لتلقي وإدارة مساعدات الحكومة المصرية لأتباعها ولفقراء الحرمين الشريفين، و"الجراية" وهي ما يخصص لبعض أتباع الدولة من القمح والشعير على شكل مرتبات يجري صرفها دورياً. ومن بين المصطلحات التي تشير إليها الوثائق ما يسمى ب"جوامك" وهي نوع من المخصصات والمرتبات، ومنها "الدشيشة" وهي القمح المجروش الذي يرسل حينها لأهالي الحرمين من سلاطين مصر، و"الدفان" وهو التنازل عن المطالبة بالثأر، و"فرمان" وهو المرسوم السلطاني. و"الكندكي الأسود" نوع من القماش يستخدم للملابس. و"كورجه" وهي لفة كبيرة من القماش،.. وغير ذلك من المصطلحات. حفظ الأنساب وتعتبر الوثائق الشرعية مصدراً مهماً لدراسة الأنساب وحفظها على مر القرون؛ التي غفل فيها الناس عن تدوين وحفظ أنسابهم، مما جعل بعض الأحفاد يجهلون أنسابهم ويتبعون بعض الروايات والأقاويل الخاطئة حول أصل أجدادهم وقبائلهم، لكن الوثائق الشرعية تظهر حقائق لا يبقى معها من الروايات والمقولات إلا ما كان صحيحاً عقلا ونقلا، كما أن هذه الوثائق تساعد في معرفة الجدود وتسهل ربط سلاسل النسب المتصلة خلال القرون الأخيرة. وكان قد تم تقسيم الأعلام الواردين في الوثائق إلى فئات متنوعة، مع ترتيب الأسماء ترتيباً هجائياً ليسهل الرجوع إلى كل فئة، أولى الفئات كانت عن بعض أمراء المدينة من الأشراف وغيرهم، ثم بعض قضاة المدينة، وبعض الأعيان من الأشراف وغيرهم، ثم بعض الأعيان من الأفراد من أهل المدينة والمجاورين من غير ذوي المناصب، ثم الأشراف والأعيان من خارج المدينة، وبعض الأعلام والأفراد من قبائل حرب، ثم بعض الأعيان والأفراد من القبائل والطوائف والأسر الأخرى. فهرسة الوثائق نظراً لقيمة سجلات محكمة المدينةالمنورة التي تعد ثروة وطنية لا تقدر بثمن بالنسبة للمؤرخين والباحثين فقد قام المسؤولون في المحكمة الشرعية الكبرى بالمدينةالمنورة – كما تشير دراسة البدراني- بإعداد فهرس عام لسجلات المحكمة من سنة 963 حتى سنة 1369، وقد تم وضع ذلك الفهرس عام 1368 وبالرغم من أنه مكتوب بخط اليد وقد بدا عليه التقادم والتفكك في بعض أوراقه، إلا أنه يعد محاولة جيدة للعاملين بالمحكمة، ويقدم كذلك بياناً تفصيلياً للسجلات الموجودة. وتتضمن بنود الفهرس رقم السجل الذي يتكون من أكثر من مجلد، ويطلق عليه "جلد" حسب نظام التصنيف في السجلات، و"رقم الجلد" وهو رقم أجزاء السجل المتكون من أكثر من جزء مجلد، و"السنة" وهي السنة أو السنوات التي تعود إليها الوثائق الواردة في السجل، و"عدد الصحائف" ويعني عدد الأوراق في كل مجلد، ثم "عدد الوثائق" ويعني مجموع عدد الوثائق المدونة بالسجل أو المجلد، ثم ما يسمى ب"الإجمالي العمومي" ويقصد به مجموع المجلدات لكل سجل، ثم "اسم القاضي" الذي يدون فيه اسم القاضي أو القضاة الواردين في السجل، وأخيراً "الملحوظات" التي تشمل بعض الملحوظات والإشارات الجانبية. وتبلغ السجلات القضائية المحفوظة في المحكمة الكبرى بالمدينةالمنورة ما يقارب 900 سجل، تشتمل على وقائع الأحكام الشرعية الصادرة من محكمة المدينة. مصادر نفيسة عضو مجلس الشورى السابق الباحث الدكتور عايض الردادي يرى أن تلك الدراسة تعد واحدة من أنفس المصادر لمن يريد أن يكتب التاريخ من مصادره الموثوقة، وقال "وضعت دراسة الباحث فايز البدراني بداية الطريق لمن يريد أن يكتب من خلال الوثائق الموثقة من ناحيتين: الأولى أنها وثائق محكمة موثقة من قبل القضاة في ذلك الوقت، وكونها لا تتعلق أساساً بالتاريخ وإنما تتعلق بموضوعات اجتماعية أخرى لم تعد الوثائق تفيد فيها كثيراً". والبدراني بهذه الوثائق -كما يرى الردادي- لم يؤرخ ولكنه وفر للمؤرخين الوثائق التي يعتمدون ويستعينون بها على تصحيح الأخطاء التاريخية التي وقع فيها الرحالة من المستشرقين ومن المسلمين؛ عندما كتبوا في رحلاتهم عن التاريخ الاجتماعي لمنطقة المدينةالمنورة، مضيفاً "إن الوضع يستدعي الآن من مؤرخي بلادنا وبالذات فيما يقع خارج المدينتين المقدستين أن يكتبوا التاريخ ولا يعتمدوا على كتابات من قدموا من خارج بلادنا سواء كانوا رحالة أو حجاجاً، لأن أولئك لا يمكن لهم أن يتصوروا الوضع الاجتماعي والتاريخي إلا من خلال البلدان التي قدموا منها سواء كان في العادات الاجتماعية أو في غيرها". وتمنى الردادي أن يتمكن الباحث البدراني من مواصلة بحثه الذي بدأ به، مشيراً إلى أنه سبق وأن طالب بأهمية أن تتاح وثائق محكمتي مكةوالمدينة للباحثين، ويجب أن تؤخذ من الوثائق الواقعة قبل مائتي عام صورة لمكتبة الملك فهد بالرياض، وكذلك إلى دارة الملك عبدالعزيز لتكون متاحة بين يدي الباحثين. وتأسَّف الردادي لعدم حفظ هذه الوثائق بوسائط الحفظ الحديثة؛ فضلاً عن أنها قد سبق لها أن تنقلت في أكثر من مكان داخل المدينة حين هدمت المحكمة القديمة، وبنيت في موقعها الجديد. وأضاف "إن هذه الوثائق التي أخرج منها البدراني جزءاً بسيطاً كشف عن تاريخ المدينة وما حولها يجب أن تعطى عناية أكثر من العناية المعطاة لها الآن". خصوصاً وهي تمثل مصدراً ثرياً موثوقاً من مصادر تاريخ بلادنا. قيمة تاريخية عضو مجلس الشورى المؤرخ أحمد بن عمر الزيلعي أكد أن دارة الملك عبدالعزيز حريصة على جمع الوثائق من جميع الجهات والمؤسسات، حيث إنها تملك إمكانيات كبيرة جداً من ناحية تعقيم الوثائق وحفظها ومعالجة ما فيها، وهي تعرض خدماتها، إلا أن كثيراً من الناس لا يزال متمسكا بالوثائق، مع أن الوثائق التي اعتمد عليها فايز البدراني تعد اليوم قديمة جداً، ولا يمكن أن يكون فيها حقوق للرجوع إليها. وتمنى الزيلعي من الجهات التي تحتفظ بالوثائق - والتي من بينها المحاكم - أن تودعها في دارة الملك عبدالعزيز، أو على أقل تقدير أن تأخذ صور من تلك الوثائق لإتاحتها للباحثين والباحثات، وقال "إن دارة الملك عبدالعزيز لديها إمكانيات الترميم والتعقيم والحفظ في حين أن المحاكم عادة ما تكون ملتزمة بدوام رسمي ومشغولة بقضايا يومية". ويرى الزيعلي "أن القيمة التاريخية التي تحملها تلك الوثائق تدفع كثيراً من الباحثين للوقوف عليها والاستفادة من إشاراتها التاريخية لتقديم المزيد من الدراسات البحثية في كافة الجوانب الحضارية". مصادر تاريخية الباحث في مجال الدينار والدرهم عبد المجيد الخريجي قال إنه كثيراً ما استفاد طيلة السنوات التي تعامل فيها في مجال الدرهم والدينار عبر العصور الإسلامية من الوثائق التي تحدثت عن أنواع العملات المستخدمة عبر مختلف العصور التاريخية، مشيراً إلى أنه حريص على متابعة كل ما يكتب عنها في الوثائق القديمة كي يتعرف على بعض العملات التي يحصل عليها عبر عدد من المزادات العالمية التي يشارك فيها. وأكد الخريجي وهو صاحب متحف الدينار والدرهم للتراث أنه تعرف على قيمة كثير من الدنانير والعملات الإسلامية بعد أن قرأ عنها في المصادر التاريخية، مشيراً إلى أن ما يميز وثائق المحاكم التي تناولتها دراسة الباحث فايز بن موسى البدراني رصدها إضافة للجانب الاجتماعي والقضائي لكثير من ملامح الحياة الاقتصادية في تلك الحقب التاريخية المبكرة من تاريخ المدينةالمنورة.