الدكتور عادل بن أحمد باناعمة، عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى، وخطيب جامع محمد الفاتح بجدة، له رؤاه الفكرية الدينية العميقة من خلال مجريات الواقع وحركته، وله وقفاته في طبيعة العلاقة بين الأدب والدين، والأطر التي يجب أن تبنى عليها هذه العلاقة. يؤكد باناعمة أن الدين لا يضع حدودا أمام الأدب، تجعل منه محدود الإبداع، مشيرا الى أن الحدود موجودة في كل شيء، ولا يوجد ما يسمى بمطلق الحرية، وتطرق إلى أهمية الالتفات إلى الأدب الإسلامي للطفل، وتشجيعه على الإبداع، من أجل أن ينتج أدبا رفيعا، يمكن أن نراهن عليه في المستقبل، كما طالب بأن تتم توسيع دائرة الإبداع، من أجل تقديم صورة أكثر نصاعة للأدب الإسلامي، مستنكرا حرج بعض الدعاة أو المشايخ من الظهور أمام الناس شعراء، بالإضافة إلى كونهم شيوخا يلقون المحاضرات أمام الناس. هل يمكن القول: إن هناك توترا في العلاقة بين الأدب بشكل عام وشيوخ الدين؟ من الصعب أولا الزعم بأن هناك توترا بشكل عام، وإنما هناك توتر من نوع ما، وبعبارة أدق هناك محاولات «توتير» ممن لعله لم يستوعب جيدا إمكانية الالتحام بين الجانبين، وأعتقد أن مرد هذا التوتر أو التوتير إلى جملة من الأنساق الثقافية التي حاولت أن توجد قطيعة بين كينونة الأديب وكينونة الشيخ أو العالم، عبر إقامة مجموعة من «الحواجز» المفتعلة بين هاتين الشخصيتين، وجماع هذه الحواجز في أمرين: أولهما جلالة درجة الشيخ عن ملابسة دركة الأديب، فالشيخ أو الفقيه -على هذا الوجه- أرفع منزلة من أن يزاول الأدب أو أن يتعلق به! وما أسرع ما يحتج القائلون بهذا بمثل قوله تعالى: «وما علمناه الشعر وما ينبغي له»، أو بمثل قول الشافعي: ولولا الشعر بالعلماء يزري.. لكنت اليوم أشعر من لبيد وثانيهما عجز ملكة الشيخ عن مجاراة ملكة الأديب، لما سبق إلى ذهنه من عبارات العلوم والمعارف، ومن هذا قول ابن خلدون في مقدمته: «ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة، وما ذلك إلا ما يسبق إلى محفوظهم، ويمتلئ به من القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة، لأن العبارات عن القوانين والعلوم لا حظ لها في البلاغة، فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور، وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحاة والمتكلمين والنظار وغيرهم ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب». أما الأمر الأول، فعسى أن يجيء له تفصيل وبيان، والأمر الثاني فجوابه من وجوه: أولها أن الفقهاء يبدؤون بالاشتغال بالقرآن والحديث وهما إلى الفصاحة ما هما. والثاني: أن الموهوب منهم قد يبكر في الاشتغال بالشعر –كالشافعي- فيحصل من ذلك ما شاء قبل أن يحصل ذلك «الخدش المزعوم» للملكة. والثالث أن الشعر نفثة مصدور، وفورة مشاعر، والفقيه بشر، يعتريه ما يعتري غيره، فإذا امتلك الأداة وصدق الإحساس لم يمنعه شيء من أن يجري مجرى الفحول. أضف إلى هذه الأمور الثلاثة أصلا فلسفيا مهما، وهو أن الإنسان جوهر، أي: ذات، والشاعرية والعلمية عرضان، أي: صفتان، ومن المعلوم عقلا ومنطقا أن الذات الواحدة أو الجوهر الواحد يمكن أن يكون محلا لأعراض كثيرة، أي: لصفات كثيرة، ما لم تكن هذه الصفات متضادة، فالشراب الواحد يمكن أن يكون حلوا وساخنا في آن، ولكن لا يمكن أن يكون حلوا خالصا ومرا خالصا في آن واحد. وإذا لم يكن ثمة دليل من حس أو خبر على أن الشاعرية والعلمية متضادان، فما الذي يمنع اجتماعهما في شخص واحد؟ إن الإنسان قد يكون فقيها فحسب، وقد يكون أديبا فحسب، وقد يكون فقيها أديبا، وقد يتجرد من الصفتين. وإذا وجد في التاريخ من تعاطى الشعر من الفقهاء غير الموهوبين فأساء، فلا يعني ذلك أن كل فقيه يتعاطى الشعر لا يحسنه، وشواهد ذلك عدد الرمل والحصى والتراب. وجانب آخر، هو أن ابن خلدون نفسه قد قال: وعلى مقدار جودة المحفوظ، تكون جودة المسموع، ثم تكون جودة الاستعمال من بعده، وإجادة الملكة. فها هو ابن خلدون زعيم نظرية «ركاكة أدب الفقهاء» يربط إجادة الشعر بأمرين: الملكة وجودة الحفظ، فهل هناك عقل أو نقل يمنع من اشتغل بالفقه أن تكون له ملكة؟ وأما المحفوظ فما أكثر من اشتغل من الفقهاء بحفظ الشعر، بل منهم من بدأ به وكان فاتحة تحصيله العلمي بعد كتاب الله. من وجهة نظرك.. هل تؤمن بوجود ما يعيب في شخصية العالم أو الشيخ في أن ينتج أي فن من فنون الأدب؟ إطلاقا. ليس من عيب يعيب العالم أو الشيخ في تعاطي الأدب وفنونه إبداعا أو رواية. فقد كان سيد البشر نبينا «صلى الله عليه وسلم» يتفاعل مع الأدب إيجابا على مستوى الاستماع إليه، وتقدير أهله، وتمييز جيده من رديئه، والتأثر بالبارع منه، وكتب السيرة تذكر لنا خبره مع حسان، وابن رواحة، والنابغة الجعدي، وقتيلة بن النضر بن الحارث، والأعشى المازني، وعمرو بن سالم الخزاعي، وزهير بن صرد الجشمي، رضي الله عنهم جميعا. وكلها أخبار تبين بصره «صلى الله عليه وسلم» بالشعر، وحفاوته بأهله، وتأثره بجيده. ثم تأمل فقهاء الصحابة رضي الله عنهم وكبارهم كالخلفاء الأربعة وابن عباس، وعائشة وغيرهم. فقد كانوا مع الشعر في نبأ عظيم، إما إبداعا وإنشاء، وإما رواية وحفظا. وقد روى أبو خالد الوالبي قال: كنت أجلس مع أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وسلم» فلعلهم لا يذكرون إلا الشعر حتى يتفرقوا! وقال أنس بن مالك: قدم رسول الله «صلى الله عليه وسلم» المدينة وما في الأنصار بيت إلا وهو يقول الشعر، وقد روي الشعر عن: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن بن علي ومعاوية والحسين بن علي وابن عباس وجعفر بن أبي طالب وغيرهم. فكيف يكون إنتاج الفقيه للأدب عيبا وقد اشتغل به كل هؤلاء؟ وأما بيت الشافعي الشهير: ولولا الشعر بالعلماء يزري... لكنت اليوم أشعر من لبيد فقد حمل ما لا يحتمل، وكدم به في غير مكدم، والبيت لم يكن إلا جوابا ميدانيا آنيا، وذلك أن رجلا دخل على الشافعي فقال: إن أصحاب أبي حنيفة لفصحاء، فأنشد الشافعي بيته هذا. فالبيت إذن مرتجل جاء في سياق دفاع عن النفس، واحتجاج آني، ولاحظ أن الشافعي لم ينكر على أصحاب أبي حنيفة ما ادعاه لهم مخاطبه من فصاحة وأدب. والذي يدل على أن الشافعي ما أراد بهذا البيت ظاهر لفظه، وأن الشعر حقا ينقص قدر الفقهاء، أنه هو نفسه كان يفتخر بشاعريته ويتباهى بها، فهل كان للشافعي -وهو من هو- أن يتباهى بما يعتقد حقا أنه منقص لقدر العلماء والفقهاء؟! تأمل قول الشافعي: عندي يواقيت القريض ودره ولدي إكليل الكلام وتاجه تربي على روض الربى أزهاره ويرق في نادي الندى ديباجه والشاعر المنطيق أسود سالخ والشعر منه لعابه ومجاجه وعداوة الشعراء داء معضل ولقد يهون على الكريم علاجه فهل يقول مثل هذا الكلام من يعتقد أن الشعر منقصة للعلماء؟! وإن شاء القارئ الكريم فليرجع إلى الحوار اللطيف الذي جرى بين أبي القاسم بن الأزرق الشاعر والشافعي، ففيه دليل آخر على ما أقول. إذن لماذا يتستر كثير من هؤلاء الدعاة على إنتاجهم ولا يفضلون إظهاره؟ ما زلت تطلق إطلاقات لا برهان عليها، فمن أين لك أن «الكثيرين» يتسترون على إنتاجهم؟! التستر تفعل، وهي صيغة تدل على التكلف، وعليه فهي لا تصدق -مثلا- على الشخص الذي لا يهتم بنشر شعره، أولا يعتني بجمعه وترتيبه، لأن هذا ليس «تسترا» بل هو إهمال أو لا مبالاة. وعموما.. فإن كان هذا الذي جعلته «متسترا» ضعيف الملكة، رذل الألفاظ، مغسول الصور، فخير له أن يتستر. وأما إن كان جيد العبارة، متقد الشاعرية، فالغالب أن عدم نشره لشعره مرده إلى إهمال ولا مبالاة، أو إلى عدم قناعة بجودة الشعر. ولست أنكر أن هناك من يخفي شعره خوفا من سطوة المجتمع، وخضوعا لنوع من الضغط الاجتماعي الذي قد لا يرى للفقيه حقا في التعبير عن عواطفه، وأكثر ما تجد هذا عند من تعاطى النسيب والغزل من الفقهاء الموهوبين شعريا. والحق أن كتمان مثل هذا الشعر -إن كان شعرا حقا- في غير محله، فالأولون من الفقهاء لم يستحوا من نشر شعرهم، وقد تداولته كتب التراجم، وتناقلته الأجيال، ولك أن تحلق ما شئت مع قول عروة بن أذينة فقيه المدينة: قالت، وأبثثتها وجدي وبحت به... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها:.... غطى هواك وما ألقى على بصري!! أو قول عبيدالله بن عتبة بن عبدالله بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة: كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم... ولامك أقوام ولومهم ظلم ونم عليك الكاشحون وقبل ذا... عليك الهوى قد نم لو نفع النم تجنبت إتيان الحبيب تأثما... ألا إن هجران الحبيب هو الإثم لو تحدثنا عن حدود الأدب ومدى تقاطعه مع الدين.. الأدب نشاط إنساني معرفي إبداعي كأي نشاط آخر، وليست له خصوصية من هذه الناحية، فمتى لم يقارف صاحبه محظورا شرعيا فهو في عافية من أمره، وليس يلزمه أن يوظف الأدب لخدمة قضية أو دعوة، بل تلك فضيلة وعمل صالح، ولكنه إن صرف همه للتعبير عن مشاعره ولم يأت بمنكر ولا دعا إلى رذيلة، فلا حرج عليه إن شاء الله، وعليه -وهذا مفهومي للأدب الإسلامي- فكل أدب لم يتضمن محظورا شرعيا فهو أدب إسلامي ولو كان في غزل ونسيب. يقال: إن الأدب لا ينتج إبداعا لو وضعت أمامه حدود كالدين مثلا؟ ليس في الدنيا شيء ما له حدود، مطلقا، حتى هذا الذي ينادي بحرية الأديب يعلم أن «عقله» على أقل تقدير يضع له حدودا تمنعه من الهذيان. الحرية المطلقة ليست موجودة في الدنيا، وأول من يكفر بها من يدعو إليها، لأنك ستجده مضطرا إلى مراعاة بعض الاعتبارات -ولو الشخصية- تمثل بالنسبة إليه حدودا أو قيودا. على العقلاء أن يخرجوا من دائرة المزايدة على الحرية إلى بحث «الحدود»، هل هي في موقعها الصحيح أم تقدمت أم تأخرت. وأما الحديث عن شيء بلا حدود فهو حديث عن وهم وخيال. ثم إن الإنسان إذا جعله مرجعيته الحرية فستكون الحرية حينئذ قيدا للدين، وإذا جعل مرجعه الدين فإن الدين سيكون قيدا لحريته.. وله أن يختار بأي قيد يتقيد!! لكنه في النهاية لن ينفك من قيد. السؤال بصيغة أخرى.. هل يمكن أن ننتج أدبا رفيعا ضمن حدود وقيود الدين؟ ممكن جدا.. بل هو واقع يا سيدي، المشكلة هي حين نتصور أن الدين يضيق ببعض صور الإبداع، بينما هو يسعها ويسع غيرها، ولست أنسى كلمة نفيسة سمعتها من شيخي العلامة ابن بيه: يا بني، إن عباءة الدين أوسع كثيرا مما يتخيله بعض الناس! وصدق رضي الله عنه. وما الأدب الرفيع؟ الذي لا يتصور الأدب الرفيع إلا أدب دغدغة الحواس وإثارتها، قد يقول بمثل مضمون هذا السؤال، ولكن الذي يؤمن أن الأدب الرفيع هو ذلك الأدب الذي يهز النفس من أعماقها، ويشدها بقيد من جمال وسحر، الذي يؤمن بهذا يؤمن أن المساحة الأوسع من الأدب الرفيع هي داخل دائرة الدين. ما السبب الأساسي في عدم وجود أدب إسلامي يمكن أن ينافس؟ هذه قضية مشكلة، ومسألة معقدة، لكنني أظن أن بالإمكان إجمال الأسباب كلها في سببين: - تضييق دائرة الإبداع. بحيث تجد الناشئ الموهوب في البيئة الإسلامية يتشكل لديه تصور بأن الإبداع الأدبي يجب ألا يخرج عن قضايا الأمة فحسب! وبالتالي يحبس نفسه في هذه الدائرة، ولا يسلم حينها من التكرار واستنساخ النصوص الأدبية، بحيث يكاد يكون جل ما يكتبه نصا واحدا مقدما بطرائق مختلفة! - تضييق دائرة تطوير الإبداع. وذلك من خلال إلحاح أدبيات التربية الإسلامية أحيانا على ضرورة تحصيل العلم والاشتغال بالعلم الشرعي، وأن العلم ما قاله الله ورسوله، وما سوى ذلك وساوس الشياطين! وبالتالي فإن الناشئ الموهوب أدبيا يجد نفسه محاصرا بهذا الضغط ومضطرا إلى أن يشتغل بالعلم الشرعي وقضايا الفكر والتربية، وربما شعر إذا صرف وقتا طويلا للشعر والأدب أنه قد أخل بميزان الأعمال وأفرط فيما لا ينبغي! ومن هنا فإن الأديب الإسلامي في مثل هذه البيئة لا يغرق في الأدب! ومن لم يغرق في الأدب فلن يشرق فيه. يحتاج الشاعر إلى أن يغوص في بحار الشعر وأوحاله أيضا ليمتلك الملكة الحقيقية ثم بعد ذلك يوجهها حيث أراد، وأما هذا الذي يمر بحياض الأدب على استحياء وخوف من تضييع الوقت فيما لا يفيد!!! فأنى له أن يكون أديبا مبدعا؟ كيف يمكن أن نحدث ثورة أدبية إسلامية، إن صح التعبير؟ لا بد أولا أن يحتل الأدب مكانه الصحيح في الفكر الإسلامي، لا باعتباره سلاحا دعويا فحسب، بل باعتباره فنا إنسانيا مقصودا لذاته، ثم قد يستفاد منه دعويا، وبغير هذه النظرة لا أظن أن ثورة أدبية كبرى ستحصل. ثم لا بد بعد ذلك من «الصناعة»، فالأديب الحق يصنع نفسه أو يصنع، ولن يكون ثمة أديب حقيقي بلا معاناة وبلا جد. الأديب الذي لا يعطي الأدب إلا نصف ساعة من نهاره كيف سيكون مبدعا؟ الرافعي يقول: إذا أردت أن تكون أديبا فاحكم على نفسك بعشرة أعوام من الأشغال الأدبية الشاقة، وهبها كانت في أبي زعبل! هل لنا بخطوات عملية يمكن أن تسهم في تربية النشء ليكونوا أكثر فاعلية من أجل تقديم صورة مشرقة للأدب؟ حين تحدث ابن خلدون عن الأدب قال: وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل وممارسة العربية من أول العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي. لاحظ: «من أول العمر»، الخطوة الأولى هنا، أن نبدأ مع الصغار من أول العمر برواية الشعر وممارسة العربية، ودقق في كلمة «ممارسة»، من أخطائنا -والله أعلم- في الميدان اللغوي أننا نريد أن «نعلم» الطفل، بينما الأهم أن «ندرب» الطفل، ولا سيما في أعوامه الأولى من ثلاثة إلى ستة أعوام. أمر آخر، هو أن يكون للطفل الموهوب في الأدب مجال للبروز عبر مسابقات ومناسبات، وحظ من التقدير كذلك. فموهبة الأدب كموهبة الاختراع، كلاهما مما يحتاج إليه الوطن، ولو حظيت المواهب الأدبية الحقيقية بمثل ما تحظى به المواهب الأخرى لكان ذلك حافزا حقيقيا لأطفالنا .