تصطاد مسرحية «بيروت، طريق الجديدة» من المجتمع الشعبيّ البيروتيّ أكثر ملامحه تناقضاً وإضحاكاً، فيُركّب كاتب العمل ومخرجه الشاعر يحيى جابر، شخصيةً نهائية واحدة من شخصيات عدّة، فكأن كلّ القصص التي جمعها في عرضه التهكّميّ هي حالة عامة تنطبق على شخصيات هذا المكان البيروتي، طريق الجديدة، كما لو أنها شخص واحد يعيش وفق مفاهيمه الذاتية التي قد لا تناسب العصر، مفاهيم محلّية وفيها صفات العربي الطيب النادر. يؤدّي الصحافي زياد عيتاني (على خشبة ميترو المدينة) هذه الأدوار المتقلبة، مستخدماً طريقة استعراضية في الحكاية. إنه الحكواتي والراوي وأنا الشخصية ومونولوجها الداخليّ... يبدأ عرضه بإدخال الجمهور في أجواء رمضان، وكيف تَنتزع الشخصية الشعبية في طريق الجديدة، كما كلّ الشخصيات الشعبية، من الأحداث والمناسبات الاجتماعية كرنفالها الاحتفاليّ الخاص، فالأكل يغدو مُضاعفاً وقت الإفطار في هذا الشهر الكريم. تسرد مسرحية «بيروت، طريق الجديدة» (مدة العرض ساعتان) صفات المجتمع الشعبي البيروتي، الذي يدّعي أن أصوله مرتبطة بعائلات بيروت السبع، وأنّ عائلاته لا بدّ أن تكون من العائلات المؤسسة لمدنيّة العاصمة. يقع العمل المسرحي في فصلين، وهو ذكريات جابر القديمة عن هذا المكان، ذكريات قد تكون عادية في أطراف المدن، أو أجزائها البعيدة قليلاً. ويُخصّص الكاتب الفصل الأول للحديث عن التصرفات الشعبية تجاه الحياة، والمأكل والمشرب، والتعامل مع الأطفال والزواج، بينما يجنح في الفصل الثاني إلى الحديث عن المناخ الفكري والسياسي المؤثر في شكل المكان البيروتي، وفي تركيبته العقلية المفاهيمية، يعالج هذا كلّه بأسلوب تبسيطي يعتمد على الإضحاك والمفارقات الهزلية. ويبدو أنّ منطقة طريق الجديدة شهدت، كما مدينة بيروت كلها، تقلباتها الاجتماعية التي تعادل التقلبات السياسية التي طرأت على المدينة. ويعود المخرج جابر إلى تواريخ أثّرت في مناخ المكان وفي شخصياته، كالميول الناصرية، التي اتّضحت يوم وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ويستذكر الأغنيات التي رُدِّدت في وداعه، كما يستعيد طريقة البيارتة الخاصة في الاحتفال بشخصيات سياسية مرّت على المدينة، كشخصية الرئيس الفلسطيني أبي عمار. إنها حالة دائمة من الصراع الممتع بين الشيء ونقيضه لدى الشخصية الشعبية، تماماً كما أصبح فريقا «الأنصار» و «النجمة» لكرة القدم مجالاً للاختلاف والاتفاق لدى الجمهور الشعبي الواسع، وقد يكون أحد أشكال الشحن الذي توفره هذه الفرق هو الشحن المذهبي. عانى العمل من التطويل في بعض مفاصله دونما ضرورة، في إعادة قصص متشابهة بعضَها بعضاً، إلا أنه غاص في واقعية المكان، وكأنما الشخصيات التي استُحضرت على الخشبة تتحرك في مكانها حقيقةً، كشخصية خليل الحلاق، وباكزة وجميلة الداعوق... إنها شخصيات عاشت أيضاً لحظات قومية كبيرة، كما في يوم تحرير جنوب لبنان، أو في أيلول (سبتمبر) من عام 1982، يوم اجتياح بيروت. يتذكر الممثل عيتاني الأصوات التي تدل على قومية كبرى، هي لبنان، كما يتذكر الشهداء، شهداء المكان البيروتي واللبناني. كيف يتعامل الإنسان البيروتي البسيط مع أحداث عاشها، أحداث هائلة مرت على مدينته؟ لا بد من أنه، على رغم اندهاشه الكبير وخوفه الآنيّ والدائم، قد خبر الحرب في مدينته إلى درجة من التبسيط والفكاهة المُرّة أحياناً. يعيد الممثل عيتاني وقع الشخصيات المتعددة من حوله، مع تحريكه إكسسواراً متواضعاً من بعض الأقمشة، إنه يستعمل يديه للدلالة التعبيرية، ولتقليص المساحات الصعبة في التخييل على الجمهور. يرمز العمل إلى أحداث واقعية من أيام المقاومة الفدائية، فجنازة الشهيد خليل (الجمل) مرت ببيروت كلها، وكان غسان تويني كتب عنه في جريدة النهار اللبنانية كأول شهيد مع المقاومة وقف ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكان من مدينة بيروت. ويتطرّق العرض المسرحي أيضاً إلى ردّ فعل «البيارتة» على أحداث أخرى، كمقتل الشهيد رفيق الحريري، وعلى مجريات حرب تموز في العام 2006. «طريق الجديدة»، المكان الذي يبدو غريباً أو مجهولاً بالنسبة إلى بعضهم، اكتشفه المخرج جابر بكل ما فيه من طاقة إنسانية، ومن حب وحياة. إنه المكان الرحب للنكت والأحزان والرغبات، يقبع في مكان ما منه الزمن الأجمل، وفيه غياب لأهله في بعض الأحيان، كما يقول العمل في مشهده الأخير، إنه جزء من لبنان كله، لبنان الجميل والبسيط والمدهش.