يحتل هذا الكتاب "أوديسا التعددية الثقافية – سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع" (تأليف: ويل كيمليكا، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام) الصادر مؤخرا، أهمية كبرى لأسباب متعددة ترتبط، في مجملها بأهمية موضوعه وقيمة مؤلفه من ناحية، ولمناسبته وطبيعة الظرف الحالي الذي تمر به منطقتنا العربية في ضوء ثوراتها المتتابعة من ناحية أخرى. ففيما يتعلق بموضوع الكتاب "التعددية الثقافية ومشكلة الأقليات"، قلما نصادفُ في لغتنا العربية كتابا يناقش تلك القضية - والتي برزت في الآونة الأخيرة، وانعكست تجلياتها السلبية سياسيا وثقافيا وحقوقيا- بصورة علمية موضوعية. أضف إلى ذلك أيضا أن ملحمة التعددية الثقافية - كما يحدثنا عنها مؤلف الكتاب- باتت تشغل اليوم أذهان فلاسفة السياسة في العالم على نحو لم يكن متوافرا، ولو في حده الأدنى، لدى القدماء من أمثال: أفلاطون وأرسطو، ولا حتى لدى فلاسفة العصر الوسيط من أمثال: القديس أوغسطين أو توما الأكويني، ولا أيضا في العصر الحديث لدى أمثال: مكيافيلي وتوماس هوبز وغيرهما. وبما أن موضوع الكتاب حديث نسبيا في الفلسفة السياسية؛ فقد كان المؤلف محقا تماما حين ذكر في مدخل كتابه أننا قد شهدنا، في الأربعين سنة الماضية، ثورة حقيقية في جميع أنحاء العالم في العلاقات بين الدول، لدرجة أن الدولة القومية القديمة ذات الثقافة الواحدة بدأت تتلاشى (بالفعل) ليحل محلها "التكيف أو التعايش الثقافي والديني" عند الجماعات المهاجرة. ومما يميز الكتاب لجهة موضوعه أيضا، أنه لا يكشف لنا عن مجرد فيلسوف "نظري" خالص يهتم بإقامة نظرية خاصة عن حقوق الأقليات فحسب، وإنما يكشف لنا ضمن تضاعيفه عن باحث مميز يصقل أفكاره عن طريق المناقشات والمناظرات والحوارات والندوات، أي بالخبرة العملية التي توفرت له على مدار مسيرته العلمية. فالكاتب يعد من أبرز المتخصصين في هذا المجال، ولديه بالفعل إسهام كبير في بناء النظرية الليبرالية المتعلقة بالتعددية الثقافية وحقوق الأقليات في الشرق والغرب على حد سواء. الثقافة.. والتعددية الثقافية لا يستعمل المؤلف مفهوم "الثقافة" في كتابه هذا بالمعنى المتعارف عليه، أي بمعنى جملة الفنون والآداب، وإنما يستند في استخدامه لهذا المفهوم على التعريف الذي قدمه عالم الأنثروبولوجيا سير "إدوارد تايلور" (1832-1917م) في كتابه "الثقافة البدائية" الصادر في العام 1871م، والذي يشير فيه إلى أنّ لفظ "الثقافة" يعني: الكيان المُركب الذي ينتقلُ اجتماعيًّا من جيل إلى جيل، ويتكوّنُ من المعرفة (بشتى أنواعها)، واللغة (بمختلف ضروبها)، والمعتقدات الدينية (على تباين أشكالها)، والفنون (على تنوع أنماطها)، والأخلاق (بمختلف مرجعياتها)، والعادات والعُرْف والتقاليد (فردية كانت أم جماعية)،. إلخ. ونتيجة لذلك، يستخدم المؤلف مصطلح "التعددية الثقافية" كمصطلح شامل يغطي مساحة واسعة من السياسات التي تسْتهدفُ توفيرَ مستوى معين من الاعتراف العام، ومساندة المجموعاتِ العرقيةِ الثقافيةِ غير المسيطرة، سواء كانت هذه الجماعات أقليات جديدة (كالمهاجرين واللاجئين)، أو قديمة (كالأقليات المستقرة تاريخيا والسكان الأصليين). تفرض الثقافة إذن، كما السياسة مثلا بالمثل، هيمنتها الخاصة –على نحو ما هو ملاحظ حاليا بالنسبة إلى الثقافة الغربية- مثلما تواجه مقاومة أيضا – تماما كما الشأن بالنسبة للأيديولوجيات السياسية– على نحو ما يتصدر بعض فلاسفة السياسة في الغرب لهذا الغول الجديد الذي يسعى إلى التهام الآخر، كل آخر!! ومما له دلالة في هذا السياق؛ أنّ إحصاءات اليونسكو بشأن الواقع اللغوي في العالم تشير إلى وجود نحو 6 آلاف لغة، على حين أن 96% من سكان العالم يتحدثون 4% فقط من تلك الآلاف الستة! ففي جزيرة غينيا الجديدة بمفردها؛ ثمة ما يقرب من 700 لغة، مئات منها آخذة في الانقراض! ففيما كان يعتقد جون ستيوارت مل (1806-1873م) أنّ الجماعات الصغيرة بإمكانها أن تتخلى عن ثقافاتها الموروثة، لكي تنضمّ إلى ثقافة الأمم الأقوى؛ يُدافع فلاسفة السياسة في عالمنا اليوم عن "حقوق الأقليات" حول العالم، كما يسعون إلى الاعتراف بالتعددية الثقافية وما يتفرع عنها من حقوق للجماعات التي تشكل أقلية، وهي حقوق تؤثر بدورها في مفهومي العدالة والمساواة، ومن ثمّ في التطبيق الصحيح للديمقراطية. في هذا السياق يؤكد المؤلف، وفي إطار رصْده مسارَ إعادة تدويل علاقة الدولة بالأقليات في القرن الماضي، أنه بإمكاننا أنْ نفرقَ ما بين مستويين لفكرة "التعددية الثقافية"، بحيث تصبح هذه الفكرة عالمية أو كونية. فهناك أولا انتشارٌ كونيٌّ للخطاب السياسيّ الخاص بالتعددية الثقافية، وأهمية التكيف مع الاختلاف والتنوع. وهذا النوع من الخطاب يُتداولُ بصورة واسعة لدى الشبكات الدوليةِ غير الحكومية، ولدى العلماء والباحثين وواضعي الخطط السياسية. وهناك ثانيا تقنينٌ للتعددية الثقافية ضمن مجموعةٍ من القواعد الدولية القانونية (أو شبه القانونية)، والتي تتجسّدُ في الإعلانات الخاصة بحقوق الأقلية، حيث تبنت الأممالمتحدة -في العام 1992- إعلانا بشأن حقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقليات: قومية، أو عرقية، أو دينية، أو لغوية، كما ناقشتْ مسودة لإعلان حقوق الشعوب الأصلية. هذا بالطبع بالإضافة إلى العديد من المسودات الأخرى ذات الصبغة المحلية، وذلك مثل الإطار الاتفاقي الذي أعده المجلس الأوربي في العام 1995 لحماية الأقليات، أو مسودة إعلان حقوق الشعوب الأصلية التي أعدتها منظمة الدول الأمريكية في العام 1997 ... وغيرها. في هذا الإطار؛ ينظر بعض النقاد إلى الحركة العامة لنشر "التعددية الثقافية"وحقوق الأقليات على أنها تمثل خيانة لمنظومة المثل العليا الأساسية للمجتمع الدولي.حيث ترى "إيلين فينكلكروت"، على سبيل المثال، أنّ احتضانَ الأممالمتحدة فكرة "التعددية الثقافية" تضمن التخلي عن الفكرة الكلية العامّة لعصر التنوير لمصلحة "النسبية الثقافية". وحجتها في ذلك أنّ الأممالمتحدة تأسّستْ أساسا لإشاعةِ منظومةِ المثل العليا لعصر التنوير الأوروبيّ، ولكنها الآن تدافع عن "الأحكام العرقية المبتسرة"، معتقدة أنّ للشعوب والأمم والثقافات حقا يُجاوزُ حقوقَ الإنسان. ونتيجة لذلك؛ ترفضُ جماعة "التعددية الثقافية" القيمَ الليبرالية باعتبارها عنصريةً، في حين أنها تناصرُ الشوفينية الضيقة المتزمتة لكلِّ ثقافةٍ للأقلية!! ولكنّ وثائق الأممالمتحدة واضحة كل الوضوح بخصوص هذا الشأن، إذ يذهب "الإعلان العالمي لليونسكو"، بشأن التنوع الثقافي، إلى أنه "لا يجوز لأحد أنْ يلجأ إلى التنوع الثقافي لانتهاك حقوق الإنسان التي يضمنها القانون الدولي، أو لكي يُحدَّ من مجالها"، ومع ذلك؛ فإنّ المشكلة تبقى رهينة بالتطبيق العمليّ لهكذا إعلانات، خاصة فيما يتعلق بإمكانية توظيفها سياسيا، بما في ذلك اللجوء إلى استخدام المعايير المزدوجة في التعاطي معها عالميا. التدويل ومعوقاته في بداية كتابه أعلن المؤلف أنّ هدفه من الكتاب يتمثلُ في التعرُّف على بعض "الإحراجاتِ الأخلاقية، والتعقيداتِ السياسية"التي تُثيرها الجهودُ الدوليةُ المبذولةُ لنشر "التعددية الثقافية". والمقصود بمصطلح "الإحراجات الأخلاقية"هنا ذلك الموقف الذي يجدُ فيه الإنسانُ نفسَه أمامَ طرفين متقابلين لا مناصَ له من اختيار أحدهما، مع أنه لا يرضى بكليهما! كما أعرب المؤلف أيضا، بأنه لا يهدف من وراء كتابه إلى تقديم رسم تخطيطيٍّ مُفصَّل للمستقبل، أو بالأحرى إلى استكشافِ العمليةِ الجاريةِ لتدويل "التعددية الثقافية"، والتعرف على التحديات والخيارات الصعبة التي تواجهها؛ خاصة وأنّ النجاح طويلُ المدى للانتشار العالميّ للتعدديةِ الثقافية يتطلّبُ، من ضمن ما يتطلب، تفهُّما أكثرَ دقة للظروف الاجتماعيةِ والسياسيةِ التي تَدعَمُ، وتُمكِّن نماذجَ مختلفة من علاقةِ الدولةِ بالأقليات، وكيف تختلفُ هذه الظروف باختلاف الزمان والمكان؟ وذلك كله يحتاج إلى تغيرات جذرية، ليس فقط في الطريقة التي تُوصفُ بها "التعددية الثقافية الليبرالية"ويُرَوَّجُ لها عالميا؛ وإنما في توقعاتنا بصدد الأشكال والجوانب المتعلقة بالتعددية الثقافية الأصلية التي تتناسب مع الأجزاء المختلفة في العالم. وأخيرا، يعْكِسُ عجزُ المجتمع الدوليّ عن مواجهة مشكلتي "الفئات والظروف المواتية"معضلة ثالثة أكثر عمقا، ألا وهي: طبيعةُ العلاقة الحاكمة ما بين "العدالة" من جهة و"الأمن" من جهة أخرى. خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أنّ السياسات العرقية كثيرا جدا ما تكون قوة مزعزعة للاستقرار، بحيث تُضْعِفُ الديمقراطيةَ والتنمية على حد سواء. ومع ذلك، يدافع المؤلف عن ما سماه "استقلالية المنظمات الدولية"في مواجهة من يتهمون قراراتها بكونها نتيجة للمفاوضات السياسية التي تتم بين الدول الأعضاء القوية.وبحسبه؛ فإن تلك القرارات تعكس، بالدرجة الأولى، أولويات المنظمات الدولية وإجراءاتها الداخلية، أكثر من إملاءات الدول الأعضاء القوية. وحجته في ذلك؛ أن المنظمات الدولية تتمتعُ باستقلال ذاتيٍّ ملحوظ في تحديد موقفها من المعضلات الثلاث –يعني كيف نصنفُ الأقليات، وكيف نجمعُ الحقوقَ العامة والحقوق المستهدفة، وكيف نجمعُ ما بين درء الصراع قصير الأمد مع الاحتفاظ بالمثل العليا طويلة الأمد- حيث لا يوجد قرار من هذه القرارات مقدر سلفا بواسطة قوى خارج المنظمات المحترمة؛ وإنما تنبثق من الطريقة التي تحلل بها تلك المنظمات مشكلة التنوع العرقي وتحدد الحلول الممكنة لها. وختاما، يمكن القول: إنّ تجربة التعددية الثقافية –كما حدثت في الغرب- تلخص في مجملها قصةً تدورُ حول ما يمكن تسميته ب "التطبيع التقدمي للسياسة العرقية"، من أجل أن يُصبحَ الحراكُ السياسيُّ العرقيُّ مجرد شكل آخر من المناقشات اليومية السلمية، والقانونية الديمقراطية. وأن تلك المبادئَ يمكنُ إيجادُها ببساطةٍ شديدةٍ في الفكرتين التوأم: "المساواةُ بين الجماعاتِ" من جهة، و"الحريةُ داخلَ الجماعاتِ" من جهة أخرى.