كنت قد طلبت منه عبوتين من «الثلاث جواهر المثلجة» إحداهما لي والأخرى لأخي.. العم -علي- في العام 1402ه تذمر من الطفل ذي الستة أعوام؛ وأزاد تذمراً حين قال له على استحياء: «قيّدها» أي اجعلها على حساب -أبي- هكذا كنت أتعمد الكذب على الاثنين من أجل «الثلاث جواهر المثلجة». تذكرت الطعم؛ والشكل لكني تأملت الآن كلمة «قيّد لنا» حقاً قيد.. أيّ وأنت تكتب شيئاً دون مقابل لابد أن تجعل له قيداً، وإن كان طويل الأجل وإن كان على جزء من كرتون الثلاث جواهر. – العم علي – قيّد لي كما طلبت، أو هو -قيدنا- إذ لابد أن يُعطى حقه لأكون بذلك طليقاً. ولكي لا نقع في حرج مطالبته! هكذا كنت أفهم معنى -القيد- إذ البيئة، والمجتمع، والعبارات التي درجت في الاستخدامات الضرورية وقتها كانت توحي بذلك. فللزوم بقاء بعض -الأنعام- في دائرة معينة كان يستخدم القيد، وإن كان طويلاً إلا أنني أتذكر وهي أنعام محاولاتها الخلاص منه.. قيّدها جيداً.. أيّاك أن تذهب مع البقية.. إنه الأمر الذي كنا نفر منه، فروح الطفولة انطلاق.. أتذكر أننا كنا نتقن جيداً فن صناعة القيود لها، وتوثيقها. كانت أغلالاً، وأوتاداً، والكلأ والماء حولها. لكنها تبحث عن البعيد، وتمقت طوق القيد، وأعتقد أنها كانت تبكي منه.. إنها بفطرتها تدرك أن مكانها ليس في القيد! يا للثلاث جواهر، والأنعام الحمراء قيدتني قليلاً عن قيودي الآتية! باعتقادي أنا مردنا على الكذب، والنفاق لذلك عُوقبنا بقيود موروثة، وأنكال عاصية من الحياة؛ أو أنها قد تكون هي التي جعلتنا بتلك الصفات السيئة. لنتأمل حياتنا، وبعض نماذج قيودها:- قيد أول: اللحظة هذه، وأنا أكتب قيودي أفكر في المحيطين حولي.. أحاول أن أختار مفرداتي بإتقان، وأن لا أمس بعض المقدسات العرفية.. في كتابة قيودي هذه، وفي كل أنواع الكتابات، إذن أنا أكذب كثيراً لأنني أكتب ما لا أستطيع إيضاحه! – قيد آخر: مزاميرنا الجاهزة في كل وقت، وفي أي زمان. فنحن نستلها بسرعة عند الحاجة، ونبدأ في عزف اللحن المنشود مع بقية المزامير، وإن كان الزمار في حقيقته كاذبا، والمزمر له من ألد الخصام! – قيد ثالث: سأبالغ في إكرامك وإن كنت كارها لك.. لا تقلق فبانتظارك ثلة من الآكلين وسيجعلني أمنحك حقك، وحق آبائك وأجدادك.. أهلاً بك وأعتذر على هذه المائدة، والأعراف، بعد الولائم تتتابع اللوائم، وتتحجب الوجوه خشية الدائنين.. قيد أوصى به الدين فتكفل به العرف ليجعله شيئا من الفحشاء والمنكر. قيد وثيق لا أظن الخلاص منه، وعقول الجهال لاتزال جائعة. إننا نبحث عن أفواه تلتقم فائض نفاقنا، وإسرافنا في حين هناك من يحلم بكسرة خبز، أو جرعة ماء، أو بعض من حياة. – قيد رابع: لا تصفر، لا تصفق، لا تستمع لموسيقى، لا تسبل، لا.. لا تترك السنن الرواتب.. لا تشاهد التلفزيون.. لا تقرأ قصصاً أو روايات لا تحلق رأسك، أو وجهك، لا تذهب، لا تأت، لا تسافر، إنها قيود فقه اللاءات التي حقنا بها فأصابت الأفئدة منا، والعقول، وعشنا بها زمناً حتى قسمتنا في الزمن الآني، وسلبت منا القرار، والمبدأ، والثقة والثبات. فتارة نؤمن ببلاء «لا» الأمس؛ ونعدها إرثا مقدسا لايمكن هتكه، وتارة نؤيد فك قيدها الشيطاني الذي سئمنا منه في آننا. إنه تناقض لا يقضي فيه إلا قيد آخر أكبر. – قيد خامس: أنت تدرك أنك بسلوك سيئ لكنك لا تؤذي أحداً بسلوكك ذاك والكل يعرف أنك كذلك، إذن لم تتوار، وتخشى الناس وكأنهم جند السماء، وتجلد ذاتك، وتقصيها، وتخفيها وأنت بسلوكك السيئ تملك ألف سلوك صالح. إنه قيد الاحترام السلبي الإقصائي. – قيد سادس: قيد المظهر الديني قيد السواك، والثوب والشعر الكث، ورائحة العود، والعقال المنزوع، وهذا القيد نحن من صنعه، وألبسه وزخرفه، ورسخه، وأصله وجعله آية العباد، وآية المحسنين. وعداه وإن كنت أعبد، وأتقى، وأفضل بأعمالك الظاهرة والباطنة إلا أنك بلا آية تدل على كل ذلك إذن فإما تكون كذلك، أو فلتعبد ربك حتى يأتيك اليقين. – قيد سابع: قيد نسيان الذات. أو تجاهلها، أو إهدار حقها لتلبية ما يطلبه المقربون، حتى حين خريف العمر، وعندما لا يبق من الحياة إلا بعض أوراق يابسة، وقتها لن تستطيع حتى رشة عطر. قيد ثامن: قيد الامتناع عن الرغبات المباحة خشية لوم الناظرين من المجتمع، وهذا يقودني لقيود كثيرة ربما تكون هنا في المرة القادمة. لذا سأكتفي بذكر قيد واحد هو قيد رياضي يراودني منذ فترة لكني أخشى من نظرة الجنون، أو المس التي قد يلصقها بي أحد المارة، أو من هم في الجوار، أرجو أن تتاح لي الفرصة ذات مساء فأرتدي ما يناسب رياضة المشي، وأمشي كما أشاء. قيد تاسع: قيد اختيار شريك الحياة فكثير ممن ستكتب لهم حياة أخرى في هذا الصيف لا يعرفون من الشريك إلا وصف المقربات، ولأننا مجتمع جبل على النفاق والرياء فحتماً عند النظرة المقننة والمحاطة بأسوار غليظة فمن الصعب عدم تقبل الآخر. القيد قد دمر الخيالات اللدنة إذ كم من فتاة تلون فارس خيالها فأصبح كعنترة، وكم من فتى تلونت مهرة خياله فغدت كعبلة! – قيد عاشر: بل قيود متنوعة وإن جاز لي تسميتها قيود دينية فقيود الدين المشتهاة، والمفروضة التي يقننها الدين ونسلم بها، تأملوا جيداً كم قيد لدينا جعل حديداً، وأسالوا أنفسكم عن الأسباب والفاعل – أعلم بأن كل قيد من الآتي يحتاج بحثاً مفصلاً وحده. – القيد الحادي عشر: قيد الفوضى، وأعني الفوضى في كل مكان من مناحي الحياة؛ نحن لا نعرف معنى النظام، والوقت، واحترام الأماكن. وتدب فينا فوضى عجيبة فلا نحترم الشارع فنلقي في وجهه كل ما نشاء، ولا نقف في الطابور بانتظام، ولا نبتسم لبعضنا، بل حتى أننا في كثير من الأحيان لا نلقي التحية، تأمل ستجد حتى المكان المقدس في حياتنا بحالة يرثى لها. فالدخول، والخروج منه فوضى، وتدافع، والأحذية تتراكم كأسوأ ما تراه وأماكن الوضوء حكاية في القذارة. وعندما تصلي، وتدع الدنيا وراءك فلن يدعك من إلى جوارك إذ يجبرك بترك خشوعك، والاستماع إلى تمتماته العلنية تسبيحاً وقراءة وتكبيراً. القيد الثاني عشر: قيد الممنوعات وهي أيضاً من كثرتها يحتاج كل ممنوع أن يفرد وحده، إلا أنني سأكتفي هنا بقيد الممنوع من الكتب، وهذا القيد درجت عليه أرفف مكتباتنا حتى سئمنا من البحث، العجيب أن الممنوع منها تتوصل إليه بيسر وثمن بخس عبر -الإنترنت- إذن فلم هذا القيد الذي كنا معه نمزق أغلفة الكتب، وندخلها بخوف رهيب، أو نخفيها في طيات الحقائب كي لا يعثر عليها! لست ليبراليلاً، ولاديمقراطياً، ولا حداثياً، ولا.. ولا.. كل ما أرجوه أن أنعم ب – النعم – وأن تختفي من حياتنا كثير من -اللاءات- الكفنية وأن تجلب لنا النعم تلك بعض الحرية في إطار ديني، وحياتي منظم، وهادئ، ألا تعتقد معي أن حقك، وحقي أن تتحقق لنا هذه الأمنية؟ ربما نشبه إلى حد ما بريئا حكم عليه بالإعدام، قيدت يداه، وقدماه، وعيناه، وأُحكم إغلاق فيه، أوقفوه، وجعلوا حبلاً ختاراً حول عنقه، ثم ذهبوا وتركوه هكذا، فلا هم بمن أزاحوا ما تحت قدميه، فيقضي ولاهم -حروره- كي يحيا، إنها النهاية من كل الجهات.