بعد أن كان لا سلوى لنا في البعد سوى صوت مَنْ نحب، كيف استعضنا عن ذلك بقراءة أسطر قلة منه؟ لماذا استبدلنا تحايا العيد الجميلة، وبداية العام برسائل «واتسآب» معلَّبة، نرسلها إلى الجميع؟ كيف أوكلنا رموزاً تعبيرية مهمة وصف مشاعرنا من حب واشتياق وحزن وغضب؟ تتولى رموز القلوب التعبير عن الحب، والورد عن الشكر والتقدير، والقلب المكسور أو الوجه الدامع عن الحزن أو الحنين. كم من رسائل «واتسآب» تصلنا نقرأها فعلاً؟ وكم من رسائل ثقيلة، لم نقتنع بمحتواها أو نصدقه، قمنا بتمريرها تحت شعار «انشر تؤجر»؟ وكم من مجموعات تم ضمُّنا لها عنوة دون أن يكون لنا فيها ناقة أو جمل؟ ليبدو مجرد التفكير بمغادرة المجموعة باباً من أبواب القطيعة والهجران! كثير من الناس لم يعد لديهم ما يتحدثون عنه إذا التقوا بأصدقائهم أو أحبتهم، نظراً لأنهم استنفدوا جميع حكاياهم وأخبارهم عن طريق مشاركتها كتابياً، هذه المشاركة التي مهما بلغت تفاصيل رواية «سواليفك» فيها، فلن تستطيع أن تنقل لهم حماسك، وارتفاع حاجبيك، واتساع حدقة عينيك، أو أن ترى تعابير وجوههم، أو تسمع همهمات مفاجأتهم، أوعلامات امتعاضهم، فيبقى التواصل مبتوراً، كأنه وجبة عشاء تبدو شهية، إلا أنه ينقصها الملح، فيتحوَّل طعمها باهتاً بلا «طعم أو ريق»! ال «واتسآب» أيضاً أتاح لنا القرب من الآخرين، ربما بدرجة لا تنفعنا بالضرورة، وتشكِّل انتهاكاً لخصوصيتنا، أو خصوصيتهم. أتذكر أن إحدى صديقاتي كانت تناصر قضية إنسانية معينة، واتفق المناصرون لها على أن يوحدوا شعار صورهم الرمزية في ال «واتسآب» ربما لإيصال صدى أصواتهم إلى فضاءات أوسع، وقد طلبت مني فعل ذلك، وعندما اعتذرت، رأت في موقفي لامبالاة، وربما أنانية وعدم اكتراث بتلك القضية الإنسانية. بعضهم أيضاً يراقب أوقات وجود الآخرين، وصور «بروفايلهم» وحالاتهم المكتوبة، وهل قرأوا الرسالة، وكم استغرقوا من الوقت ليقوموا بالرد، والرموز التعبيرية التي استخدموها، وفي ذلك كله مجال خصب للتأويل، والعتب ليس باليسير. لا يتوقف ال «واتسآب» عند تلك الحدود، بل يمتد ليكون وسيلة طيعة، تساهم في تصدير الجهل، ونشر الشائعات، وبث كثير من الخرافات، والأخبار المغلوطة، ليس بدءاً بالتحذير من الفاكهة المستوردة، التي تم حقنها بفيروس الإيدز، وليس انتهاءً بأرقام المتصلين، الذين إذا أجبتهم يصدرون ذبذبات سامة للدماغ، مروراً بالوصفات العشبية، والنصائح التربوية، وخلطات تنعيم الشعر، وتبييض «الركب والأكواع». كثيرٌ من الأحاديث الضعيفة، أو الموضوعة، يتم تمريرها أيضاً عن طريق ال «واتسآب»، والأحداث التي يتم ربطها بأحلام تحت شعار «رأى أحد الثقات»، مع الإلحاح على المتلقي بإعادة نشرها، والتأكيد على عدد الحسنات التي سيحصل عليها الشخص، الذي قام بإعادة إرسالها، ويتجرأ بعضهم على التنديد بمَن تتوقف عنده الرسالة، ولا يقوم بإعادة إرسالها، فهو إما غير محب للخير، أو زاهد في الأجر والمثوبة. ال «واتسآب» ليس شراً محضاً، لأن الخلل لا يكمن فيه بحد ذاته، فهو وسيلة، تشكِّل حلقة وصل، تربطنا بمَن حولنا، قد لا نستطيع الاستغناء عنها بشكل كلي، لكن ربما نحتاج إلى إعادة نظر في الطريقة التي نستخدمه، وأن نتوقف كلما انشغلنا به لنسأل أنفسنا: هل نحن مَنْ نقوم بإدارة ال «واتسآب» بصفته وسيلة، أم هو الذي يديرنا؟