اجعلها على حِجاجك الأيسر أو نُصب عينيك فلا تزيغُ وتتوه بين مسالك غاباتٍ موغلة، أو في صحراء فاغرةٍ، تتكالب عليك عندها أضياف الهوام وأوهام الضياع، وتلمعُ أنيابٌ في ضُحى نهارٍ مُتقدٍ بين صور الآلِ ورسمات السرابِ، الذي يحمل غيثاً في جعبتهِ بقدر ما يحمله من بؤسٍ وجفاف. لم يعتقد من قال «اجعلها على حجاجك» أنها يوما ستحتجبُ وتهجر وتُهاجر، تحتجبُ بأسمالِ النأي، وتهجر أسمارَ التفَكُّه، وتهاجر عن عرصاتٍ كانت لها سماء. تجدُ لبعض من يكتب ويُملي الحرف وجهةً أرادها باختياره، لها هدفٌ لا يقوى على تحقيقه إلا بعلامات وإشاراتٍ تُنبههُ إن مال عن الطريق وغفل عن الهدف، أو اغتر بتلك الذات البشرية المتهافتة أو استقبح منها ما لا يُستقبح في العادةِ، أو أبان عن شيءٍ مكروه بزلة قلمٍ ساهي العقل ذاهب القلب. ولستُ عن صحبي بمعزل، وما تحدثت إلا عن نفسي وحالي، ولكن الأيام إنما هي ثياب تُلبسُ وتُخلع، وما هي في تغير طبيعتها وتقلبِ أحوالها إلا لأنها تُلبسُ وتُخلع. بالأمسِ كنتُ بدليلي دالاً للطريق، وكان به الطريقُ لاحباً حَسنَ الدلِّ والدلال، أما اليوم فدليلي أفَل، ومُعيني توارى وذهب، بوصلتي مادت، هاجت وجاشت، وما كان من شِمالي أن أضيع شمالي. لقد طواكَ الليل ولفكَ بكل ثقل الظلام. أبعد عني القدر من كنت أرى نفسي تتوازن به على ميزان حُكمهِ، وعدالة نقده بكل منطق الوفي الصاحب والمُحب المُخلص والقاضي العادل. كنتُ كلما وجدتُ نفسي أكثر ضياعا وجدتُ نُصحه أكثر بياضا. في اللحظة التي كنتُ أعتقد أن عليَّ أن أموت فيها كان هو كل ترياق الحياة. لطالما أرحتُ قلمي عن البناء بعد التشييد لآخذ بتلابيب نُصحه وبمقبض سكين نقده فأُعمل تشييدا بعد التشييد. فتغدو كلماته كملكات جمالٍ مجردات من البهاء الدنيوي، ما إن يقعن على شيءٍ حتى يُصبح أكثر رقة وألقاً، يفوح منه عبق الورد. رحل بعد أن كان لي قبل ارتحاله إبرة الشمال، لقد كذبتُ، إنما هي من كنتُ أجعلها على حجاجي الأيسر أو نصب عيني من غير أن تتزحزح قيد أُنملة.