تتورد وجنتا الحاجة سامية وهي تستعيد أيام «الماضي الجميل». تحكي عن بيت العائلة في الكرنتينا، وعن النقوش على حائط الرخام في صالون منزلها الواسع. تلمع عيناها، كأنما عادت للتو إلى ذاك المنزل، في «زمن العز» حين كان والدها تاجر لحوم ميسور الحال، وتعيش هي وأمها وإخوتها في رغد. يبدو أن قلة في لبنان يعرفون شيئاً عن ذلك «العز» الذي مر على أهالي منطقة تعرف شعبياً باسم «الكرنتينا» أو «المسلخ» وتقع في محلة «المدوّر» على شاطئ بيروت. ذات ليلة منتصف كانون الثاني (يناير) 1976، بعد عام على اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، فرض تهجير قسري على سامية مثلها مثل كثيرين من قاطني الكرنتينا وقتها والمقدرين بأكثر من عشرة آلاف لبناني على وقع القصف والقتل. تركوا خلفهم بيوتاً وأرزاقاً على أمل العودة إليها بعد انتهاء العنف، وأقاموا حيث أمكن. لكن، وبعد 37 سنة على التهجير و23 سنة على انتهاء الحرب الأهلية لم يعد من باتوا يعرفون باسم «مهجري الكرنتينا» إلى بيوتهم لأسباب يقولون إنها طائفية، إذ يغلب على المنطقة الطابع المسيحي في حين ينتمي معظم المهجرين إلى الطائفة المسلمة. معظم اللبنانيين ينظرون إلى هؤلاء المهجرين على أنهم غير لبنانيين، بسبب انطباع خطأ بأنهم فلسطينيون، سوريون أو أرمن وعمال من الريف اللبناني كانوا يقيمون في غرف بسقوف من التنك على أراض تملكها الدولة. هذا الانطباع حرم مهجري الكرنتينا من تعاطف حظي به مهجرو مناطق أخرى عادوا بغالبيتهم إلى أراضيهم، وآخرهم المهجرون المسيحيون من بلدة بريح ذات الغالبية الدرزية. إذ اتخذت خطوات تنفيذية مطلع 2013 لإقفال ملفهم بإشراف رئيس الجمهورية ميشال سليمان. غير أن مهجري الكرنتينا ظلوا خارج أراضيهم مسجلين في دوائر أخرى منها المزرعة ورأس بيروت. فلا يحق لهم «لأسباب أمنية» مجرد زيارة أملاكهم وتفقدها بعد أن دمرت البيوت التي كانت مبنية عليها. تختصر تلك الأسباب ظاهرياً بوجود ثكنة للجيش اللبناني عليها، أما باطنها فيتوزع بين العنصري والطائفي والسياسي والاستثماري. «الحياة» بحثت في قضية مهجري الكرنتينا، وكشفت مماطلة رسمية وإهمالاً، إن لم يكن تواطؤاً أيضاً، بين أجهزة في الدولة منذ 1990، بدءاً من رؤساء الجمهورية الذين لا يغفلون ذكر «عودة المهجرين» في خطابات قسمهم، مروراً بمجلس الوزراء الذي يقع على عاتقه إصدار القرارات في هذا الشأن ومراقبة تطبيقها. انعكس كل ذلك ظلماً على فئة واسعة من اللبنانيين كانوا على الدوام موضع تشكيك في هويتهم وانتمائهم. وجمعت «الحياة» وثائق ومستندات رسمية وصوراً وتصريحات معنيين مباشرين، لكشف قضية الظلم اللاحق بأهالي الكرنتينا، الذين «لو لم يكتب عليهم التهجير لكانت حياة بعضهم أفضل بكثير مما هي عليه اليوم»، وفق قول عدد منهم، ولتثبت أن المهجرين لبنانيون يملكون عقارات كانت مقامة عليها بيوتهم وليسوا محتلين، والتزامهم القوانين في ملاحقة قضيتهم لم يعد إليهم حقوقهم. البيوت «الحلوة» التي يقول المهجرون إنها كانت لهم قبل عام 1976 لا أثر لها في «الكرنتينا». إذ يبدو متجر «سليب كومفورت» لبيع المفروشات غريباً في منطقة لم تغادرها رائحة الحرب وصورها. فالمباني القليلة المأهولة متناثرة في القسم الغربي من المنطقة بعيداً من الثكنة، ولا تزال آثار الرصاص تغطي جدرانها الخارجية، فيما مساحات واسعة من الأرض البور يكسوها العشب بعد تدمير ما كان عليها. وفي القسم الشرقي، خلف مركز «فوروم دي بيروت» تقع ثكنة الجيش اللبناني التي حلّت أوائل التسعينات مكان مجلس حربي كان شيّد بدوره على أنقاض بيوت المهجرين فور إخراجهم منها في عام 1976. أطلال وإنكار ثمّة من ينكر حتى اليوم أن تلك البيوت كانت موجودة يوماً. أما قيادة الجيش، فلم ترد على أول رسالة إلكترونية طلبنا فيها السماح لنا بزيارة المنطقة ومقابلة مصدر عسكري لحسم الجدل الدائر حول القضية. القيادة رفضت الطلب عبر الهاتف على كتاب ثانٍ تقدمنا به بعد ثمانية أيام (في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2012) من تقديم الكتاب الأول للغاية نفسها. غير أن عميداً متقاعداً في الجيش اللبناني - طلب عدم ذكر اسمه وقال إن خدمته سبقت اندلاع الحرب في الكرنتينا - يؤكد أن لا مجال لنقل الثكنة من مكانها القريب من المرفأ. ف «بيروت مكتظة ولا مساحات غير مأهولة يمكن نقل الثكنة إليها. كما أن كل بقعة أرض يوجد فيها الجيش من الصعب تركها، خصوصاً في ظل الوضع الأمني المتوتر حالياً». لكن، هل يبرر الوضع الأمني استمرار بقاء الجيش في المنطقة لأكثر من 23 عاماً؟ يستند المصدر إلى «القانون العام الذي يعطي الدولة حق مصادرة أراض واستخدامها للضرورات العسكرية. هذا القانون يبيح لنا مصادرة بيوت ويمكن أن نعوّض أصحابها». السؤال عن الضرر الواقع على المهجرين من المنطقة والذين يعيشون ظروفاً صعبة على رغم أنهم من المالكين، يبدو غريباً على المصدر العسكري. فيعيد ترديد الرواية عن بيوت التنك، قائلاً: «الكرنتينا كانت عبارة عن مجموعة من بيوت التنك، والخيم التي أوى إليها لاجئون من جنسيات مختلفة». كلام العميد ينفيه المهجرون. كما ينكره وزير الداخلية السابق بشارة مرهج (1992) الذي يؤكد أن المنطقة كانت مأهولة. وتحسم الجدل هنا صور قليلة نجت من بين الأنقاض تظهر جانباً من الحياة في المنطقة. فتبدو بيوت من طبقتين وأكثر، وطرق معبدة وسيارات. ولا يبدو من أثر لبيوت التنك التي تروج لها الرواية الشائعة. المهجرون يقولون إنها كانت موجودة بالفعل، لكن ليس في منطقتهم، بل في الأحياء المجاورة، حيث أقيمت مخيمات للأرمن المهجرين مطلع القرن الماضي ولفلسطينيين لجأوا إلى لبنان بعد النكبة وما تلاها ولسوريين كانوا يعملون في لبنان وغادروه خلال الحرب. هذه المعلومات لا يجد الضابط رداً عليها سوى القول: «ربما اختلط علي المكان». صكوك دامغة وإضافة إلى الصور، تؤكد صكوك ملكية وأرقام حوالى 220 عقاراً وأسماء مالكيها حصلت «الحياة» عليها، أن بيوتاً من طبقات عدة كانت تقام على هذه الأرض وأن مالكيها لبنانيون أصيلون. يقول أحد المهجرين من آل دياب - في السبعينات من عمره ويملك أحد العقارات التي أقيمت عليها الثكنة - إن «الجيش وضع يده على العقارات قبل أكثر من 20 سنة، أي منذ خروج «القوات اللبنانية» التي دخلت المنطقة بعد «الكتائب». ويضيف: «في ذلك الوقت استبشرنا خيراً، وقلنا إن حقنا سيعود إلينا، لكن لم يحصل شيء. أصل المشكلة هي وجودنا قرب المرفأ، حيث تسعى شركات كثيرة إلى تملك الأراضي القريبة منه في سياق خطة لتوسعته»، على ما يوضح. تقاضٍ معلّق المحامي فؤاد مطر يقول إن التهجير طاول في الأساس 220 عقاراً يملكها حوالى ستة آلاف لبناني من طوائف مختلفة. بعد انتهاء الحرب أي في أوائل التسعينات عادت 40 عائلة (حوالى 200 شخص) معظمهم من المسيحيين إلى عقاراتهم التي يتركز معظمها في الجزء الغربي من المنطقة، والتي لم تهدم خلال الحرب. القسم الشرقي كاملاً مملوك لأشخاص من الطائفة السنيّة ويضم حوالى 132 عقاراً إضافة إلى عقارات تملكها البلدية منها مرأب ومستوصف. هذا القسم يمنع العودة إليه أو التصرف به بعد هدم كل ما كان قائماً عليه. ما الذي يمنع الأهالي من العودة؟ يرى المحامي مطر أن مسؤولين وعدوا بإعادة هؤلاء. على أن وضع الجيش في الواجهة وعدم رغبة الأهالي في وضع أنفسهم في مواجهة مع الجيش منعت المهجرين من تصعيد تحركاتهم. ويقول: «في 1993 وبعد خروج «القوات» دخل الجيش إلى المنطقة، وأقام فوج التدخل الثالث في الثكنة التي حلّت مكان المجلس الحربي». وفي العام التالي صدر القرار 322 عن مجلس الوزراء، والذي سمح بإعادة ترميم أملاك المهجرين في القرى والبلدات دون المدن، أي أنه استثنى بيروت، ومهجري الكرنتينا تحديداً. كما أنه لم يشمل إعفاء المهجرين في المدن من الضرائب والرسوم المفروضة على إعادة بناء منازلهم المهدمة. يرى المحامي أن القرار ألزم مهجري المدن وحدهم بدفع ضرائب ورسوم عن السنوات السابقة وبالتقدم بطلبات رخص الإعمار. وهذا يعتبره المحامي «محاولة لإبعاد الأهالي، فالعقار الذي كان يملكه شخص صار يملكه الآن أكثر من عشرة (بعد زيادة أعداد الورثة على امتداد 40 سنة) وبالتالي الضرائب المتراكمة على الفترة قد تفوق قيمة عائدات كل فرد من العقار». ويتحدث عن مطالبات بإخلاء الأراضي، دعمها مرسوم صدر في عام 1996 عن مجلس الوزراء ويقضي بإخلاء المنطقة من أي وجود قائم. لم تتمكن معدة التقرير من الحصول على نسخة من المرسوم. وعود بالإخلاء أرسلت لجنة مهجري الكرنتينا مذكرات للجيش بعد عام 1990. وأجاب عليها بتاريخ 4/ 7/ 2009 (نص الرد بين المستندات المرفقة بالتحقيق) بإمضاء قائد الجيش العماد جان قهوجي: «اتخذت القيادة الإجراءات اللازمة للمباشرة بإقامة ثكنة جديدة لمصلحة القطعة التي تشغل هذه العقارات وسيصار إلى إخلائها فور إنجاز هذه الثكنة». لكن العودة لم تحصل إلى الآن. لجنة مالكي ومهجري المدور وهو اسم المنطقة عقارياً، بصدد تقديم دعوى قضائية بإخلاء الجيش، وتحصيل تعويضات، وفق ما يؤكد المحامي مطر مستنداً إلى مجموعة من الملفات الجاهزة مع مستنداتها. المحامي حسن مطر رئيس لجنة مهجري الكرنتينا، يعرض الرسائل التي وجهتها لجنة مهجري الكرنتينا الى المسؤولين من رؤساء الحكومات أو وزراء المهجرين أو قيادة الجيش على امتداد السنوات التي تلت انتهاء الحرب منذ عام 1990 حتى اليوم، وإلى قيادة الجيش والردود التي جاءت من القيادة. ويقول: «أول رسالة من قائد الجيش جان قهوجي قال فيها إن الجيش سيخلي المكان، وإنهم بصدد بناء ثكنة خلال سنة». مرت ثلاث سنوات ولم يحصل شيء. أواخر 2011 اتصلوا بي من وزارة الدفاع وطلبوا أن أذهب إلى قيادة الجيش، فاعتقدت بداية أنهم يريدون الاتفاق معنا على ترتيبات الخروج. ذهبت إلى مكان قرب المحكمة العسكرية حيث سلمني عميد في الجيش رسالة، وكان ما فيها خطيراً: «نعلمكم أننا لا نستطيع الخروج من المنطقة إلا بعد إزالة الأسباب التي من أجلها دخلنا». وما هي تلك الأسباب. يجيب مطر: «قبل هذه الرسالة كنا التقينا وزير المهجرين أكرم شهيب (عيّن عام 2009)، وكنا كلما أتوا بوزير للمهجرين التقيناه لنعرض قضيتنا. غير أن وزراء المهجرين دائماً يتنصلون بحجة الأوضاع وأن فترة ولايتهم ستنتهي قبل حل القضية. الوزير شهيب التقى قائد الجيش ونقل عنه أن «الأسباب الأمنية المتعلقة بحماية المدخل الشرقي لبيروت تمنعهم من إخلاء الأرض». يقول مطر إن الحجة التي تساق دائماً «أنهم يريدون الحفاظ على أمن بيروت». لكنّه يتساءل: «هل أمن بيروت يقف عند حد منطقة الكرنتنيا؟ هذا ليس صحيحاً، الحقيقة أنه ممنوع أن يعود أهل المنطقة إليها». نقل الثكنة ليس مستحيلاً عن خيار بيع الأراضي للجيش يقول الوزير مرهج إن الجيش في العادة لا يستملك، لكن إذا كان بالفعل المركز استراتيجياً يمكن وزارة الدفاع أن تطلب استملاك الأرض فيتخذ مجلس الوزراء القرار، وتنفذه المالية. يرفض مرهج القول إن الجيش لا يمتلك مكاناً آخر لنقل الثكنة: «فعندما نقول إن هناك سبباً أمنياً من دون أن نربطه بمهلة زمنية ومن دون قرار من مجلس الوزراء لا يعود الإجراء قانونياً، بل حكماً عرفياً. فمن يشرع ويقول إن الوضع أمني؟ لا يكفي أن تقول قيادة الجيش وحدها ذلك. وحتى لو قالت ذلك على مجلس الوزراء أن يعوض على الناس». غير أن ما يحول دون ذلك هو وفق مرهج «أساساً، الأهواء الطائفية التي تلعب دوراً في تعقيد المشكلة، وتضع عراقيل في وجه الحل. هناك أسباب طائفية غير معلنة - على اعتبار أن المهجرين مسلمون والمنطقة ذات غالبية مسيحية ويقع فيها مقر الرابطة المارونية - ويلي هذه الأسباب أن الدولة مرتبكة بالنسبة إلى التخطيط للمنطقة، سواء بالنسبة إلى ضمها إلى مشروع لينور (مشروع اقتصادي يقضي في جانب منه بردم شاطئ البحر في مناطق عدة)، أو بالنسبة إلى توسعة المرفأ ليشملها». وهذا أرخى بثقله على المنطقة التي وضعت تحت إشارة «قيد الدرس، ما عطّل الحركة والإنشاءات، والإجراءات الإدارية العادية فيها. كما أن هناك قانوناً صدر عام 1994 ورقمه 244 أعطى المهجر الحق في إعادة بناء منزله، من دون أن يتكبد مصاريف الرخصة أو تصاريح البناء، واستثنيت هذه المنطقة. وهذا كان ضد المهجرين من هذه المنطقة، ولم يطبق على سواهم»، على ما يضيف. ويؤكد أن «أهل المنطقة لبنانيون أباً عن جد. والعقارات (التي تقوم عليها الثكنة) البعض منها حر، والبعض الآخر عليه وضع اليد، وبعضها غير قابل للتصرف بسبب الإجراءات. جملة هذه التعقيدات هي التي تجعل الوضع هناك قيد الدرس وقيد التعطيل وقيد الظلم، هناك حجز للملكية وحجز لحرية التصرف بها». ويحمل مرهج الدولة ممثلة بمجلس الوزراء مجتمعاً المسؤولية الكبرى لأنها «جمّدت العقارات بحجة الدرس، وهي لم تباشر بعد بالدرس». ولا يرى أي أفق لحل القضية في المدى المنظور، ف «المشكلة كبرت والحل يحتاج إلى جرأة». بعيداً من كل هذا الجدل القانوني، هناك .. في غرفة صغيرة في ال «سان سيمون»، يجتمع شمل عائلة الحاجة سامية وأهلها خلال الزيارات العائلية. تستعيد الشقيقات الثلاث ذكريات ما قبل التهجير، وتحضر كبيرتهم صندوقاً خشبياً فيه صور للعائلة والأقرباء. تستحضر الصور لسامية ذكريات سعيدة، فتستعين بما يظهر فيها وتروي فتتورّد وجتناها من جديد: «كان الشبان يجتمعون عصراً على المفارق، كان رياض يملك محلاً للتسلية «فليبرز». كان يمر من أمام بيتي قبل توجهه إلى المحل فأعرفه من عطره. كانت أيام ال «تاباك» و «غلامور» و «راماج». بعد زواجنا، كنا ننتظر حتى إقفال المحل منتصف الليل، لنذهب مشاوير إلى جونيه، حيث كان محل شهير لبيع البوظة. كان بيتنا جميلاً وجديداً، إذ لم يكن مضى على زواجنا إلا سنة ونصف السنة قبل التهجير. ومحمد كانت له غرفة نوم منفصلة فيها ملابسه التي حيكت كلها يدوياً، وصندوق مجوهرات ممتلئ، فهو كان الحفيد الأول والكل يحبه. تركنا كل شيء ولم نعلم أننا لن نعود، تركنا كل مصاغنا وأموالنا، وراحت كلها. عزلة تحت الدرج تحت الدرج المؤدي إلى مبنى قديم في تلة الخياط في بيروت، ممر صغير يؤدي إلى غرفة لا تزيد مساحتها عن 25 متراً مربعاً. الغرفة تنخفض متراً عن مستوى الشارع، ويشكل الشبّاك الصغير مصدراً وحيداً للنور والهواء. في الداخل تتوزع ثلاث كنبات هي كل الأثاث. وعلى الحائط توجد خزانة كبيرة وبجانبها ثلاجة. أما المطبخ والحمام، فيقعان في جانب من الممر، اقتطعته العائلة بعيد التهجير على أن يكون موقتاً... لكنه بات دائماً. إلى هذه الغرفة لجأت عائلة رياض دياب بعد أيام على تهجيرها من الكرنتينا عام 1976. الحاج رياض، أب لشابين وفتاة. محمد ولد في الكرنتينا، والثانية رانيا ولدت غداة يوم التهجير والثالث عماد ولد في تلة الخياط. «هذه الكنبات تتحول ليلاً إلى أسرّة نتقاسمها جميعاً»، على ما تقول ربة المنزل. الحياة في «الغرفة» لا تغري الحاجّة بالحديث عنها. ف «وضعنا الآن لا يقارن بالسابق، عندما كان الأبناء في المدارس ويحتاج كل منهم إلى مساحته الخاصة للدرس واللعب. اليوم بتنا ثلاثة فقط بعد زواج رانيا وعماد». لكن ما يغري الحاجّة للحديث هو «زمن الكرنتينا». هنا فقط تتبدل نبرة صوتها وفق التفاصيل التي ترويها، ويغوص حتى يكاد يختفي مع وصول الرواية إلى يوم التهجير. لكن قبل ذلك اليوم، كيف كانت الحياة في الكرنتينا؟ «كان وضعنا جيداً جداً. كان لدينا ما نريده، وكان إخوتي يبدلون السيارات سنوياً. وفتيات الكرنتينا كن يلبسن الفساتين كما سعاد حسني ويتبارين بمهارة الخياطة. ويقاطعها زوجها بالقول: «كنا قريبين من ساحة البرج وسوق الطويلة وسوق إياس (وسط بيروت). نسير عصراً إلى الأسواق. الناس كانت مبسوطة. كانت أياماً جميلة. بيوتنا حلوة وكنّا من الملاّكين». شبكة بيع أراضٍ «لم يسمحوا لنا مرة واحدة بزيارة أرضنا»، يقول الحاج رياض أحد المهجرين. ابنه عماد أمضى فترة خلال خدمته العسكرية في ثكنة الكرنتينا. يروي الحاج بأسى: «وعندما ذهبت لزيارته لم يسمحوا لي بالدخول، فقابلته في الخارج، مع أن الأرض أرضي وابني يخدم فيها. عماد قال للعسكريين الذين معه حينها: «أنتم جميعاً في أرضي». فنظر اليه الضابط مستغرباً، فقلت للضابط: «هنا بيتي، تماماً حيث هذه الشجرة». الحديث عن الكرنتينا يبدو موجعاً للعائلة، لكن «ما زلنا عايشين. أملك أرضاً يساوي سعر المتر المربع فيها أكثر من أربعة الآف دولار (المحامي يقول إن المضاربة العقارية قد ترفع سعر المتر إلى 10 آلاف)، بينما نعيش في غرفة تحت الأرض». ويتحدث عن تعويضات رمزية تلقاها الأهالي من الدولة عن الضرر الناجم عن هدم الأبنية: «20 ألف دولار على كل طبقة هدمت لا تعادل قيمتها الأملاك والمقتنيات والسيارات التي سرقت». يبدي رياض مخاوفه من سماسرة يأتون بين حين وآخر للطلب إلى الأهالي بيع أراضيهم بأقل من ثلاثة الآف دولار للمتر الواحد، وأحياناً بنحو ألفي دولار. ويقول: «هناك شبكة تستغل الناس، واعتقد أن عدم اعطائنا حقنا هدفه دفعنا إلى اليأس لبيع أرضنا برخص التراب. وأنا أعرف أصلاً أربعة مهجرين باع ورثتهم الأرض بمبالغ زهيدة بسبب حاجتهم المادية». هذه الشبكة يتحدث عنها أيضاً المحامي فؤاد مطر: «يبدو أن مشروعاً أعد منذ وقت، ويقضي بعدم عودتنا لأسباب طائفية إلى بوابة بيروت الشمالية لتبقى سوليدير مرتاحة وتكون امتداداً لمشروع مستقبلي تجاري لسوليدير لأنها قريبة من الحوض الخامس الذي هو مهم جداً على الصعيد السياحي لأهميته البحرية». أما ما الذي استند عليه ليقول ذلك؟ فيجيب: «تلقينا عروضاً كثيرة للبيع عبر سماسرة، رغم وجود الثكنة، لكن قضيتنا مثل قضية الشعب الفلسطيني، حق العودة». من يعرض؟ يجيب المحامي: «حاول الرئيس رفيق الحريري في التسعينيات، ولم ينجح. آنذاك عرضنا قضيتنا على الحكومة، وقلنا إن أصحاب الأرض بيروتيون وينتخبون في الدائرة الأولى، أي حاولنا استغلالها انتخابياً، فأحلونا إلى لجنة مكلفة من مجلس الوزراء لدرس الأمر، وفي إحدى المرات نصحني احدهم: «لا تحلموا بالعودة. هناك مشاريع تنتظر هذه الأرض. وربما كان محقاً». يشير على الخارطة إلى قطعة ارض محاذية للثكنة، ويقول: «كانت تقع ضمن سور الثكنة قبل بيعها (ما يمنع على صاحبها التصرف بها)، لكنه جرى تغيير مكان السوار لتتم عملية البيع». ويتابع: «كانت الأرض لناس من بيت البدوي. باعوا بسبب الظلم الذي صار له 40 سنة، وبسبب تردي أحوالهم المادية والصحية، وتزايد أعداد الورثة». حاولنا التأكد من هذه المعلومات من قيادة الجيش، لكن طلبنا قوبل بالرفض. * أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة «أريج » وإشراف الزميلة بيسان الشيخ.