ربما هو الحنين، وربما هو عشق لا ينتهي بحدود، وربما لا يهدأ بال أحدهم ما لم يمتلك هذه أو تلك.. التراث أو الماضي أو الذاكرة القديمة هي مجال اهتمامهم ومحط أنظارهم، لهذا تجدهم ينقبون عنها هنا أو هناك، داخل البلد أو خارجه، لا يهم، المهم أن يجدوا ضالتهم ويتملكونها كتحفة نادرة أو غير نادرة تضاف إلى بقية مقتنياتهم. هذا الحرص لجامعي التراث وأصحاب المتاحف يقابله أناس يرفضون الفكرة جملة وتفصيلا، ولا يحبذوا أبدا أن يقتنوا شيئا يعيدهم إلى تلك الذاكرة القديمة. الأسباب شخصية ونفسية ولها علاقة بحدث ما في حياتهم، فدعونا نرى: مسرجة وفانوس من مكةالمكرمة قال حافظ علي الراجحي ل «عكاظ الأسبوعية»: هذه هوايتي ولعلك لا تصدق أنني لا أستمتع بالمنام فيما لو كانت هناك قطعة تراثية لم أتمكن من شرائها أو اقتنائها، ولا أرتاح ما لم أتملكها لدرجة أنني قد أبيع سيارتي من أجل هذه القطعة أو تلك، ومنذ صغر سني كنت أميل للاحتفاظ بكل ما له صلة بالماضي، سواء كانت أواني أو حتى لعبا، بل أنني مازلت محتفظا ولغاية الآن بكل الأشياء التي كانت تخصني في تلك المرحلة من حياتي. بعد ذلك أصبحت أحتفظ بأي شيء له علاقة بالتراث عموما، ثم تطورت هذه الهواية في المراحل المتقدمة من حياتي للبحث عن تلك الآثار التي تخص الماضي عموما سواء في مدينتي مكةالمكرمة أو العالم كله، ولهذا أمضيت ما يقرب من 40 عاما حتى الآن وأنا أهتم بهذا المجال. ويضيف حافظ، «هنا لدي مثلا الصحون القديمة بكل أنواعها وبالذات النوع المسمى البورسلان، والذي يحتوي على صور لمكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، كذلك لدي نجف كان يخص المسجد النبوي في المدينةالمنورة من عهود قديمة جدا، بالإضافة إلى أطباق الآزنك وهي صحون تركية غالية الثمن وعليها التاريخ الذي يحدد زمنها في تلك الفترة، كما أنني أملك سيفا خاصا من تلك السيوف التي تقص وتقطع الحديد وعمره يقترب من ال100 عام تقريبا»، مؤكدا على أن متحفه يضم العديد من الأدوات القديمة الأثرية مثل مسرجة كانت تستخدم في الإضاءة المنزلية من العهد الفاطمي، بالإضافة إلى قناديل خاصة بالحرم المكي والمدني، وكذلك أوان مؤرخة للتكيات التي كانت في الحجاز ومنها التكية المصرية والتكية التركية وعمرها أكثر من 900 عام، كما يوجد لدي فانوس أوروبي يرجع لعام 1829م ودلة قهوة تحمل اسم (الشيخ محمد) مؤرخة بالعام 1120ه، ومهشة لطرد الذباب تعود للمك فاروق. أغان لطلال ومحمد ومن أغرب ما لدي والحديث ما يزال لحافظ مروحة تعمل بواسطة الهندل وتعد من أندر المقتنيات التي لدي خصوصا أنها تمثل بدايات صناعة المراوح الكهربائية، يضاف إلى ذلك جهاز تسجيل هو الآخر يعمل بواسطة الهندل وجهاز راديو يعمل بالقاز وهي من المقتنيات النادرة بالفعل. كما يوجد لدي جهاز (قران فون أو ما يسمي بالبيك آب) وبرفقته أسطوانات تسجيل نادرة جدا لمطربي الحجاز قديما ومنهم (الشريف هاشم وحسن جاوة وفهد أبو حميدي وهو أستاذ الفنان طارق عبدالحكيم، وسعيد أبو خشبة وعبدالله باعشن وعبدالرحمن المؤذن وإسماعيل كردوس. ولدي تسجيلات لا توجد لدى أي أحد للفنان (طلال مداح، كذلك للفنان محمد عبده، عبدالله محمد، وغازي علي، ومازلت احتفظ بهذه التسجيلات وقمت بإعادة تسجيلها على أشرطة كاسيت وأسطوانات). صحافة وتعليم ويمتد اهتمام حافظ الراجحي إلى الصحف وغيرها، حيث يقول «لدي كافة الأعداد القديمة والإصدارات الأولية لكل الصحف والمجلات في المملكة، بل وحتى مصر مثلا لدي الأعداد الأولى لصحف عكاظ والرياض والمدينة وبقية الصحف السعودية والمصرية، كما أنني أحتفظ بأعداد من الصحافة القديمة كصوت الحجاز والقبلة وعرفات، بل ولدي الأعداد المميزة لكل تلك الصحف التي تمثل تاريخا يحكي عن النشاط الإعلامي والثقافي لتلك الفترة». أيضا لدي المناهج الدراسية التي عاصرت عهد المؤسس الملك عبدالعزيز يرحمه الله في الفترة التي كان فيها (ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها) وهي حقبة تاريخية ترصد اهتمام الملك عبدالعزيز بالحركة العلمية وبنشر التعليم منذ ذلك الزمن، وكانت تلك المناهج تطبع في مصر. كما أنني أمتلك صورة نادرة للملك فيصل يرحمه الله وعليها توقيعه الشخصي، كما أنني حزت على مبخرة فضية كبيرة الحجم موقعة باسم محمد بن عبدالرحمن الفيصل. وحول آلات الطرب والسينما قال: لدي آلة موسيقية اسمها الطنبور عمرها 300 عام، كذلك لدي مكينة سينما تعمل هي الأخرى بواسطة (القاز) ومعها العديد من الأفلام السينمائية التي تخص مرحلة ابتكار السينما، ولدي صندوق (سيسم) مزخرف بالشعر العثماني القديم، وكافة أنواع أقلام الكتابة بكافة صورها وأشكالها سواء المذهب منها أو المصنوع من الفضة أو العادي، يضاف إلى ذلك أن لدى قسما خاصا بصناعة الساعات ويشمل الساعات القديمة التي كانت تستعمل محليا أو عالميا ومنها ساعة تعمل بواسطة ما كان يسمى (الجنزير). كما أنني أحتفظ بالعديد من المخطوطات ومنها مخطوطة (للنسفي) وتعود لأكثر من 1500 عام ومخطوطة للقرآن الكريم مهداة من ملك المغرب إلى (محمد سرور صبان) وعمرها 1200 سنة. أما فيما يتعلق بالسيارات فقد كنت أمتلك سيارات من موديلات (41 و57 و58)، وجميعها سيارات قديمة وبالمناسبة تعتبر مكةالمكرمة من أكثر مدن المملكة التي كانت تحتضن أنواعا مختلفة من السيارات الأمريكية القديمة ومازالت بها حتى الآن. رقعة ولوحة ويحكي الراجحي عن القطعة التي أمتلكها ثم فقدها قائلا: كانت لدي رقعة من جلد الغزال مكتوب فيها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وتحمل تاريخا يعود إلى 1000عام وكانت مكتوبة بخط كوفي غير منقوط تعود إلى عصر الكتابة بدون نقط، وهذه الرقعة من شدة حرصي عليها احتفظت بها في علبة ثم نسيتها عندما عثرت عليها فيما بعد، وعندما عثرت عليها وجدتها اهترأت وبسبب الحرارة والرطوبة، يومها شعرت بالحرقة والحسرة حتى يومنا هذا، وما زلت أتحسر كلما تذكرت أنني سبب تلفها لأنني لم أحاول الاحتفاظ بها بشكل يحميها من عوامل التلف تلك. وعن أكثر المواقف التي بقيت في ذاكرته قال: أذكر أنني بعت شخصا خمس سجادات بمبلغ 3700 ريال، وبعد فترة من الزمن التقيت به فقال لي: هل تعرف بكم بعت السجادات التي اشتريتها منك، وذكر لي أنه باعها بمبلغ 250 ألف ريال، فسألته عما إذا كان قد غشني في سعرها عندما اشتراها مني فرد: بالعكس أنا لم أغشك وإنما كيف تود أن تتعلم؟، أنا أعطيتك موقفا خسرت فيها لكي تتعلم بعد ذلك، ومن يومها أصبحت أتوقف كثيرا حالما تراودني فكرة بيع هذه القطعة أو تلك، ومع ذلك مر بي موقف آخر عندما عرضت علي لوحة فنية زيتية ومعها عشر لوحات أخرى لشرائها بثمانية آلاف ريال، لكنني رفضتها ثم علمت في ما بعد أنها بيعت لشاب سوري اشتراها بذات السعر، وبعد أن اشتراها اتضح له أنها لوحة أصلية للفنان فان جوخ وعرضت عليه 35 ألف دولار لبيعها إلا أنه رفض. الحلم القادم ويتطلع حافظ الراجحي إلى تحقيق الحلم الكبير بالنسبة له قائلا: أتمنى أن يأتي اليوم الذي أستطيع فيه إنشاء متحف في مكةالمكرمة لا يتضمن المقتنيات فقط، بل يتضمن كافة العادات والتقاليد وطبيعة الحياة الاجتماعية في العاصمة المقدسة، وكذلك أنواع الطعام والمشروبات، وكافة أنواع الحرف القديمة حتى يعيش زائر هذا المتحف وكأنه لو كان على الطبيعة، ولكن مثل هذا المشروع مكلف ويحتاج إلى دعم كبير جدا. لا أحبذ الذكريات وبعكس الراجحي، يقول صالح محمد البخاري «لست ممن يرغب دائما في الاحتفاظ بتلك الأشياء التي تخص الماضي أيا كانت، سواء ما يتعلق منها بي شخصيا أو بغيري لأنني وبصراحة لا أحب استرجاع ذكرياتي». فمثلا: لا أملك أي صور تخص والدي أو جدي لأنني قمت بحرق صور الوالد حالما توفي ولم أحاول أن أحتفظ حتى بجهاز الراديو الخاص به، ولهذا سمحت لمن يود الاحتفاظ من أسرتي أن يأخذ ما يشاء شريطة ألا يذكرني بها في يوم ما. غيبوبة ابني وغير بعيد عن محمد البخاري، قال فؤاد عبدالعزيز الأحمدي: كانت هذه الهواية تستهويني قبل عشرة أعوام تقريبا، إلى درجة أنني كنت أنفق كامل مرتبي من أجل الحصول على قطعة تراثية من هنا أو هناك، وتمكنت من جمع الكثير من المقتنيات لدرجة أنها تراكمت في منزلي وأصبحت في كل مكان، بما في ذلك غرفة النوم، وكنت أمتلك الكثير من الأشياء القديمة والنادرة التي ربما سافرت لها خصيصا، لكن وبصراحة الاهتمام بمثل هذه الأشياء يتطلب إمكانات مادية ومعنوية وتحتاج إلى دعم كبير خصوصا عندما لا يكون لديك مكان لكي تحتفظ بهذا الإرث فيه تماما، ولهذا كان هذا الوضع سببا في يوم ما في ابتعادي نهائيا عن الاستمرار في هذه الهواية وإن كان هناك حادث بعينه وراء هذا العزوف، إذ حدث في مساء يوم من الأيام وبينما كانت زوجتي تحمل طفلي الأول والرضيع تعثرت في ذلك الركام من القطع وسقطت هي وابني حيث كانت إصابة زوجتي طفيفة لكنها بالنسبة لطفلي كانت صعبة وجاءت الإصابة في رأسه، حيث بقي في المستشفى وفي حالة غيبوبة ثلاثة أشهر وبعدها تماثل للشفاء ولله الحمد، ومنذ تلك اللحظة كرهت تلك الأشياء وقمت ببيع بعضها وإهداء بعض أصدقائي وأقاربي الكثير منها وألغيتها من ذاكرتي واهتمامي.