الثورة التونسية الحالية هي الحدث الأشد حدّة بين عدة أحداث أخرى مهمة جدا تجري في العالم العربي. جنوب السودان ينفصل والعراق غير مستقر، والجزائر على وشك الانفجار. كل هذه الأوضاع والأحداث هي مؤشرات على أزمة كبيرة جدا ستثمر عن تغير كبير في المنطقة في غضون السنوات وربما الأشهر القليلة القادمة. الأكيد بين كل هذه الاحتمالات ألا أحد مستعد لما سيأتي وأن الأمور ستسير وفقا لصدف وظروف ومعادلة معقدة من الصعب جدا التنبؤ بنتائجها. ما يجري الآن هو حالة من الاحتقان الذي وصل مداه. حالة هي نتيجة لسنين وربما عقود وربما قرون من الاستبداد. كثير من المحللين وصفوا الحالة العربية اليوم بأنها حالة استثنائية في العصر الحديث، فغالب دول العالم تعيش اليوم في ما يمكن تسميته بالعالم الجديد، عالم الدولة الحديثة، دولة القانون والديموقراطية والحريات والمجتمعات المدنية، وحدها الأنظمة العربية والإفريقية التي تدعي الديموقراطية لا تزال تعيش في عالم القرون الوسطى، حيث يسيطر حكم الفرد وتتجاهل الشعوب وتستخدم القوة والقمع في التعامل معها. هذه الحال لا يمكن أن تستمر بأي شكل من الأشكال في عالم مفتوح ومتصل ويتعذر على أحد فيه أن ينعزل وينأى بنفسه عن الحركة العامة والخط الذي يسير فيه العالم. المشكلة العربية هنا تكمن في أن التغيير قادم ولكن لا أحد يمسك بزمامه، هذا النوع من التغيير يمكن أن يصبح فوضى خلاقة أو غير خلاقة لكن الأكيد أيضا أن لا إصلاح يمكن أن يتم إلا من خلال هذه الفوضى. تعذّر على الثقافة والمجتمعات العربية أن تتغير وتنمو بشكل طبيعي، جذر الاستبداد خنق كل حراك طبيعي ومنع المجتمعات من أن تسير في الطريق الطبيعية للتقدم. كانت ولا تزال مهمة الاستبداد في بعض الأنظمة العربية التي تدعي الديموقراطية هي شلّ الحركة ومحاولة إبقاء كل شيء على ما هو عليه. الشعوب العربية تشبه إنسان وُضع في جسم حديدي صلب يمنع نموه ويملؤه بالأمراض في ذات الوقت. بعد أن ينكسر هذا القيد سيخرج الإنسان المريض، العاجز عن السير ولكنه في ذات الوقت سعيد بالحرية والتخلص من القيد. سيبقى هذا الإنسان المعاق في رحمة الظروف المحيطة به ومصادفات التاريخ التي لا يستطيع أحد التنبؤ بها. ولكن الأكيد أيضا أن هذا الإنسان لن يتشافى إلا بالتخلص من جسم الحديد الذي يحيط به. الشعوب الشابة العربية مثلها مثل كل شعوب الأرض لا يمكن أن تدار بعقليات القرون الوسطى. هذه العقليات عاجزة عن إدارة شعوب العصر الحديث. عقليات القرون الوسطى مريضة بالاستبداد ولا تفهم أفكار المساواة وتحتقر الشعوب. هذه العقليات نشأت في عصر كانت العبودية أمرا طبيعيا وكان الاستبداد هو القاعدة وكان الإنسان الفرد غائبا عن الوجود. عقليات القرون الوسطى التي تدعي الديموقراطية مريضة بحكم الفرد ودوام السلطة. هذه العقليات تحتوي في عمقها على ما يصادم ويعارض فكرة المساواة والعدالة والإنسانية. عقليات لا تستوعب فكرة الشعب الذي يدير نفسه ولا الحاكم الذي يعمل في خدمة الناس لا العكس. هذه العقول المريضة توقف حركة التاريخ بقوة النار حتى الآن ولكننا نستطيع القول إنها أوشكت على استنفاد آخر قطرة من قوة النار التي عاشت عليها وبها. هذه العقليات تضع الشعوب في طريق مظلم لا أحد يعرف كيف سيكون الخروج منه، ولكن الأكيد أنه لا يمكن الخروج إلا من خلال هذا الطريق الموحش. الشعوب التي في خطر هي الشعوب التي تقف مؤسسة الدولة فيها على كف عفريت. في خمسة عشر يوما سقط النظام التونسي وقبله سقط النظام العراقي في أيام قليلة ونعلم أن كثيرا من الأنظمة العربية التي تدعي الديموقراطية ستستغرق مددا أقل لتهوي هي الأخرى. هذه أنظمة هشّة جدا وغير شرعية ومريضة حتى النخاع. وبسقوطها تحل شعوبها في الخواء الحر المخيف. كل الاحتمالات مفتوحة ولكن أهم ما ستحتاجه تلك الشعوب في الفترة القادمة هو فكرة السلم. السلم الذي لو استطاعت تحقيقه لخفّت كثيرا أضرار الخروج من عنق الزجاجة. من غير المنطقي توقع السلم من كل هذا العنف المكبوت ولكن الأمل الوحيد يكمن في الروح الإنسانية المحتوية بطبيعتها على الرحمة. الروح التي لا تزال تكره الدم والعنف والظلم. الروح التي لا تزال تكره الألم وتبحث عن اللذة. هذه الطبيعة هي الوحيدة التي يمكن أن تخفف أضرار المستقبل المظلم وتحمي الناس من أكل بعضهم بعضا. لا يزال التونسيون يسيرون في طريقهم المظلم للحرية بروح متسامحة وسلمية. الشعب التونسي من أقل الشعوب العربية فُرقة وانقسامات ومن أكثرها تعليما وتحضرا وربما هذا ما سيساعدها في الخروج من أزمتها بأضرار أخف. كثير من الشعوب العربية الأخرى، كما هو حال الشعب العراقي، تحتوي على تركيبات جعلها الاستبداد متنافرة ومحتقنة ضد بعضها وهنا تكمن احتمالات السيناريوهات الأكثر خطورة. ما يجري اليوم هو أمر يخرج من يد الجميع ويفلت من قبضة أي جهة أحادية ولم يعد أمام الجميع إلا شراكة الجميع للخروج من الدمار الشامل. هل وصلنا اليوم لما يمكن تسميته الخيار الثاني المقبول لدى الجميع. هل سيصبح السلم والتعاون هما الخيار الثاني للكل بعد أن تعذّر الخيار الأول المتمثل في سيطرة طرف واحد على الجميع. نقلا عن الوطن السعودية