من كان يعتقد أن المدنية قد قضت على الريف بالضربة القاضية فهو لم يشاهد أناسًا لا يزالون يعيشون بفكر القرن المنصرم. ومن كان يتوهم أن الخلاء قد أصبح موطنًا للوحوش الضارية فهو حتما لم يشاهد عبيد الحاتمي، الذي ارتضى العيش وحده في أرض تقع 55 كم جنوب محافظة الليث. لم أكن أتوقع أن هناك من لا يزال يعيش في الخلاء وتحت ظل سيارة حتى شاهدت ذلك بأم عيني بعيدًا عن التهويل، حيث عاش شريدًا في الجبال وقبل أعوام أراد العودة قريبا من قريته السابقة فعاد واستخرج بطاقة رسمية له ومكث بجوار أغنامه في البراري البعيدة. تريد زوجة؟! هكذا سألته فأجاب بالنفي، وأردف: لم يعد في العمر بقية حتى أتزوج، فقلت له: هل تريد منزلا؟ فتهلل فرحا وقال أما الآن فلا. فقد بنت لي الجمعية الخيرية سكنًا مريحًا بعد أن سأمت من العيش تحت ظل سيارتي المهترئة، التي لم تكن تقيني شمسا ولا ترد عن جلدي بردا، حينما تشاهد قطع الحطب المتناثرة بجوار موقع النار تتملكك الدهشة، حيث إنها المصدر الوحيد للتدفئة وبراد الشاي بالجمر.. والطبخ أيضا. ومع ذلك فإنه سعيد بهذه الحياة البعيدة عن الضوضاء واللأواء لا يعلم عن أخبار العالم المتضارب الغارق في الفوضى والحروب إلا في نهاية كل شهر هجري، حيث يستقل سيارة أحد أصدقائه ليصل المدينة ويصرف مستحقاته من الضمان الاجتماعية البالغة 800 ريال ينفق منها 80% على شراء أعلاف وشعير لشويهاته. ورغم أن الحاتمي لا يجد مكانا يخبئ فيه أوراق الشاي والسكر حيث تلتهمه الفئران إلا أنه سعيد بأن يجد من يشاركه في طعامه وشرابه. قصة غريبة.. ومثيرة قصة الحاتمي غريبة ومثيرة فهذا الرجل الذي كان يسكن أعالي الجبال ملك في وقت من الأوقات أكثر من 400 رأس من الأغنام ظلت تتناقص على مدى 20 عامًا حتى وصلت إلى 40 رأسًا كان نصيب الأسد منها للصوص والبقية للموت. زاد من تناقصها عدم اجادته للعد والحساب. والحاتمي الذي تجاوز عمره 60 عاما عشق حياة الخلاء والوحدة مؤثرا الابتعاد عن الناس متمثلا قول الشاعر: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى = وصوّت إنسان فكدت أطير جولتنا التالية بقرية جدم التي تبعد عن الليث بنحو 75كم حيث عبر ثابت الفهمي عن معاناته كالكثير من أبناء هذه القرى، حيث وجدته مقيمًا وحده بأطراف الوادي ويعكس منزله المكون من صفيح من الحديد المغطى ببعض الكراتين والمفارش البالية حجم الظروف المعيشية التي يمر بها. ويقول الفهمي: لقد تعودنا على العيش في البادية وإن كنا نعاني الشيء الكثير من الحالة الرثة لهذه المنازل فحين نزول الأمطار نكون في وضع سيئ جدًا وصعب، حيث إننا داخل المنزل أو خارجة فإن الحال واحد وذلك لكون تلك الأسقف التي بنيت من الكراتين لا تقينا أو تحمينا من تلك الأمطار التي أغرقت وجرفت الكثير من أثاثنا وحاجاتنا القديمة والبالية إضافتنا إلى أنها لا تحمينا أو تقينا من برد الشتاء القارس. وأما في الصيف فهذه المنازل لا تكاد تحمينا من لهيب الشمس الحارقة. وأكثر ما يخيفنا وخاصة في أوقات الليل هو تعرضنا لهجوم بعض الحيوانات المفترسة كالذئاب، حيث إن هذه المنازل والمساكن غير آمنة. وقال: إن هناك بعض الأسر لديها المساكن التي بنيت من الطوب أو الحجر أو البلوك، وقد بنيت بشكل متواضع لدرجة أنها مع مرور الوقت أصبحت تشكل خطرًا على أصحابها، حيث إنها قد تنهار في أي لحظة. وأشار إلى أن أصحاب هذه المساكن لا يملكون مصادر للدخل لتعينهم على تحمل أعباء المعيشة، إضافة إلى أن كثيرًا منهم استدان مبالغ من المال لكي يتمكن من بناء ذلك المسكن ليؤويهم هم وأسرهم حتى أن كثيرًا منهم لم يتمكن من سداد ذلك الدين لصاحبه حتى الآن من ضيق اليد وعدم المقدرة والاستطاعة في ذلك. لا يعرفون المطاعم والوجبات السريعة وفي قرية سلبة بني يزيد التقينا قاسي اليزيدي -الذي اشتق والده اسمه ليواجه قسوة الحياة- حيث قال: نحن نعيش وكأننا في العصور القديمة فنحن لا نعرف المطاعم أو الوجبات السريعة وأنواعها المتعددة والفاخرة، حيث إن طعامنا عبارة عما تجود به علينا حفنة أغنامنا من الألبان واللحوم إضافة إلى الرز والخبز الذي يعد ويطهى على النار والحطب، فنحن لا نملك أدوات المطابخ الحديثة، فمطابخنا صنعت من الشباك الحديدية لحمياته من الحيوانات، وقد حفظ فيه بعض القدور والصحون وأدوات المطبخ المتواضعة جدًا والقديمة فقط. وأردف: لا تكاد تعرف الابتسامة شفاه أطفالنا وأسرنا مع حالة الفقر المدقع التي نعيشها نحن وهم، فنحن لا نعرف الإضاءة الكهربائية، حيث لا نمتلك الأدوات الكهربائية المختلفة كالمكيفات ولمبات الإضاءة، حيث نعتمد في إضاءتنا على الفوانيس البدائية التي يتم إشعالها بواسطة القاز. وأما وسائل الترفيه كالتلفزيون وغيره فنحن لا نعرفها ولم نشاهدها. ويسرد سعيد بن شدة من قرية جمة عن حياة الشظف انه سار على قدميه في سنوات الجوع من حدود الطائف حتى شرق الليث لمسافة تزيد على 20 كم في نهار مضان وكاد خلال هذه الرحلة الشاقة ان يهلك عطشا لإصراره على الصوم. وقال كانت الرحلة عبر الطرق الجبلية وحينما وصلت كاد يغمى علي وتم اسعافي ورشي بالمياه حتى فقت. واشار إلى أن إفطارهم يعتمد على التمر والماء والخبز المصنوع في الرماد، وذلك خلف الاغنام في المراعي بعد أن يتركوها ترعى في حشائش الجبال ثم يغتنمون الفرصة لالتقاط الأنفاس والأكل ايضا. وأبان أن القرية تحتاج إلى مركز صحي يتم علاج فيه الحالات المرضية المعدية، حيث تكثر الامراض الوبائية بالقرية، حيث ظهر مرض الالتهاب الكبدي بالقرية والعنقز والحصبة. وقال إنه شارف على الهلاك قبل عامين حينما لدغته عقرب واضطر للذهاب الى مستوصف سلبة للعلاج حيث استغرق وصوله نحو ساعة ونصف.