ما حدث في 13 نوفمبر بباريس لا يمكن أن يحدث في كندا بسبب تجانس السكان الكبير فالكل مهاجر، وكندا تستقبل كل عام 300 ألف مهاجر إليها من جنبات الأرض الأربع، فيها كل الأجناس والأعراق والألوان، يرطن الجميع فيها بأكثر من ثمانين لغة ولساناً، وينشئون أكثر من مائة مخبز ومطعم، ولكن اللغة الرسمية هي مزدوجة من لسان ريتشارد قلب الأسد وفرنسوا. أنا شخصياً ذهلت من تنوع المطاعم والمآكل والثقافات حين دخلت أرضها ورأيت جمالها. كلامي هذا ليس دعاية لها؛ فهي أكبر من الدعاية، تسبح في رغد من العيش، خلفت الحروب وراء ظهرها (في كينجستن وكيبك يلاحظ الزائر بقايا المدافع الصدئة تذكّر بتاريخ تخلف الإنسان الصدئ المحارب) تمشي نحو المستقبل بساقين من العلم والسلم (في الحكومة الجديدة وزيران للعلوم) ورائد فضاء وزيراً للمواصلات، تحوي أكثر من ثلث المياه الحلوة في العالم بمئات البحيرات، وفيها نهر سان لوران يضيع فيه الفرات والنيل ودجلة. وفيها من احتياطي البترول ما قدر بأكثر من 160 مليار برميل، فهي تجمع النفط والغاز والماء والبشر أحمر وأبيض وغرابيب سود. (جستن ترودو) الجديد أظهر وجه كندا الإنساني، فأعلن بدء خط جديد بعيد عن تبعية أمريكا وحروبها التي لا تنتهي، فانسحب من التحالف الدولي ضد داعش، في الوقت الذي يغرق آخرون في حرب عبثية كما فعل البوطين، وعيّن 15 امرأة مناصفة في حكومته المؤلفة من ثلاثين عضواً، وهي سابقة الأولى من نوعها في تاريخ الحكومات الكندية، ومن النساء للمرة الأولى سيدة مسلمة أفغانية لمراقبة الديموقراطية، بالإضافة إلى وزيرة عدل من سكان البلاد الأصليين (Native). أما الرجال، فكان نصيب وزارة الدفاع والحربية رجل من السيخ بعمامة تغطي رأسه، يؤدي القسم لوظيفته الجديدة أمام الرئيس. ما يحدث في كندا ثورة في تشكيل الحكومات العصرية، نصف الحكومة من النساء خارج عالم الفحول والحروب، رجل من السيخ بعمامة وزيراً للدفاع، مقعد مشلول يقود وزارة، رائد فضاء يشرف على وزارة المواصلات، وزيرة للعدل من سكان كيبك الأصليين، امرأة مسلمة من الأفغان تتولى وزارة الإشراف على الديموقراطية. إنه منظر معبر مثير، ذكرني بمجد الدولة العثمانية حين وصفها المؤرخ البريطاني (توينبي) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) (Study of History) وهو ينقل عن سفير دولة آل هابسبرج في البلاد العثماني، حين يقول؛ حسدت العثمانيين حين رأيتهم يعتنون بالكفاءات؛ فمن وجدوه كفؤاً لوظيفة رقوه فيصعد في السلم الوظيفي إلى أعلى عليين رتبة، بما فيها مرتبة الصدر الأعظم الذي هو دون الباديشاه العثماني (كما كان الحال مع إبراهيم اليوناني، ابن صياد السمك، الذي أصبح الصدر الأعظم في دولة السلطان سليمان القانوني وصهره أيضاً)، ويتابع السفير أما نحن فنعني بالباشق والصقر والنسر. في كندا مجتمع إنساني يذكر بجمهورية أفلاطون، ومجتمع صحابة بدون صحابة، إنه مجتمع المواطنة والانتماء، كما يقول عالم النفس (إبراهام ماسلو) في تصنيفه لهرم الحاجيات الإنسانية، حين يرسم هرماً من خمس طبقات؛ أسفله خمس حاجيات فسيولوجية من طعام يسد الرمق، وشراب يطفئ العطش، وسكن يقي من الحرور والبرد وعوادي الضواري، ولباس يستر العورة، وجنس وزيجة في زوج يأوي إليه الفرد فينشئ عائلة سعيدة، وفي الطابق الثاني الأمن الاجتماعي، أما الثالث فهو روح الانتماء والدفاع عن هذا الوطن، وهي كندا التي تمنح هذا الشعور بمنح المهاجر الإقامة الدائمة ليصل إلى الجنسية في ألف يوم من الإقامة (عدلتها حكومة هاربر فزادتها وهناك احتمال أن تتغير مع حكومة ترودو الحالية)، أما في دول كثير من العالم الإسلامي، فلا يأخذ الجنسية ولو كان آينشتاين وبقي قرناً من الزمان، أو حتى لو ولد فيها وهو أدهى وأمر، في شعور مؤرق من عدم الاستقرار، عبر عقود من الإقامة. تمنيت وكتبت لكثيرين من السعوديين أن يستقطبوا العقول والكفاءات كي تتحول الجزيرة إلى أمريكا العرب، كما فعلت أمريكا مع أنريكو فيرمي مَنْ أقام أول مفاعل نووي، وإدوارد تيلر أبو القنبلة الهيدروجينية، وتيسلا الصربي أبو الكهرباء المتناوبة، ولكن هيهات هيهات لما توعدون، فالعقليات تحتاج إلى تطوير، والأنظمة إلى تثوير، والحياة فرص محدودة، وعصر البترول لن يدوم، فما عند الله باقٍ وماعندكم ينفد، إنما يتذكر أولو الألباب. هذه هي كندا وهذا هو وجهها الإنساني، الذي يحبب الناس في الهجرة إليها محمولين بتيار من نهر من ذهب، يحملون إليها عائلاتهم وثرواتهم. وهذا هو سر قوة الغرب وتفوقه. هل نفهم لماذا يتدفق الناس إلى كندا من كل أصقاع المعمورة إذا كانت النهاية أنه أو ابنه أو ابنته ينتظره ليس الهجرة والوطن والأمان والتعليم والصحة (كل مواطن كندي مؤمّن طبياً وكل مَنْ وصل سن 65 يخصص له راتب تقاعدي) بل الوزارة كما نال السيخي وزارة الدفاع (تأملوا إنها ليست وزارة هامشية بل أساسية)، بل تمنح الوزارة لمقعد مشلول نصفي رمزاً رائعاً لاندماج كل قطاعات المجتمع في بناء دولة العدل؟ أليس سؤالاً حرجاً أن يطرح الإنسان هذا السؤال؟ أين شرع الله وأين يتحقق؟ هل برسم كلمات الله أكبر على العلم العراقي؟ أم برفع شعارات تطبيق الشريعة وقطع الرؤوس كما تفعل داعش؟ تمنيت أن يبعث رسول الرحمة -صلى الله عليه وسلم- ليؤشر بيده أن هاجروا إلى هناك، واتركوا بلاد الوثنيات والأصنام الحية والميتة من بشر وحجر. وشعارات جوفاء، ما أنزل الله بها من سلطان. وهذا بالضبط ما يفعله الناس فالشوق العميق للتوحيد يدفع عباد الله إلى هذه الأمكنة، كما تسافر الطيور إلى الأماكن الدافئة والحبوب الوفيرة.