مازالت رائحة حجابك عالقة بذاكرتي، عيناك غصن فارع، وابتسامتك حمامة لا يحسن سواها قرع نوافذي، هناك بقيت وحيداً دونك، كل شئ سافر معك، ولم يبقى سوى فقد مر، الفقد الذي سكن فنجان قهوتي حينما أرتشفها كما يرتشف الغريق بقايا روح تزوره في كل ليلة، تحمل صوتك، يديك الضعيفتين، جسدك الكهل، وقطعاً من وجهك المضئ، وثوبك الأخضر الذي اختلطت خيوطه بدمائي، ليبدأ معي حكاية مواساة لاتشبعني!.. فقط أشواق تتوسل لدى سريرك الفارغ، وأريكة تمددت عليها كل التفاصيل الصغيرة، تركتي خلفك يا أمي كل شيء.. الضحكات، والجدران المثقوبة، وقلب مهدم لم يتعافى بعد.. فقط أخذتي معك قلبي.. كيف لي أن أغادر منعطف الرصيف دون أن أجدك هناك تقفين بعيدة تحت المطر، ترمقيني بعينيك وتلوحي بيديك لتودعيني -كما أعتدت دوماً-، أنا كما أنا يا أمي لم أكبر بعد فمازلت طفلاً ينتظر أن تهدهدي من مخاوفه وتهمسي في أذنيه إهدأ.. يغلق "عبد الله" دفتره الذي أعتاد أن يدون فيه أوجاعه.. لتخرج من صدره "تنهيدة" ساخنة ليتمم "رحمك الله يا أمي". يمر الفقد والفراق في حياتنا فيغيّر كثيراً من دواخلنا، من قصصنا اليومية من كل شيء حتى تفاصيلنا.. البعض يتجاوز المحنة، ويستعيد نفسه بعد فاجعة فراق، والبعد يقف كثيراً لدى منعطف الطري ، لا يقوى على تجاوز العلاقات الإنسانية تلك، ويتنوع الفقد في حياتنا فهناك من يفقد قريب، صديق، أو ربما حالة لذيذة كان يعيشها.. فمالذي يغيره بنا الفقد؟. قلب يعاني تبدأ "وفاء السنني" بسرد حكاية الفقد التي خاضتها، وتقول: لم تكن شقيقتي "منال" كأي إنسان آخر في حياتي، فقد كنت أكبرها بسنة واحدة، عشنا سوياً كالتوأم، كنا نتناول طعامنا معاً، ونذهب لجامعتنا سوياً، ونتبادل الثياب، وكل التفاصيل الصغيرة التي في الحياة.. صوتها وضحكاتها مازالت عالقة في ذاكرتي، ومازالت أتذكر كيف كنا نخطط لخروجنا لصديقاتنا سوياً، وكيف سنقنع أمي بذلك، وكنت لفرط حبي لها إذا ارتكبت أي خطأ أو كسرت أي شيء في البيت حينما كنا صغاراً أتحمل أنا العقاب عنها.. كانت توأمي في كل شيء حتى في الخاطبين الشقيقين الذين تقدما لنا، وافقنا حتى نتقاسم الفرح في ليلة واحدة وفي ذات مساء. وأضافت:"حينما خرجنا بسيارتنا في طريقنا للسوق انقلبت بنا السيارة لتموت شقيقتي "منال" وانجو أنا من الموت، لأعيش الحياة وحيدة دونها، ولم أستطع حتى بعد هذه السنوات الطويلة أن أتجاوز حزني لفراقها، على الرغم من أنني أنجبت طفلة وأسميتها (منال)؛ لكنني مازالت أحن إليها كثيراً، وأشعر في بعض اللحظات بأن في الروح غصة لفقدها". عزلة الحزن! وتقف على ذات الجرح في حياتها "هبة يوسف" التي فقدت والدها بمرض نهش قلبه حتى توفي متأثراً بمرضه بعد أن كانت تراه يصارع ذلك المرض لسنوات.. غياب والدها أثر في حياتها كثيراً، حتى أنها عاشت لأكثر من سنة تحيك خيوط الحزن والمرارة التي عزلتها عن المحيطين بها لفترات طويلة، وأصيبت بعدة أمراض لفرط حزنها، إلاّ أنها في الآونة الأخيرة لاحظت وجود أوجاع متكررة في صدرها وحينما لجأت إلى إحدى المستشفيات تفاجئت بأن المريض يخبرها بأن اكتئاب شديد أثر على القلب لديها، وأن هناك أعراضاً مشابهة لمرض والدها، لم تتفاجئ "هبة" بذلك كثيراً؛ إذ كانت تعلم بأن ارتباطها بأبيها أكبر من أن يمضي دون أن تقاسمه كل شيء حتى مرضه. حب قاتل! ولم تقتصر معاناة "عبد الرحمن" لدى الحزن الطويل على زوجته التي عاش معها لأكثر من أربعين سنة، فيروي لنا حكاية الحزن القاتل تلك أبنه "مشاري"، وقال:"تفاجئنا بموت مفاجئ لوالدتي التي توفيت في سريرها دون أن تعاني من أي مرض، وقد عم الحزن الشديد في أركان المنزل لفقد أمي التي كانت امرأة استثنائية وقد لاحظنا بأن حزن أبي كان عاصفاً، فبعد أسبوع من موتها سقط والدي متأثراً بجلطة في القلب، وحينما نقلناه فوراً إلى المستشفى كان قد فارق الحياة، وقد أخبرنا الطبيب بأن أبي توفي بعد صدمة عصبية كبيرة تسببت في إحداث جلطة على فراق أمي، وتوفي على أثرها ليبقى قريباً من أمي التي لم يفترق معها ليوم واحد طوال فترة حياته ولم يتحمل فراقها فغادر معها". قلق الانفصال وتصف "د.سميرة الغامدي" -استشارية الطب النفسي الأسري بجدة- الشعور بالفقد الذي يمر به من يلتصق في الحياة بمن يحبه كمثل الطفل الذي يمر بحالة "قلق الانفصال" التي يشعر بها حينما يتغيب لأيام عن بيته، إلاّ أن الصدمة تكون أوسع حينما يستشعر الإنسان بأنه فارق إنسان يعني له في الحياة لن يراه مرة أخرى؛ ففي الحالات العادية حينما يكون للمرء زميل عمل يتغيب لفترة؛ فإن هناك حنيناً لهذا الزميل ف"تدخل العاطفة" هنا؛ فكيف بمن يفتقد إنسان مرتبط به نفسياً واجتماعياً وعاطفياً وعقلياً؛ فهنا يمر هذا المفتقد بحالة شديدة من الاكتئاب يحدث نوع من الاضطرابات، خاصة الفقد الذي يكون سببه حدوث كارثة، فهنا يمر الإنسان باضطرابات مابعد الصدمة. وقالت:"إن هذا الشخص قد يدخل في موجة أفكار غير صحيحة، وكذلك يشعر بقلق شديد، وكذلك اضطرابات في النوم، ويفقد حياته الاجتماعية؛ فينعزل، وذلك نتيجة الخلل الاجتماعي الذي حدث بموت من يعنون له في الحياة"، موضحة أن درجة التأثير تختلف من شخص لآخر، وذلك بناء على ارتباطنا بمن نفقده، وكذلك الطريقة التي فقدناهم بها.وأضافت:"أن اضطرابات مابعد الصدمة تشكل خطراً حقيقياً على البعض حتى أنه قد يؤذي نفسه؛ لذلك فالوعي لابد أن يتدخل في حالة الفقد التي يمر بها الإنسان، فعليه أن يؤمن بأن هذا سنة كونية، والحياة بها فقد ولقاء ولابد من الرضا، بذلك والإيمان بالقضاء والقدر، فحينما يصل المرء إلى درجة الإيمان بقضاء الله؛ فإنه سيتقبل فراق من يحب في الحياة، مؤكدة على ضرورة وجود أشخاص نحبهم يكونوا قريبين منا في وقت الأزمات حتى يخففوا من حدة الصدمة والشعور بالفقد.