عبدالرحمن المحسني - شاعر وناقد ينتاب أحمد شعور دائم برغبته في تقري حياته الأولى في قريته..هناك أشياء طمستها الآليات المعاصرة...خيال الفانوس الذي كان يعيش معه في البيت القديم حينما لم يكن غير ذلك الفانوس بإضاءته الصفراء.. يقول: ولا زلت أتذكر رائحة "القاز" الذي كان ينبعث منه، وأمي حينما كانت تميل الفانوس لتسقيه القاز ليضيء لنا ساعة أتذكر بها دائما قول امرئ القيس: يضيء سناه أو مصابيح راهب...أمال السليط بالذبال المفتل ثم لا نلبث أن نغص بعدها في ظلام لا يقطعه إلا ضحكة من هنا وهمهمة من هناك أو "حدوية" تربط لنا أطراف القرية أو طرفا من سيرة عن "أبو زيد الهلالي" التي لا تفتأ أمي ترددها.. ولعلي لا أنسى تلك الليالي التي كانت تأتي "السبار" ويستمر مطر الليل ونستمتع بتنقيط المطر في ذلك الصحن القديم الذي وضعته أمي لكي لا يصل القطر إلى الأرض. إنها الحياة الأولى التي لم تكن بالطبع في وقتها تشكل لي غير حياة طبيعية أعيشها ربما بقدر من الضنك أحيانا، ولكنني الآن اشعر أنني أحن إلى شقائها ،وكلما حركها موقف تملأت نفسي شوقا لها. وبما أني تحدثت عن مصادر الإضاءة القديمة تلك فلعلي أسجل لحظات تطور هذه المصادر ووقعها على وجداني وأنا طفل لم أجاوز الثانية عشرة حين جاءني ابن عمي محمد ليقول إن والدي ووالده أجمعا أن يشتريا "ماطورا" تجاريا "3ك" ليضيء لنا بدل ذلك "الإتريك" الذي كنا نعيش ليلنا به ونستذكر دروسنا عليه، وحينما كنت أذهب إلى المدرسة كانت بقايا الفراشات والطيور الهالكة في باطن الكتب لا تساقط إلا في الفصل- كانت لحظة ذلك الماطور تاريخية بالنسبة لي كأنها من نسج الخيال تماما؛ فهل سأضغط على زر لتضيء لمبة أستمتع بإضاءتها، إنه أمر كالحلم فعلا ولم نكن نشاهد مثل ذلك إلا في بعض التمثيليات التي كنا نشاهدها على التلفزيون "العايدي" الذي يعمل على بطارية السيارة. جاءني ابن عمي بالبشرى وكان محملا ب"لمبات" كنت أعتقد لأول وهلة أنها لبيتينا إلا حينما صدمني بأنها لبيتهم وحده وذهبت لوقتي لآخذ الخبر اليقين من والدي - رحمه الله - الذي كان قد ذهب هو الآخر إلى السوق لشراء ال"لمبات" وللإتيان بال"مسلك" ليعمل "تسليكا" خارجيا للكهرباء، لم نكن نلتفت لوقتها لإساءته لمنظر الجدار الذي لم يكن يهمنا أو كنا لا نرى فيها إلا حسنا فوق سوء، وأضاءت الكهرباء مع صلاة المغرب كانت لحظة لا يمكن أن أنساها ما حييت وأنا أرى ال"لمبات" وهي تنتفض مرة أو مرتين قبل أن تعم إضاءتها البيضاء أرجاء المكان..ولم يكن لنا حديث ذلك المساء وربما ما تبعه من ليال ذات عدد غير هذه النعمة وذلك التطور غير المسبوق.. وعند التاسعة كنت قد أوشكت أن أنام حين غمضت جفون ال"لمبات" مؤذنة ببرنامج يتكرر دوما، ثلاث ساعات إضاءة وساعة في النهار لغسيل الثياب.. وأتذكر أننا وأولاد العم كنا قد وضعنا دورا لمن يملأ ذلك "الماطور" بالماء و"الديزل" وحينما مرت عليه السنون وكبر وهرم كنا نجد مشقة كبيرة في تشغيله وتحريك "الهندل" حتى جاءت مرحلة كهربية أخرى لا تقل صعوبة عن تلك... ربما تكون حديث حلقة قادمة. خروج : أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر في الطفولة يوما على صدر يوم... محمود درويش