أيقظت التظاهرات التي تتخذ من وسط بيروت مسرحاً لها تناقضاتٍ حيال هوية مدينةٍ دمَّرت الحرب الأهلية سوقها، بينما ابتلعت إعادة الإعمار صورتها التاريخية فصارت لمن عرِفَها مكاناً مجهولاً وسوقاً مصطنعاً. وتدفَّقت الاحتجاجات إلى ساحات وشوارع الوسط التجاري للعاصمة اللبنانية قبل أسابيع، ورفعت شعارات بدأت بإزالة القمامة من المناطق وتوفير الكهرباء والمياه لتتجاوزها إلى المطالبة بمكافحة الفساد واستقالة الحكومة وإقرار قانون انتخابي عادل وصولاً إلى انتخاب رئيس. وبدأ الفراغ الرئاسي في البلاد مع نهاية عهد ميشال سليمان في 25 مايو من العام الماضي. ووسط المحتجين؛ ظهر أفراد طالبوا بما اعتبروه حقوقاً مسلوبة منهم في الوسط التجاري للمدينة «الداون تاون»، وذكَّروا بماضيه قبل بدء الحرب الأهلية (1975 – 1990). في حين طرحت الكتابات على الجدران وأعمال الشغبٍ والتخريب المعتمدة أحياناً أسئلةً عما تعنيه هذه المنطقة لسكان العاصمة وضواحيها والمواطنين عموماً. وعلى مدى عقود؛ شكَّل الوسط التجاري لبيروت مرآةً انعكست عليه كل الحقب والأزمات التي عصفت بلبنان، فكان أول المناطق التي شملها الدمار والنهب خلال العامين الأوليين للحرب الأهلية، واجتاحته معارك عنيفة بين الجماعات المسلحة المتناحرة سعياً للسيطرة عليه. ومع امتداد الحرب؛ شهدت المنطقة كما باقي البلاد تهجيراً للسكان والتجار والباعة ودماراً شبه كامل للأسواق التراثية المزدهرة، ففقدت ما كان يميزها من تعايش بين الطوائف ومزيج فريد بين الطبقات التي كانت تجتمع في الدكاكين والأزقَّة. وبعد انتهاء الاقتتال؛ مُنِحَت حقوق إعادة إعمار الوسط التجاري إلى شركة استثمارية ضخمة حملت اسم «سوليدير»، حيث تملَّكت العقارات ومنحت أصحابها الأصليين تعويضات مادية أو أسهماً فيها بدلاً من أملاكهم. ومنهم من رَضِيَ بالتعويضات وآخرون بالأسهم، ورفضت فئة ثالثة الخيارين وحملت قضيتها إلى المحاكم مؤسسةً جمعية «أصحاب الحقوق في وسط بيروت التجاري» التي لا تزال حتى اليوم تطالب باسترجاع الممتلكات. ووفقاً لرئيسة الجمعية ريا الداعوق؛ فإن وسط العاصمة كان يضم نحو 300 ألف من أصحاب المصالح وقرابة 15 ألف مؤسسة تجارية. وكانت أسواق المنطقة تبيع كل ما قد يخطر على البال، ومنها سوق الحرير وسوق الجوخ، وسوق الخرَّاطين (خراطة المعادن)، وسوق القزاز (الزجاج)، وسوق القطن، وسوق الصرامي (الأحذية)، وسوق الخضار وسوق القطايف، وسوق النرابيج (خراطيم المياه). وكان في القلب أيضاً أسواق للسلع اليومية كسوق اللحامين وسوق الخمامير وسوق العقادين وسوق النجارين وغيرها. وتعرضت هذه الأسواق للتدمير كلياً أو جزئياً خلال الحرب الأهلية، وأعيد تصميم ما تبقَّى على طراز أوروبي حديث. و«لو لم يخضع الموقع إلى إعادة إعمار شاملة لبَقِيَ كما عديد من المناطق بعد الحرب، فبعضها مهجورٌ والآخر لا يزال يحمل آثار المعارك إما لعدم قدرة أصحابه على تحمُّل تكلفة الترميم أو لوفاتهم وتشتُّت تركاتهم أو بسبب الهجرة»، بحسب الصحفي بسام النونو (42 عاماً) وهو من عائلة بيروتية. ويرى النونو أنه «في كل الأحوال ما كان الوسط ليعود أبداً إلى سابق عهده بسبب التغيُّر الديموغرافي الذي طال العاصمة وسكانها خلال وبعد سنوات الاقتتال». لكن قلب بيروت بأبنيته الأنيقة ومقاهيه ومطاعمه الفخمة بات بالنسبة إلى ريا الداعوق «ميتاً وبلا روح» و «متنزهاً ترفيهياً» لطبقة الميسورين والسياح الباذخين «بعدما كان نافذة لبنان والشرق الأوسط» وفق تعبيرها. وتلاحظ الداعوق أن «المكان لم يعد يمثِّل كل أصحاب المصالح والمنتجات اللبنانية، بل أصبح مخصصاً للمنتجات المستوردة والماركات العالمية الفخمة التي يمكن أن يجدها المرء في كل مدينة في العالم». و«كانت الأسواق في الماضي تبيع كل شيء، وكانت تقصدها وتعتاش منها كل الطبقات التي تمثل النسيج الاجتماعي للبلاد» كما تقول الداعوق. ووفق محمد، وهو ستيني من عائلة بيروتية عريقة؛ أمَّنت هذه النسخة القديمة للمدينة التي لا يعرفها جيل الشباب جواراً طبقياً فريداً دام لسنوات «إذ كانت تحتضن أسواق الطبقة الوسطى أساساً والطبقتين الميسورة ورقيقة الحال على جانبيها». ويروي «كنت تستطيع أن تشتري كعكة كنافة عند حلويات الجبوري بخمسة وثلاثين قرشاً، ويستطيع الأكثر اقتداراً شراءها من حلويات البحصلي بخمسين قرشاً والثري بخمس وسبعين من حلويات الصمدي، وجميع محلات الحلويات هذه كانت موجودة في الأسواق في دائرة قطرها 500 متر فقط بين ساحة رياض الصلح وساحة الشهداء». ويواصل محمد التذكر قائلاً «كان سوق اللعازارية لمتوسطي الداخل، وعلى بعد 200 متر كان سوق سرسق للفقراء، وبجواره خان البيض الذي كان يبيع الدواجن والطيور وبجوارهما أسواق الخضار واللحامين والسمك وبركة العنتبلي التي كانت تحتوي الجميع لشرب المرطبات، وإلى جانب كل هذا سوق الصاغة أو سوق الذهب وسوق الطويلة وسوق الفرنج للأغنياء». ويتساءل محمد «أين هذا التجاور الطبقي اليوم؟ وكيف أُلغِيَت هذه الهوية الفريدة لقلب مدينة طاعنة في التاريخ ليقتصر دوره اليوم على وظيفة الترفيه للميسورين؟». وبالنسبة له؛ تغيَّرت هوية العاصمة وتشوه التاريخ في الأسواق. هذا الموقف من وسط بيروت الحالي يتفق معه شباب تفصلهم عن جيل ما قبل الحرب هوة عمرية واسعة تقرب من 30 عاماً. ويصف نادر فوز (31 عاماً)، الذي يقول إنه شارك بحماس في جميع تظاهرات المجتمع المدني، منطقة «الداون تاون» اليوم ب «واجهة منقَّحة ومخملية ليست مكاناً لكل الناس أو سوقاً يمكن أن يستقطب جميع الطبقات». ويؤكد فوز «خلال دراستي المدرسية والجامعية؛ لم أتمكن من ارتيادها لعدم قدرتي على تحمل تكلفتها ولم نكن حتى ندخل إليها». وبعدما دخل ميدان العمل وبات له دخل شهري؛ بقِيَ هذا الموقع لا يعني له شيئاً وباتت مناطق أخرى مثل الحمرا أقرب إليه «لأنها ذات نسيج اجتماعي متنوع وفيها كل شيء، فهي مكان يستطيع الناس كلها ارتياده ويضم أسواقاً وماركات في متناول الجميع من الأرخص إلى الأغلى ثمناً». ويخلص فوز إلى القول بنبرة جازمة «بدلاً من أن يكون الوسط ملتقى فعلياً لكل الفئات؛ بات ينحصر في نسيج مخملي، لذا فهو قطعاً لا يعنيني بشيء». لكن هذا الموقف لا يلاقي قبولاً من ألين خوري (23 عاماً) التي كانت ترتشف القهوة مع صديقتيها في مقهى يحمل اسم سلسلة مقاهٍ عالمية بالقرب من دار السينما الذي بُنِيَ على أنقاض جزء من الأسواق القديمة. وتقول ألين «هذه هي داون تاون التي أعرفها وأحبها، أداوم باستمرار على المجيء إلى هنا مع أصدقائي للتسوق في المتاجر الكثيرة والجميلة المجتمعة في هذا المكان، ثم تناول الطعام أو القهوة، والأسعار مقبولة». لكن على بعد أمتار قليلة من المقهى الذي كانت تجلس فيه ألين؛ تقول ردانة فواز (18 عاماً) التي تعمل في شركة أدوية بحي خندق الغميق الشعبي إن «دي تي (اختصار داون تاون) مكان جميل وفيه مبانٍ قديمة، لكنهم جمَّلوا المنطقة إلى حد أنها باتت باهظة ولا نقدر على شراء شيء من المتاجر هناك، كل ما نفعله هو التنزه والفرجة على الواجهات الجميلة لكننا لا نقدر مادياً على التسوق أو حتى الجلوس في المقاهي». وتستطرد بابتسامة عريضة «لكنها منطقة جميلة جداً، جميل أن ننزل إلى هناك كل يوم».