ثمة تعددية إثنية واجتماعية لا جدال في وجودها وتجذرها في هذه المنطقة. وثمة ارتباط أكثر وضوحاً بين هذه التعددية وإشكالية الهوية والمواطنة. وهذه مسألة باتت تعكس نفسها على نحو مباشر على مقاربة الاستقرار الوطني والإقليمي. وهناك مصطلحان عادة ما يتم الخلط بينهما، وهما التنَوّع والتعددية. وفي حقيقة الأمر، فإن مصطلح التنَوّع أقرب إلى العلوم الطبيعية منه إلى الاجتماعية. وهو، في الأصل، قد جاء من هناك. وعادة ما يتم استخدامه للإشارة للمجموعات السكانية المختلفة، التي تقيم سوية في رقعة جغرافية واحدة. ولاحقاً، بات مصطلح التنَوّع كثير التداول في الدراسات الانتروبولوجية. ومبدئياً، فإن هذا المصطلح يُمكن أن يستوعب من المضامين، ما يفوق ذلك الذي قد يستوعبه مصطلح التعددية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه فيما يتعلق بالنقاش الخاص بالتركيبات الإثنية والثقافية، فإنّ مصطلح التعددية (pluralism) يبدو أكثر جدارة كعنصر في أدوات التحليل. إنّ التعددية تُفصح عن واقع قائم، بقدر ما تُشير إلى خيار أيديولوجي. وإضافة إلى مصطلحي التنَوّع والتعددية، ثمة حضور أقل وضوحاً لمصطلح "التباينات" الإثنية والثقافية. وعلى خلاف المصطلحين السابقين، فإنّ هذا الأخير يُشير بالدرجة الأولى إلى غلبة البُعد الصراعي على الاتجاه التعاوني، أو التعايشي، بين المجموعات الإثنية والثقافية. إنه يُؤشر على نحو خاص إلى الأشكال الخلافية، أو الأنماط السالبة للتفاعل. وإذا انتقلنا من المصطلح إلى حيث نطاقه، نجد أنفسنا أمام إشكالية أكثر بروزاً، تفرض من التحديات المنهجية ما يفوق تلك التي تُعنى بالمصطلح ذاته. ونحن هنا أمام أربعة مستويات جيوسياسية لقضية النطاق: وطني، وقومي، وديني عابر للقوميات، وعالمي. وإذا استثنينا المستوى الرابع، أي العالمي، فإنّ المستويات الثلاثة الأولى لا ترتبط فيما بينها بعلاقة تعايشية، بل إحلالية، بمعنى أن أحدها حل ضمناً محل الآخر واستحوذ على مكانه. وهناك تجليات عدة لهذه القضية: ثمة دولة وطنية لا هوية قومية خاصة بها، على الرغم من كونها دولة ذات سيادة. وثمة هوية قومية جامعة، لا دولة موحدة لأبنائها، ولا ترجمة جيوسياسية لفكرتها. وهناك هوية دينية مشتركة، إلى جنبها هويات قطرية وقومية، تتعايش معها، أو تساكنها. وقد تصطدم معها على نحو تعسفي. وعلى الرغم من ذلك، لا بد من حسم قضية النطاق، بما هو البوتقة التي تتفاعل فيها المجموعات البشرية، ببنيتها التعددية، إثنياً وثقافياً. والسؤال هو: هل يكون انتماء الإنسان للجغرافيا أم للعرق أم للثقافة؟. وماذا عن الجمع بين كل ذلك؟. إنّ التعددية في منطقة الخليج، تُمثل عينة مصغرة لما هو عليه حال الوطن العربي، بغالبية أقطاره. وبلاد العرب لا تُُمثل استثناءً إثنياً، ولا هي بالاستثناء الثقافي، فثمة مناطق عديدة في العالم تعيش وضعاً مماثلاً، بل ربما واجهت من التحديات، المتأتية على خلفية بنيتها التعددية، الإثنية والثقافية، ما لم نواجهه بعد نحن العرب. وعند البحث في إشكالية تفاعل المجموعات الإثنية والثقافية مع نسيجها الاجتماعي، أو لنقل محيطها البشري الجغرافي (الجيوحيوي)، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل نحن بصدد أمة، أم مجموعة أمم، أم مجموعة شعوب؟. لقد انتهى الفكر القومي العربي، منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، للأخذ بالمفهوم الطبيعي للأمة (الأمة بما هي ظاهرة طبيعية)، على النحو الذي بلورته المدرسة الألمانية (the German conception of nationalism). ولا زال هذا المفهوم هو السائد لدى غالبية القائلين بالفكرة القومية العربية، وذلك على الرغم من أن القناعات السائدة لدى الألمان اليوم قد تبدلت على نحو ملحوظ، فيما يتعلق بمفهوم الأمة والوطنية. هذا مع ضرورة التشديد على أن الأمة الألمانية قد شهدت، في القرن التاسع عشر، على وجه الخصوص، نهضة فكرية هائلة، حيث زخرت الصلات الأدبية بأعداد وافرة من الفلاسفة والمفكرين، الذين أثروا الحياة الفكرية في أوروبا والعالم قاطبة. ولقد جادل البعض في الربط بين اللغة والأمة، وإن الأخرى تجد مشروعية شرطية في الأولى. كما عارض القوميون العرب، منذ ثلاثينيات القرن العشرين، المفهوم الفرنسي للأمة، الذي بلوره بوجه خاص ارنست رينان (Ernest Renan )، والقائل بأن الأمة تتشكل كنتاج للإرادة الجماعية الحرة (the collective will of the people) لمجموعة من الناس تعيش سوية. وبطبيعة الحال، فإنّ المفهوم الطبيعي للأمة يعني احتفاظاً مستديماً بالتقسيمات الرأسية، في صورها الإثنية - العرقية، التي قد تقود، في حال فشل مقاربة الخيار التعددي فيها، إلى انتشار غير محسوب للتوترات الاجتماعية، أو نزوعاً نحو مركزية قومية، تُهيمن فيها القومية الكبرى على سائر القوميات. وفي الترجمة العربية، اصطدم هذا الخيار منذ البدء بمفهوم ثقافي للأمة، إرادي وتوافقي، تبنته غالبية العرب، كجزء من عقيدتها الدينية. وفي وقت متزامن، اصطدم المفهوم الطبيعي للأمة بتحدٍ آخر، مثلته الدولة الوطنية. وربما نجد قدراً أقل من الإشكاليات في المفهوم الفرنسي للأمة، الذي بلوره ارنست رينان، قياساً بالمدرسة القومية الألمانية. وذلك على خلفية استناده إلى مبدأ التوافق أو الإرادة الحرة للمجموعات البشرية. وهو يلتقي على هذا الصعيد مع المفهوم الثقافي للأمة، ولكن دون أن يصل إليه تماماً. إن المفهوم الطبيعي للأمة ينطوي ضمناً على علاقة تصادمية مع المكان، في حين يبدو مفهوم رينان أسيراً للمكان أو لنقل للجغرافيا. وهذا الأخير أقرب إلى مفهوم الدولة الوطنية، ولكن ليس في خصوصيتها العربية. في المقابل، لا يبدو المفهوم الثقافي للأمة أسيراً للمكان، لكنه لا يحمل، في الوقت ذاته، مضموناً تصادمياً معه. فالجغرافيا ليست وعاءً لهذا المفهوم، على النحو الذي قالت به المدرسة الفرنسية، ولكنها يُمكن أن تكون جزءًا عرفياً، أو متعارفاً عليه، منه. فالإيكولوجيا فاعل أصيل في التكوين الثقافي للأمم. أو لنقل مؤثر أصيل في هذا التكوين، وفي شكله النهائي. وهنا، نصل إلى قضية جوهرية وهي خصوصية المكان. إن هذه الخصوصية تُمثل رافداً للهوية الثقافية، واستتباعاًً للمفهوم الثقافي للأمة، حتى بلحاظ أن لهذا المفهوم ثوابته المجمع عليها. وإذا انتقلنا من الإطار العام للتوصيف، إلى حيث خصوصية البناء الثقافي ذاته، يُمكن القول إن المفهوم الثقافي للأمة بمقدوره التعايش مع الآخر المتباين فكرياً، وذلك من حيث الإقرار بخصوصيته، وحقوقه الإنسانية العامة. كذلك، تتلاشى في إطار هذه المقاربة الضغوط النابعة من التنَوّع الإثني، أو لنقل التعددية الإثنية، ولكن دون أن تختفي تماماً. فالمفهوم الثقافي للأمة يُقر بحق التمايزات العرقية والقومية، وما تُمليه من خصوصية في السلوك والتقاليد، والانتروبولوجيا الاجتماعية. إن ميزة هذا المفهوم هو قدرته على ضبط إيقاع التمايزات الإثنية - العرقية، استناداً إلى القواسم الفكرية والمسلكية المشتركة بين أتباعه، بشتى أجناسهم. في المقابل، يواجه المفهوم الثقافي للأمة تحدياً على مستوى الضغوط النابعة من التعددية الثقافية. وتتبدى هذه القضية، بصفة أساسية، بالنسبة للأقليات الدينية. ومرة أخرى، فإن احترام خصوصية الآخر، والإقرار بحقوقه ومشروعية تمايزه، على النحو الذي يحمله المفهوم الثقافي للأمة، يُمثل ضمانة لا لبس فيها للعيش المشترك، الأمر الذي يحد من الضغوط النابعة من التعددية الثقافية. إن المفهوم الثقافي للأمة، يقودنا إلى قضية جوهرية، ذات صلة بالتعايش الوطني، هي قضية المواطنة. لقد انتهينا إلى القول بأنّ إحدى ميزات هذا المفهوم هي قدرته على التعايش مع المعطى الجغرافي، أو لنقل خصوصية المكان، على نحو وسطي، بين المدرسة الألمانية التي تتجاوزه، والفرنسية التي تجعل الأمة حبيسة له. وخلصنا أيضاً إلى أن هذا المفهوم يقر بالتعددية الإثنية، ولا يرتعب منها، لكون المنضوين في إطاره يتمتعون بقواسم فكرية ومسلكية مشتركة، تحد من الضغوط المتأتية من هذه التعددية. وأوضحنا، بعد ذلك، أن التعددية الثقافية مكفولة في هذا المفهوم، على نحو لا لبس فيه. وانسجاماً مع المعطيات الثلاثة، سابقة الذكر، وفي ضوئها، تتبدى قدرة المفهوم الثقافي للأمة على مواكبة المضامين العصرية للمواطنة. إن هذا المفهوم يؤسس للتفاعل الخلاق مع خصوصية المكان، وللاستجابة المُدركة لمعطياته. إن ذلك تحديداً ما يُعبر عنه بحس المواطنة، الذي يؤكد الخصوصية في إطار التنَوّع. ويحرص على التعايش الوطني، بما هو التزام مبدئي، ويحمي الوطن بما هو أمانة لدى جميع أبنائه. وفي المنتهى، يُمثل حس المواطنة، المُدرِك والسليم، دعامة أساسية للأمن الوطني، وضرورة لا غنى عنها لاستقرار الدول. وهو بهذا المعنى شكل من أشكال الالتزام بالمصلحة العامة. إنّ القوى الحية والمستنيرة في الوطن العربي معنية بالدخول في مراجعة نقدية لمفاهيم الأمة والمواطنة، وذلك في ضوء التجربة التاريخية المديدة، معطوفة على معطيات العصر وتحولاته الكبرى، التي أفرزت بيئة اجتماعية معولمة، حدت من دور الخصوصيات العرقية، ولم يعد فيها الجيوبوليتيك ضمانة لإدامة التموضع حول الذات. إننا بحاجة إلى الانفتاح على الآخر انفتاحاً مدركاً، يعزز لدينا عوامل القوة وأسباب التطوّر. وحذار من تضخم الأنا، فذلك يعني الانزلاق إلى شوفينية مدمرة. وحذار الخوف من نقد الذات، والتقوقع حول مقولات جامدة. ولينهض الجميع بمسؤولياته، كل من موقعه، فهذه الأمة أمانة بين يدي روادها.