لا توجد فوضى في العالم شبيهة بفوضى المجتمعات العربية، في لحظتها الراهنة. فوضى تتجلى في شتى الميادين من حياتهم المعاصرة. السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والدينية. ولا أظن أنها مرشحة للانحسار أو التراجع، بل كل المؤشرات الواقعية تشير إلى أن هذه الفوضى من فرط إيقاعها السريع، فإنها تسير إلى تشظيها وتمزقها في جميع الاتجاهات والدروب. في هذه المقالة سأركز على بعض تجليات هذه الفوضى، لأدلل على مدى عمق ما يعيشه العرب من خلل في التفكير والمغالطة في ما يجري من حولهم، وفي قصر النظر في قضاياهم الأساسية التي من أهمها التنمية الشاملة. وقبل ذلك لنحدد ماذا تعني مفردة الفوضى هنا؟ تعني بكل بساطة غياب النظام، وهو في تجلياته المادية يعني الدولة وسيادة القانون والمؤسسات، يعني التخطيط والتنظيم لمستقبل واضح في الأذهان والعقول. يعني التصالح مع الماضي، ونبذ خلافاته، وأخذ ما وافق منه لبناء المستقبل، يعني التحلي بروح المسؤولية الأخلاقية والتفكير المنهجي. كل هذه المعاني ليست ضرباً من الأمنيات إنها إحدى الحقائق الكبرى التي نجحت الدولة الحديثة في أوروبا وأمريكا، منذ ما يقارب القرنين، في بنائها إلى الآن. وحتى لا أشط كثيراً، دعوني أبين بمثالين اثنين القصد من حقيقة هذه الفوضى هنا. أول هذين المثالين يكمن في المقارنة بين مصطلحي “التعددية الثقافية و”الطائفية”. والسؤال هنا: لماذا في الخطاب الغربي تعالج قضايا الأقليات العرقية والإثنية والقومية ضمن دائرة المصطلح الأول، بينما في الخطاب العربي لا تجد سوى اختزال تبسيطي لهذه القضايا ضمن دائرة مصطلح الطائفية، على اعتبار أن الملمح العام لهذه القضايا في الخطابين متشابه نوعاً ما، كما سنوضح؟ من المسؤول؟ هل تقع اللائمة على الغرب الذي قسم الأوطان ثم وطد هذا التقسيم بخطاب استشراقي أغلب مصطلحاته يتلاءم وهذا التقسيم كما يعتقد بعض المفكرين؟ أم تقع اللائمة على العرب الذين استثمروا الثغرات التي خلفها هذا التقسيم، لتوظيفه لاحقاً؟ لنخرج من هذه الثنائية التي استنفدت طاقتها، إلى ما أظنه أكثر منهجية من خلال المقارنة التاريخية كي نجيب على السؤال السابق. ربما من البدهيات التذكير أن مشروع بناء الدولة/ الأمة أو الدولة القومية في أوروبا كان بناء تراكمياً، قام بعد صراع مرير مع مشروع آخر هو مشروع الرابطة المسيحية (أساسه فكرة طرحها القديس أوغسطين) الذي يعني في جوهره ربط المجتمعات الأوروبية دينياً وسياسياً بسلطة الكنيسة. الأول بقيادة أمراء وملوك أوروبا، والآخر بقيادة البابا. ومع نهاية القرون الوسطى بدأت تظهر ملامح هذا البناء بعد تراجع هيمنة الكنيسة ومشروعها، ومن أهم العوامل التي ساعدت على قيام هذا البناء بروز فكرة الحدود ضمن نطاق سلطة الملك أو الأمير بموازاة القضاء على سلطة الإقطاعيين من طبقة النبلاء. ضم الأقاليم المتجانسة إثنياً ودينياً تحت سلطة واحدة. ربط الأطراف بالمركز من خلال إنشاء مؤسسات ودوائر كأنظمة الشرطة والبنوك والضرائب. صعود الليبرالية وانتشارها في أوروبا الغربية. وعندما نضجت هذه العوامل احتاجت الدولة إلى عقيدة مشتركة تشد أفرادها إلى أفق أيديولوجي واحد، وكانت القومية هي الهوية الثقافية التي تأسست عليها الدولة، رغم اختلاف مسيرة تشكلها بين الألمان وبين الفرنسيين وبينهما وبين الإنجليز. لاحقاً عندما انتقلت المجتمعات الغربية منذ تسعينيات القرن المنصرم إلى ما يعرف في الأدبيات الفكرية بمجتمعات ما بعد الحداثة، برزت تصدعات في هذه الدولة وثغرات لم تكن سابقاً تظهر. من أهمها بالطبع انبثاق الهويات الثقافية للأقليات. هذه المشكلة بعدما أوجدت حروباً عرقية وطائفية كحروب البلقان، طرح الفكر الغربي الليبرالية الفردية كأزمة تعاني منها الدول الأوروبية، وقد تعددت الحلول حيث كانت الليبرالية الاجتماعية هي القاعدة التي انبنت فوقها مناقشة أزمة هذه الهويات. مصطلح التعددية الثقافية (multiculturalism) جاء ضمن سياق هذه المناقشة. وجرى استخدامه باعتباره تعبيراً عن التنوع الثقافي للمجتمع، ويراد به -حسب بعض النظريات- “التعايش بين الجماعات المتمايزة دينياً أو إثنياً أو عرقياً التي يرى أعضاؤها تبايناتهم الثقافية عن غيرهم من زاوية كونها تشكل عناصر رئيسة في هويتهم”. هذا التعريف لم يكن نظرياً بل هو نتاج نظر قائم على أرض الواقع، متولد منه بالقدر الذي هو ينظمه في الفكر ويؤثر في رسم سياساته واقعياً. هذا النظر قائم على “فكرة اقتسام السلطة ما بين الجماعات الثقافية في مجتمع ما على أساس المساواة والعدالة الثقافيتين” وذلك ضمن حيادية الدولة. هذا التساوق والانسجام بين الفكر والممارسة في الخطاب الغربي هو عبارة عن تاريخ من التراكمات الموضوعية التي لا تحتاج إلى قطيعة بين ماضيهم وحاضرهم بقدر ما كانوا يحتاجون إلى نقد تصحيحي من الداخل يتوافق وظروفهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية التي يخضعون لها من العمق. بالمقابل، حين نعود إلى مصطلح الطائفية هنا نتساءل هل تتطابق السمات التكوينية للأقليات في المجتمعات العربية كما هي عند الغرب حتى تصح هنا المقارنة؟ بالتأكيد لا يخلو أي مجتمع منها ولا تخلو بعض الصفات المتشابهة فيما بينها. لكن الفرق يكمن في الظرف التاريخي الذي يحدد مسيرة الطرفين. هناك نص للمسعودي في مروج الذهب (ج2) يستشهد به الباحث فاضل الربيعي في سياق حديثه عن قدرة الدولة العباسية وخصوصاً في عهد الخليفة أبي العباس السفاح على إدارة الصراع القبلي الموروث بين القبائل بحيادية تامة، مستفيدة من تجربة سقوط الدولة الأموية من جراء إثارة العصبيات القبلية كما يقول المسعودي. والغريب أن الخليفة أدار في مجلسه أقذع الأدبيات الهجائية. لكنها لم تتحول إلى ضغائن وحروب إلا لاحقاً عندما انحازت الدولة كلية إلى طرف دون آخر. ينبهنا هذا الاستشهاد إلى أن مصطلح الطائفية كما يؤكد فاضل الربيعي من منظوره الأنثروبولوجي له رواسب ثقافية في قاع الموروث تتجلى في أسطورة الصراع الأسطوري بين الراعي والفلاح في الأناشيد السومرية. إن حدة هذا المنظور في تصوري هو أنه يفتح الباب واسعاً على دراسة الطائفية للبحث عن الجذور التاريخية لهذه الظاهرة بما يوسع من فهمنا لها من العمق. إن هذا التباين بين الخطابين السياسيين يوضح مدى الانسجام والنقد المستمر للدولة عند الغرب، والانقطاع والفجوات والتباينات بين النظر والممارسة عند العرب. أما المثال الآخر ففي مقالة أخرى.